فلسطين:

كيف تمهّد وصايا الأم و”البارودة” للنضال الفردي في فلسطين؟

يصنع الفلسطينيون في عملياتهم الفردية طريقاً جديداً من النضال، كان بارزاً في وصاياهم العفوية، والتي لم يتبنَّ فيها أحد عملياتهم، وإنما كانت وليدة إيمانهم وحبهم لفلسطين.

2023-02-25

“لا تتركوا البارودة”. لا شيء في وصايا الفدائيين الفلسطينيين يشي بخروجهم عن مألوف الاندراج في الالتزام، جماعيّاً وتنظيمياً. غير أن ما يلي هذه العمليات من مباركات، من جانب الفصائل الفلسطينية، وعدم تبني أيّ منهم لهذه العمليات، يؤكدان الدافع الفردي لها، على اختلاف أدوات القتال. الدافع تغذيه فكرة. والفكرة هنا تكمن في الجهاد المدفوع بالدم.

الحصار، الذي تحدث عنه فلسطينيون فدائيون ومقاومون في وصاياهم الأخيرة، لم يكن مأخوذاً في بيانات رسمية، ولا صوتيات مسجلة مسبقاً، وإنما كان وليد اللحظات الأخيرة. أصوات مستعجلة لكنها تصيب. كانوا يعرفون جيداً أمكنتهم، ولا يخرجون قبل أن تسبقهم إلى ذلك دماؤهم. ومعرفة المكان ليست عابرة في سياق السردية الفلسطينية، لأنها الدافع الأول ليخرج شاب من كل بيت من بيوت الضفة، ويحمل بندقيته كمهنة لعامل عاديّ، ويحمي مكانه.

“منذ أعوام مضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها. لطالما حيرتني تلك الوصايا: مختصرة، وسريعة، ومختزلة، وفاقدة للبلاغة”، كما وصفها الشهيد باسل الأعرج. هكذا جاءت وصية الشهيد إبراهيم النابلسي، واضحة مباشرة: “لا تتركوا البارودة”، ثم ردّدها شهداء بعده، آخرهم حسام اسليم ومحمد الجنيدي، وقبلهما الشهيد عدي التميمي، الذي كتب وصيّته على عجل، وقال إنّ عمليته لن تحرّر فلسطين، لكنّ أمله أن “تُحرك العملية مئات الشبّان ليحملوا البندقية بعدي”.

الهمّ الفردي، الذي يدفع شبّاناً في مقتبل العمر إلى أن يدعوا أمة بأكملها بألا يراهنوا إلا على الدم والقتال، ليس مصحوباً إلا بالبناء الذاتي الذي يصنعه كل شخص منهم في حياته. بالعلم أو الجهاد أو حتى التنشئة، حيث حضرت الأم في التحايا الأخيرة، إلى جانب وصايا رفقة “البارودة”. كأن تلازم الولادة والقتال ليسا إلا قدراً من أقدار البلاد.

شهد عام 2022 وبداية عام 2023 زيادة مطّردة في عدد العمليات ضد المستوطنين وجنود الاحتلال، بواقع نحو 2000 عملية بين القدس والضفة الغربية المحتلتين. وعلى الرغم من التحولات الكبيرة، التي شهدتها منظومة المقاومة خلال الأعوام الأخيرة، فإنها لم تُلغِ أدوات القتال المدرّجة في شريط ممتد من ذاكرة النكبة حتى اليوم، عبر النضال بالحجارة وإشعال الإطارات وقذف الزجاجات الحارقة، لتتطور بعد ذلك إلى عمليات الدعس والطعن وإطلاق النار.

ثم بدا أن المقاومة الفردية دخلت طوراً من التنظيم، عبر إعلان إنشاء كتائب نابلس وجنين، ثم مجموعة عرين الأسود، في شهر أيلول/سبتمبر، بصفتها التطور الأبرز لظاهرة المقاومة الفردية، والتي قدمت نموذجاً جديداً بارزاً للمقاومين الفرديين. وقد تكون ثقافة المقاومة في الضفة الغربية تأثرت بمشهدية العدوان المتكرر على قطاع غزة.

“أنا بحب إمي”، “ديروا بالكم ع الوطن”، “لا تتركوا البارودة”، كما أوصى النابلسي. فكيف تكون هذه الملاحم “فاقدة للبلاغة”، في حين أنها تمهّد في كل يوم لاشتعال جديد يؤرّق الاحتلال. لقد صنعت هذه الوصايا معادلات أوضح للقتال الفردي، تُدخل العاطفة في مكانها، ضمن معادلات جديدة لم تنبثق، بحرفيتها، في بيانات المقاومة الفلسطينية المنظمة. معادلة الأم والوطن والبارودة، مهما حاول “جيش” الاحتلال تبديدها، فإنها ولّادة.

يصنع كل مقاوم في هذه المعادلة فكرته، وحتى لو تشابهت النهايات بالشهادة، غير أن الطريق إليها كان مُطوَّباً بفكرته الشخصية، وباسمه الذي لن يتكرر. ولكل اسم من أسمائهم احتمال جديد للحرية، لأن فلسطين أسماءهم.

الميادين