مواجهة بين السلطة التنفيذية ومراكز إنتاج المعرفة

ترامب والجامعات الأمريكية.. معركة إعادة تشكيل العقل الأكاديمي

تقف الجامعات الأمريكية أمام اختبار تاريخي، فإما أن تدافع عن استقلالها وتثبت أنها قادرة على مقاومة الضغوط أو أن ترضخ وتفتح الباب أمام عهد جديد من الرقابة السياسية على العقل الأكاديمي

 منذ عودته إلى البيت الأبيض، يخوض دونالد ترامب معركة غير مسبوقة ضد الجامعات الأميركية، متسلحًا بسلاح التمويل الفدرالي، ومستخدمًا تهمة «معاداة السامية» كورقة ضغط لإعادة تشكيل الثقافة الأكاديمية.هذه الحرب لا تتعلق فقط بالاحتجاجات المؤيدة لفلسطين، بل تمتد إلى محاولة فرض تعريفات جديدة للحرية، وتقييد التنوع، وإعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمؤسسات التعليمية. إنها مواجهة بين السلطة التنفيذية ومراكز إنتاج المعرفة، وبين خطاب شعبوي يسعى إلى السيطرة على العقل الأكاديمي، ومؤسسات ترى في الاستقلالية شرطًا للابتكار والتقدم.

 

إن ما نشهده اليوم هو اختبار حقيقي للديمقراطية الأميركية، ولقدرة مؤسساتها على مقاومة التسييس والابتزاز المالي. فهل تنجح الجامعات في الدفاع عن استقلالها؟ أم أن أميركا تدخل عصرًا جديدًا من الرقابة الفكرية المقنّعة؟

 

من الاحتجاجات إلى الأوامر التنفيذية

 

في أعقاب احتجاجات طلابية واسعة ضد الحرب على غزة، بدأت إدارة ترامب بإصدار أوامر تنفيذية صارمة، أبرزها الأمر التنفيذي الصادر في يناير/ كانون الثاني 2025، الذي ألزم الوكالات الفدرالية باتخاذ إجراءات فورية ضد ما وصفه بـ«انفجار معاداة السامية في الجامعات والشوارع الأميركية». هذا الأمر لم يكن مجرد إعلان سياسي، بل أطلق سلسلة من التحقيقات، وفتح الباب أمام ترحيل طلاب أجانب، وتجميد مليارات الدولارات من التمويل البحثي.

 

فريق القمع الأكاديمي.. البيروقراطية الجديدة

 

ما لا يعرفه كثيرون هو أن إدارة ترامب شكّلت ما يُعرف بـ«فريق مكافحة معاداة السامية»، وهو مجموعة من البيروقراطيين غير المعلنين، يجتمعون أسبوعيًا داخل الوكالات الفدرالية، ويقومون بمراجعة سياسات الجامعات، وتحليل المناهج، وتقديم توصيات مباشرة للرئيس. يقود هذا الفريق محامي الحقوق المدنية ليو تيريل، ويضم شخصيات مثل شون كيفيني من وزارة الصحة، وتوم ويلر من وزارة التعليم، وجوش جرونباوم من إدارة الخدمات العامة. هؤلاء لا يكتفون بمراجعة التمويل، بل يطالبون الجامعات بتعديل مناهجها، وتغيير سياسات القبول، وتقديم بيانات مفصلة عن الطلاب الدوليين.

 

هارفارد وكولومبيا.. نموذجان متناقضان

 

جامعة كولومبيا رضخت للضغوط، ووقّعت اتفاقًا مع إدارة ترامب يقضي بدفع 221 مليون دولار، وتعديل سياساتها الأكاديمية، بما في ذلك مراجعة منهج الشرق الأوسط، وتعيين هيئة تدريس جديدة في الدراسات الصهيونية. أمّا جامعة هارفارد، فقد اختارت المواجهة، ورفعت دعوى قضائية ضد الحكومة، متهمةً إياها بانتهاك التعديل الأول للدستور، واستخدام التمويل كأداة سياسية. وقد تم تجميد أكثر من 2.2 مليار دولار من التمويل الفدرالي لهارفارد، وسط تهديدات بإلغاء إعفائها الضريبي، ومنعها من استقبال الطلاب الدوليين.

 

بالنسبة للاتفاق بين إدارة ترامب وجامعة كولومبيا وهو الأول من نوعه بين إدارة رئاسية وجامعة، وما لاقاه من هواجس في الأوساط الطالبية خصوصاً، يرى ناشطون حقوقيين، فإنّ الأكيد أنّ الاتفاق يعكس نمطاً متكرّراً من قمع الأصوات الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني داخل عدد من الجامعات الأميركية، الواقعة تحت ضغوط البيت الأبيض وجماعات «اللوبي الصهيوني»، وذلك تحت ذريعة «الحفاظ على النظام». ومن منظور هؤلاء، فإنّ الخشية من أن تكون جامعات مثل «براون»، في ولاية رود آيلاند، على وقع تلويح الحكومة الفدرالية بوقف أكثر من 500 مليون دولار من المخصّصات المالية العائدة لها.

 

مواجهة متجددة بين الجمهوريين والديمقراطيين

 

تشهد الساحة السياسية الأميركية تصعيداً جديداً في ما يوصف بـ«الحرب على الأكاديميا»، إذ يتجدد الاشتباك بين الجمهوريين والديمقراطيين حول دور الجامعات في تأجيج أو مكافحة خطاب الكراهية وفق إدعائهم ، ولا سيما ما يتعلق بمعاداة السامية.

 

ففي سابقة لافتة، عقدت «لجنة التعليم والقوى العاملة» في مجلس النواب الأميركي جلسة استمرت ثلاث ساعات، خُصصت لاستجواب ثلاثة من كبار مسؤولي الجامعات الأميركية، بشأن مدى جدية سياسات مؤسساتهم في حماية الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية اليهود من التمييز أو العنف اللفظي، وهم رؤساء جامعات جورجتاون ونيويويرك وجامعة كاليفورنيا في بيركلي.

 

الجمهوريون، وعلى رأسهم النائب بيرجيس أوينز من ولاية يوتا، وجهوا انتقادات شديدة لمسؤولي الجامعات، واتهموهم بالتقصير في التصدي لخطاب الكراهية. في المقابل، تحرّك الديمقراطيون للدفاع عن الجامعات، ووجّهوا انتقادات لإدارة دونالد ترامب، خصوصاً ما يتعلق بتقليص دعم «مكتب الحقوق المدنية» التابع لوزارة التعليم الأميركية، وهو المكتب المسؤول عن التحقيق في الشكاوى المرتبطة بالتمييز، بما فيها معاداة السامية.

 

النائب الديمقراطي مارك تاكانو وصف نهج الجمهوريين بأنه أشبه بـ«سياسة الأرض المحروقة»، مشيراً إلى أن الحملة التي تستهدف مؤسسات التعليم العالي قد تُعرّض مستقبل الحرية الأكاديمية والبحوث الابتكارية والتعاون العلمي الدولي للخطر، بل «لأجيال قادمة».

 

ترحيل الطلاب الدوليين.. أبعاد أمنية

 

من التطورات الخطيرة التي لم تحظَ بتغطية كافية، استخدام إدارة ترامب لملفات الهجرة كأداة قمع. فقد تم اعتقال وترحيل طلاب دوليين شاركوا في احتجاجات مؤيدة لفلسطين، بينهم محمود خليل، رميساء أوزتورك، ومحسن مهداوي، رغم امتلاك بعضهم إقامة دائمة أو تأشيرات قانونية. هذه الإجراءات أثارت مخاوف واسعة من تحول الجامعات إلى أدوات أمنية، ومن استخدام تقنيات التعرف على الوجوه لملاحقة الطلاب.

 

تجميد الموارد يهدد مستقبل الابتكار الأميركي

 

الجامعات الأميركية تعتمد بشكل كبير على التمويل الفدرالي، الذي بلغ أكثر من 160 مليار دولار في 2024. هذا التمويل لا يقتصر على التعليم، بل يشمل أبحاثًا طبية وتكنولوجية حيوية. تجميد هذه الموارد يهدد مستقبل الابتكار الأميركي، ويؤثر على مكانة الولايات المتحدة في البحث العلمي. وقد بدأت بعض الجامعات الأوروبية، مثل أكسفورد وهايدلبرغ، باستقطاب علماء أميركيين، مستغلة الأزمة لتوسيع نفوذها الأكاديمي.

 

جامعات النخبة.. تحالفات أكاديمية سرية

 

في مواجهة هذه الحملة، بدأت جامعات النخبة، مثل براون، كورنيل، برينستون، وييل، بتشكيل تحالف سري للدفاع عن استقلالها، وفقًا لتقارير من صحيفة وول ستريت جورنال. كما وقّع أكثر من 500 أكاديمي على عريضة مشتركة تندد بالتدخل الحكومي، وتدعو إلى حماية الحرية الأكاديمية. وفي تطور لافت، بدأت نقابات الأساتذة في إنشاء ميثاق دفاع مشترك، لتوفير شبكة قانونية لمواجهة الإجراءات الفدرالية الانتقامية.

 

هل يسعى ترامب إلى إعادة هندسة التعليم؟

 

من منظور سياسي، يبدو أن ترامب لا يكتفي بمعاقبة الجامعات، بل يسعى إلى إعادة هندسة التعليم العالي الأميركي. فالهجوم على برامج التنوع والإنصاف، والضغط لتعديل المناهج، وتقييد حرية التعبير، كلها تشير إلى محاولة فرض رؤية محافظة على المؤسسات الأكاديمية.

 

هذا يتماشى مع خطاب ترامب الذي يصف الجامعات بأنها «موبوءة بالتطرف اليساري»، ويعتبرها معاقل للنخب الليبرالية.

 

 كيان العدو والموساد في قلب الأزمة

 

في تطور غير مسبوق، دخل  كيان العدو الصهيوني على خط الأزمة، إذ عبّر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن غضبه من الاحتجاجات، واصفًا الطلاب بأنهم «غوغاء معادون للسامية». كما نشر جهاز الموساد تهديدًا مبطنًا باستخدام تقنيات التعرف على الوجوه لرصد المشاركين في المظاهرات، ما أثار موجة من القلق حول الرقابة الرقمية والملاحقة السياسية.

 

هل تنجح الجامعات في الدفاع عن استقلالها؟

 

المعركة بين ترامب والجامعات الأميركية ليست مجرد خلاف إداري، بل هي صراع على جوهر الديمقراطية الأميركية. فحين تتحول المنح الفدرالية إلى أدوات عقاب، وتُستخدم الاتهامات السياسية لتكميم الأفواه، يصبح السؤال الأكبر: هل تبقى الجامعات فضاءً للبحث الحر والنقاش المفتوح؟ أم أنها تتحول إلى مؤسسات خاضعة للسلطة، تردد ما يُطلب منها، وتخشى أن تُعاقب إن خرجت عن النص؟

 

في هذه اللحظة المفصلية، تقف الجامعات الأميركية أمام اختبار تاريخي. فإما أن تدافع عن استقلالها، وتثبت أنها قادرة على مقاومة الضغوط، أو أن ترضخ، وتفتح الباب أمام عهد جديد من الرقابة السياسية على العقل الأكاديمي. والنتيجة لن تؤثر فقط على الطلاب والأساتذة، بل على مستقبل الديمقراطية الأميركية نفسها.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص