رجل الجبهات الصامتة..

الشهيد القائد فؤاد شكر صانع الأجيال ومهندس التحوّلات الإستراتيجية

خاص الوفاق: لقد قدَّم الشهيد فؤاد شكر نموذجًا نادرًا للقائد الذي يصنع النصر دون أن يطلب المجد، ويبني المؤسسات دون أن يبحث عن موقع

أکرم شمص

 

 

المقدّمة

 

لم يكن القائد الجهادي الكبير الشهيد السيد فؤاد شكر مجرّد قائد عسكري في الميدان، بل صانع أجيال ومهندس تحوّلات استراتيجية عابرة للجغرافيا. مثَّل أحد أعمدة مشروع المقاومة الحديثة في لبنان والمنطقة، جامعًا بين الحضور التخطيطي الصامت، والقيادة العسكرية المحنّكة، والإيمان العميق بمشروع إلهي لا تحدّه حدود وطنية. من مشاركته في تأسيس مجموعات المقاومة الإسلامية، إلى إشرافه على تطوير منظومات الصواريخ والطائرات المسيَّرة، كان السيد فؤاد شكر بمثابة الجسر الحيوي بين الجيل المؤسس والجيل الذي يخوض اليوم معارك “طوفان الأقصى” وامتداداتها. واغتياله شكَّل استهدافًا لرجلٍ لا تختصره جبهة واحدة، بل تتقاطع عنده جبهات متعددة من فلسطين إلى البوسنة وسوريا، ومن الجنوب إلى الضاحية.

 

روحيًّا، ظلَّ الشهيد فؤاد شكر يُعبِّر عن حالة نادرة من التوازن بين العقيدة والانضباط، وبين التواضع والانتماء الواعي لفكر ولاية الفقيه. وعرَّف نفسه كـ”خمينيّ” السلوك والمبدأ، وحرص على تربية المقاتلين على الإيمان العميق والصبر الطويل والتوكل العملي. لم تكن الشهادة بالنسبة إليه نهاية مسار، بل وعدًا ينتظره بطمأنينة، وعندما تحققت، تحوَّلت شهادته إلى مصدر إلهام ووصية حيّة، تُستكمل اليوم في ساحات المواجهة عبر وحدات لا تزال تعمل وفق خططه وتستلهم من مدرسته. بهذه الروح، لم يُغتل الشهيد فؤاد شكر بل دخل مرحلة الخلود، كواحد من القادة الذين يصنعون المعارك وهم في غيابهم، كما في حضورهم.

 

شخصية سيادية عابرة للحدود: الشهيد فؤاد شكر نموذج القائد الأُممي في المقاومة

 

في سيرة الشهيد الشهيد فؤاد شكر ، نقرأ عن قائدٍ لم تُحدّه الجغرافيا اللبنانية، بل تجاوزها ليصبح أحد أعمدة محور المقاومة في الإقليم. لم يكن مجرّد مسؤول عسكري محلي، بل شخصية استراتيجية أُممية، حمل البندقية في الجنوب، وصوت المقهورين في البوسنة، وشارك في حماية سوريا من التفكك، وأسهم في دعم فلسطين من مواقع النار. شخصيته الأمنية والعسكرية المتخفية، وصلاته المباشرة بالقيادة المركزية، جعلت منه أحد أكثر العقول قلقًا للعدو الصهيوني، ومطاردًا دائمًا من أجهزة المخابرات، حتى كان اغتياله تتويجًا لحالة الرعب من عقلٍ ينسّق بصمت بين مختلف جبهات النار.

 

على المستوى السياسي، شكّل الشهيد فؤاد شكر نقطة وصل حساسة داخل بنية القرار في حزب الله، حيث شغل منصب المستشار العسكري الأعلى للشهيد الأسمى السيد حسن نصرالله، وكان من أبرز المشاركين في رسم السياسات الميدانية والمعادلات الردعية بصمت وفاعلية. رؤيته لم تكن محلية أو ظرفية، بل عابرة للحدود والزمن، تفكّر في موازين القوى وتعمل على تغييرها. بتوصيف قيادة الحزب، كان “يفكر لكل الأُمّة”، ما يعكس عمق بصيرته ودوره في التحولات الكبرى، من إخراج الاحتلال إلى تأسيس الردع، ومن إدارة المعارك إلى بناء جبهات الإسناد الإقليمي.

 

أمّا في الميدان، فقد جسَّد الشهيد فؤاد شكر صورة القائد الميداني–المفكِّر، منذ معركة خلدة التي أصيب فيها، وصولًا إلى مشاركته المركزية في عملية الشهيد أحمد قصير، ثمّ إشرافه على تطوير قدرات المقاومة الصاروخية الدقيقة والمسيرات. لم يكن مهندسًا للتكتيك فقط، بل لحالة الردع الفعلي التي تعيشها المقاومة اليوم. وقدرته على الجمع بين التخفي والفعالية، بين الجرأة والانضباط، جعلت منه نموذجًا استثنائيًا داخل بنية المقاومة المعاصرة. هو مَنْ نقل المقاومة من الدفاع إلى الهجوم، ومن الميدان إلى معادلات الإقليم، فاستحقّ أن يُعرف بأنّه “العقل المدبِّر في الظلّ”.

 

البُعد الروحي: القائد المتخفي وناسج الوعي المقاوم

 

عاش الشهيد فؤاد شكر في الظلّ، متجردًا من الأضواء، متمثلًا مبدأ “العمل الصامت” على خطى كبار المجاهدين الذين يرون في الخفاء عبادة، وفي التواضع قوّة. كان يخشى الموت العادي، ويبكي بحرقة عند وداع رفاقه الشهداء، عاشقًا صادقًا للشهادة، يراها ذروة الوعي وغاية العهد، لا نتيجة صدفة. ارتبط وجدانه بنداء كربلاء، مُرددًا حافي القدمين “ما تركتك يا حسين” خلال حضوره المتخفي لمجالس عاشوراء، في تعبير صادق عن بيعة روحية اختُتمت بالشهادة.

 

لم يكن إرثه عسكريًا فحسب، بل تربويًا وروحيًا أيضًا، فقد خرَّج أجيالًا من القادة الذين يتولّون اليوم قيادة الجبهات الحساسة، حاملين فكره وروحه. كان مُربّيًا ومُلهمًا، لا يكتفي بالتدريب، بل يرافق تلامذته فكريًا وروحيًا حتى اللحظة الأخيرة. لم يكن قائدًا إداريًا، بل صانع رجال، يُجسّد فكر كربلاء ونداء “ما تركتك يا حسين” سلوكًا وجهادًا، لا شعارًا وخطابًا.

 

العاشر الذي لم يخذل العهد

 

في زمنٍ كانت فيه الطفولة تمتزج بملح البحر ودفء الرمال، اجتمع عشرة فتيان حول دائرةٍ حفروها بأكفهم الصغيرة على شاطئ الأوزاعي، لتكون عهدًا على الوفاء والصداقة والمقاومة. كبروا، وكبرت معهم البندقية، فصاروا رجالًا من نار لا يهابون البوارج ولا الطائرات، حملوا البحر في قلوبهم وارتبطوا بأرضٍ رسموا على ترابها أولى أحلامهم. تسعةٌ منهم ارتقوا شهداء: سمير مطوط، أحمد شمص، محمد نعمة يوسف، حسن شكر، محمد حسونة، عاصي زين الدين، محمود يوسف، أسعد برو، وجعفر المولى، وبقي العاشر، السيد فؤاد شكر، يحمل أمانتهم، يكمل طريقهم، ويقاتل في كل الساحات باسمهم، حتى لحق بهم شهيدًا، لا متأخرًا عنهم، بل مستمرًا بهم.

 

هو العاشر الذي لم يخذل العهد، الذي جسَّد بدمه وقيادته ذاكرة “عهد العشرة”، فكانت شهادته تتويجًا لرحلة جماعية بدأت على الرمل، واستُكملت على الجبهات، وانتهت في علياء المجد. هم ليسوا مجرد أسماء في سجل الشهداء، بل أسطورة جماعية لجيلٍ رأى في الشهادة حياة، وفي الرصاص بذورًا للحرّية. بعضهم صار قائدًا، وبعضهم قاتل حتى الرمق الأخير؛ لكنهم جميعًا كانوا أبناء قسمٍ لم يتبدَّل، حتى فاضت أرواحهم نحو النور. تركوا وراءهم عهدًا يُلهم المقاومين، وشاطئًا يُحدّث الموج عن بطولة “عهد العشرة” الذين اختاروا أن يكونوا من “الَّذِينَ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ”، فاستحقّوا الخلود في ذاكرة الأرض والبحر والناس.

 

الخاتمة: الشهيد فؤاد شكر.. رجل الظلّ والنور

 

 

لم يكن الشهيد القائد السيد فؤاد شكر مجرّد اسمٍ يُضاف إلى سجل الشهداء، بل هو مَعْلَم من معالم المسيرة، وبصمة عميقة في وجدان المقاومة. عاش في الظلّ ليرسم خيوط النصر، وغاب في النور ليتحوَّل إلى بوصلة تهدي الخطى. جمع بين العقل الاستراتيجي والبصيرة الإيمانية، فكان قائدًا يُربّي، لا يُفاخر، ويُخطّط، لا يُظهر. استشهاده لم يُحدث فراغًا في بنية المقاومة، بل أكد صلابة بنيانها، إذ تابع مَنْ ربّاهم الطريق بذات العزم والإتقان. كان يؤمن أنّ القادة لا يُقاسون بما يظهر من إنجازهم، بل بما يُبقى بعدهم من أثرٍ، وهذا هو جوهر الخلود الحقيقي.

 

لقد قدَّم الشهيد فؤاد شكر نموذجًا نادرًا للقائد الذي يصنع النصر دون أن يطلب المجد، ويبني المؤسسات دون أن يبحث عن موقع. هو من أولئك الذين تُولد مراحل جديدة من دمهم، لا تنتهي بهم. فبرحيله، لم تفقد المقاومة رجلاً فقط، بل ارتقى أحد أعمدتها ليُصبح فكرة مُلهِمة، ومشروعًا مستمرًا، ورمزًا للقيادة التي تُنجز وتُربّي وتُؤسّس. لقد قالها الشهيد الأسمى السيد نصر الله بوضوح: “هو صنع رجالًا، ومَنْ يصنع الرجال لا يغيب”. هكذا يبقى الشهيد فؤاد شكر حيًّا في كل موقع يقف فيه مقاومٌ واثقٌ، وفي كل انتصار يتكرَّر، وفي كل شُعلة لا تنطفئ.

 

 

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص