أزمة دبلوماسية وعسكرية تهدد استقرار جنوب شرق آسيا

النزاع بين تايلاند وكمبوديا.. صراع المعابد والخرائط القديمة

من الممكن أن يؤدي التصعيد العسكري والدبلوماسي بين البلدين إلى أزمة إقليمية في منطقة تعاني أصلاً من توترات جيوسياسية معقدة تشمل البحر الصيني الجنوبي ونزاعات حدودية

 في قلب جنوب شرق آسيا، وبين غابات كثيفة وجبال شاهقة تتخللها طرق قديمة، يشتعل صراعٌ سياسيٌ قديم يتجدد بين تايلاند وكمبوديا حول حدود غير محسومة ومعابد أثرية تحولت إلى رموز للسيادة الوطنية. ذلك النزاع ليس وليد اللحظة، بل هو انعكاسٌ لتاريخٍ طويل من التعقيد الجغرافي والموروث الاستعماري، حيث ترسم المعابد في مخيلة شعوب البلدين حدودًا لا تقبل التنازل. وحين يتقاطع الدين بالسياسة، وتغيب لغة الحوار، تتحول تلك المعالم المقدسة إلى ساحات مواجهة عسكرية، ويصبح الجدل حول السيادة مفتوحًا على احتمالات الانفجار الإقليمي.
في يوليو/ تموز 2025، عاد هذا النزاع إلى واجهة الأحداث الدولية، بعد أن اندلعت اشتباكات عنيفة بين القوات التايلاندية والكمبودية، لتعيد إلى الأذهان مشاهد القتال التي شهدتها المنطقة في العقد الماضي، وتفتح الباب أمام أزمة دبلوماسية وعسكرية تهدد استقرار جنوب شرق آسيا بأكمله.
خلفيات تاريخية تحمل بذور النزاع
ليست هذه أول مرة تتواجه فيها كمبوديا وتايلاند عسكريًا على خطوط غير واضحة في الخرائط، بل تعود جذور النزاع إلى القرن الماضي حين رسم الفرنسيون، إبان سيطرتهم الاستعمارية على كمبوديا، حدودًا برية تعتمد التضاريس الطبيعية دون ترسيمٍ دقيق. كان ذلك عام 1907، حين أُدرج معبد «برياه فيهير» ضمن الأراضي الكمبودية وفقًا لخريطة استخدمتها محكمة العدل الدولية لاحقًا عام 1962 لتثبيت سيادة كمبوديا عليه.
إلا أن ذلك القرار لم يمنع الشعور بالغضب في تايلاند التي ترى المعبد جزءًا من تاريخها الروحي والجغرافي، خصوصًا وأن الوصول إليه يتطلب المرور من أراضٍ تايلاندية. أما معبد «تا موان ثوم»، فقد دخل دائرة النزاع بعدما استُخدم كرمز سيادي إضافي، ما أدى إلى تعميق الهوة بين البلدين.
الشرارة التي أعادت إشعال المواجهة
قبل أشهر قليلة، انفجرت الأوضاع من جديد إثر حادثة بسيطة في ظاهرها لكنها محملة بدلالات سياسية، إذ أدى انفجار لغمٍ أرضي قرب الحدود إلى إصابة جنود تايلانديين، ما دفع بانكوك إلى اتهام كمبوديا بزرع ألغام في مناطق متنازع عليها. لم تكد الاتهامات تهدأ، حتى خرجت إلى العلن مكالمة مسربة لرئيسة وزراء تايلاند، تنتقد فيها الجيش وتلمّح إلى علاقات شخصية بين القيادة الكمبودية والتايلاندية، الأمر الذي أشعل الداخل السياسي وأعاد تعبئة الشارع خلف المؤسسة العسكرية. مع تزايد المشاعر القومية في كِلا البلدين، تحولت الحدود إلى مسرح لتبادل القذائف، فشهدنا اشتباكات باستخدام الأسلحة الخفيفة والمدفعية الثقيلة، بل وصلت الأمور إلى حد استخدام الطائرات الحربية في غارات على مواقع قرب خط التماس الحدودي.
اشتباكات دامية وتداعيات إنسانية
أعلن الطرفان عن سقوط قتلى وجرحى من العسكريين والمدنيين، وتحديدًا في المناطق القريبة من المعابد المتنازع عليها. فقد تجاوز عدد القتلى في تايلاند خمسة عشر شخصًا، بينما أكدت كمبوديا مقتل مواطن واحد وإصابة خمسة آخرين. في غضون أيام، نزح آلاف الأسر من كِلا الجانبين، وتم إجلاء ما يزيد عن 1500 أسرة كمبودية وقرابة 130 ألف شخص تايلاندي، بعدما أُغلقت المعابر الحدودية بالكامل وتوقفت حركة التجارة والسياحة، ما أضاف بُعدًا اقتصاديًا للأزمة المتفاقمة.
مقارنة القوة العسكرية بين تايلند وكمبوديا
في تقرير نشرته مجلة «نيوزويك»، تناولت الصحافية إيلي كوك المقارنة بين القدرات العسكرية لكل من تايلند وكمبوديا، مستندةً إلى بيانات صادرة عن المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن. وجاءت هذه المقارنة لتكشف عن فوارق ضخمة بين البلدين في حجم الإنفاق العسكري والتجهيزات الحديثة.
تايلند تمتلك جيشاً يُعد من بين الأحدث في منطقة جنوب شرق آسيا، إذ تبلغ ميزانيتها الدفاعية حوالي 5.7 مليارات دولار سنوياً، وهو رقم يفوق بكثير ما تخصصه كمبوديا التي لا تتجاوز ميزانيتها العسكرية 1.3 مليار دولار. سلاح الجو التايلندي يتميز بتطوره، إذ يضم 112 طائرة مقاتلة، منها 46 من طراز إف-16، بينما تفتقر كمبوديا إلى الطائرات المقاتلة بشكلٍ كامل، ويقتصر سلاحها الجوي على 26 مروحية وعدد محدود جداً من الأفراد، لا يتجاوز 1500 شخص.
وفي الوقت الذي تحتفظ فيه تايلند بنحو 130 ألف جندي نظامي إلى جانب عدد مماثل من المجندين، وتملك حوالي 400 دبابة متقدمة، بالإضافة إلى حاملة طائرات وسبع فرقاطات بحرية، فإن كمبوديا تعتمد على قوات برية لا يتجاوز قوامها 75 ألف جندي، يستخدمون دبابات قديمة من طراز تي-54 وتي-55 تعود إلى منتصف القرن الماضي، فضلاً عن عربات روسية برمائية من طراز BMP-1، دون أن تكون لها أي قوة بحرية تُذكر.
أما في ما يتعلق بالمدفعية، فكِلا البلدين يستخدم أنظمة إطلاق صواريخ ومدافع، لكن تايلند تعتمد على تقنيات متنوعة وحديثة من مصادر أميركية وصينية وصهيونية، بينما تعتمد كمبوديا بشكل شبه كامل على معدات تعود إلى الحقبة السوفياتية، بالإضافة إلى بعض الأنظمة الصينية التي تعود للتسعينيات. ورغم هذا التفاوت الواضح في الإمكانات والتقنيات، لم تتردد القيادة الكمبودية، وعلى رأسها رئيس الوزراء السابق هون سين، في توجيه تحذيرات شديدة اللهجة لتايلند، متوعداً إياها بردع قاسٍ في حال استمرار التفاخر بالتفوق العسكري. وبينما تُظهر تايلند ثقة مفرطة وتكثف من ردودها الجوية، لا تزال الاشتباكات تتصاعد على طول الحدود المتنازع عليها. وقد حذّرت مجلة نيوزويك من أن استمرار التصعيد، في ظل غياب جهود إقليمية أو دولية حقيقية، قد يقود إلى نزاع أوسع نطاقاً.
البُعد القانوني والدبلوماسي في مواجهة عسكرية مفتوحة
على الصعيد الدبلوماسي، دعت كمبوديا مجلس الأمن الدولي إلى عقد جلسة طارئة من أجل مناقشة ما وصفته بـ«عدوان عسكري غير مبرر»، بينما رفضت تايلاند اختصاص محكمة العدل الدولية معتبرة أن المسألة ينبغي حلها عبر الحوار الثنائي. في هذا السياق، برزت محاولات الصين لإطلاق وساطة حيادية، كما عرضت ماليزيا، بصفتها رئيسة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، الدخول كطرف ميسر، لكن الحسابات السياسية الداخلية والخارجية عطلت أي تقدم ملموس في هذا الاتجاه. هذا ودعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش كِلا الجانبين إلى «ضبط النفس وحل الخلافات عبر الحوار»، حسبما أفاد المتحدث باسم الأمم المتحدة فرحان حق. وشكل القتال مثالاً نادراً على صراع عسكري مفتوح بين دولتين عضوين في رابطة دول جنوب شرق آسيا. لكن ليست هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، إذ سبق لتايلاند أن دخلت في صدامات مع كمبوديا بسبب الحدود، وخاضت مناوشات متقطعة مع جارتها الغربية ميانمار.
أزمة حدودية أم تصفية حسابات داخلية؟
من منظور تحليلي سياسي، يمكن القول إن هذا النزاع يتجاوز طبيعته الجغرافية ليعكس أزمة داخلية في كل من تايلاند وكمبوديا. ففي بنوم بنه، يسعى رئيس الوزراء الجديد هون مانيت إلى تثبيت شرعيته في مواجهة الإرث الضخم الذي خلفه والده الزعيم السابق هون سين، بينما تستغل المؤسسة العسكرية في بانكوك الأزمة لتقويض الحكومة المدنية، خاصةً بعد سلسلة فضائح وإقالات أربكت المشهد السياسي الداخلي. المعابد هنا تتحول إلى رموز تعبئة وطنية، حيث يُستخدم النزاع لإعادة ضبط الاصطفاف الشعبي خلف القيادة وإلهاء الرأي العام عن الأزمات الاقتصادية والسياسية المستجدة.
قلق دولي من الانزلاق إلى مواجهة أوسع
يخشى مراقبون من أن يؤدي التصعيد العسكري والدبلوماسي إلى أزمة إقليمية أوسع، في منطقة تعاني أصلاً من توترات جيوسياسية معقدة تشمل البحر الصيني الجنوبي ونزاعات حدودية أخرى.ومن جهتها، لم تصدر أي دعوات رسمية حتى الآن من منظمات دولية للتوسط، لكن خبراء يرون أن الحاجة ملحّة إلى احتواء الأزمة ومنع انزلاقها نحو نزاع مفتوح قد تكون له عواقب وخيمة على الأمن الإقليمي.
رغم تصاعد الأوضاع، ما تزال هناك فرص واقعية لتفادي التصعيد الكامل، أبرزها إعادة تفعيل اللجنة الحدودية المشتركة لترسيم الخط الحدودي بدقة، وهو أمر يتطلب إرادة سياسية حقيقية من الطرفين. كما يمكن أن تُطرح فكرة إشراف دولي مؤقت على المناطق المتنازع عليها، لمنع وقوع اشتباكات جديدة.
المصدر: الوفاق/ خاص