أول حالة من نوعها داخل الاتحاد الأوروبي

هولندا تكسر حاجز الصمت.. «الكيان الصهيوني تهديد لأمننا»

يشكل تصنيف الكيان الصهيوني كتهديد قومي في بلد أوروبي رائد مثل هولندا نقطة تحول قد تُلهم دولاً أخرى لكسر التابو السياسي

في حدثٍ يُعدّ نقطة تحول فاصلة في تاريخ العلاقات الأوروبية مع الكيان الصهيوني، أقدمت الوكالة الوطنية للأمن ومكافحة الإرهاب في هولندا على تصنيف كيان العدو رسميًا كتهديد مباشر لأمنها القومي، لتُسجّل بذلك أول حالة من نوعها داخل الاتحاد الأوروبي. هذا الإعلان، الذي لم يكن في حسبان المحللين السياسيين، لم يصدر عن صحيفة معارضة أو منظمة غير حكومية، بل جاء من أعلى هيئة أمنية هولندية، ليضرب عمق العلاقة التقليدية التي لطالما اتّسمت بالتعاون والصداقة.

الهزة لم تكن أمنية فقط، بل سياسية وأيديولوجية؛ فالتقرير الذي أعلنه «المنسق الوطني للأمن ومكافحة الإرهاب» لم يتناول كيان العدو بصفته قوة عسكرية أو نووية مهدِّدة، بل بوصفه جهة فاعلة في زعزعة الاستقرار الداخلي الهولندي، عبر تدخلات ممنهجة في السياسات الداخلية، حملات تضليل إعلامي، وضغوط مباشرة على المؤسسات القضائية، وفي مقدمتها المحكمة الجنائية الدولية الواقعة في قلب لاهاي.

وسط تصاعد غير مسبوق في التوترات بين تل أبيب والدول الأوروبية، وموجات متلاحقة من الاحتجاج الشعبي والتنديد الدولي بممارسات كيان العدو تجاه الفلسطينيين، جاء هذا التصنيف ليكسر «التابو الدبلوماسي» الذي حيّد كيان العدو لعقود عن المساءلة في الغرب. إنه ليس مجرد بندٍ عابر في تقرير أمني؛ بل إعلان رسمي بنهاية مرحلة وبداية أخرى، تضع القيم الديمقراطية والسيادة الوطنية فوق اعتبارات التحالف التاريخي.

هولندا، المعروفة بانفتاحها الليبرالي واحتضانها لحرية التعبير، قررت أن تقلب المعادلة، أن تصنّف الحليف التقليدي كخطر محتمل، وأن تُعيد رسم خط أحمر جديد لا يقبل التضليل ولا التدخل، مهما كانت الجهة المتورطة.

كيان العدو تهديد للأمن القومي الهولندي

في تحول غير مسبوق في علاقة أوروبا بكيان العدو الصهيوني، أعلن «المنسّق الوطني للأمن ومكافحة الإرهاب» في هولندا، أن كيان العدو يُعدّ تهديداً مباشراً للأمن القومي الهولندي. هذا التصنيف الرسمي، القادم من احد أكثر الدول الأوروبية ليبرالية، ليس مجرد سطر في تقرير أمني روتيني، بل هو إعلان صريح أن «الاستثناء الصهيوني» في أوروبا بدأ يتصدّع. لم يعد الكيان محصّنًا من النقد أو المساءلة، لا في المؤسسات الأوروبية ولا في الوعي السياسي المتنامي لدى الشعوب الغربية، التي باتت ترى في الممارسات الصهيونية ليس فقط تهديدًا للقيم الإنسانية، بل لتوازناتها الأمنية الداخلية أيضًا.
هذا التغيّر الجذري في الموقف الهولندي، رغم البُعد الجغرافي بين البلدين، كشف حجم التدخّل الصهيوني في الشؤون الداخلية لدول أوروبية، خصوصًا عبر أدوات الإعلام المضلل، الضغط السياسي غير الرسمي، واستهداف النشطاء المؤيدين لفلسطين. هنا لا نتحدث فقط عن نزاع دولي تقليدي، بل عن مواجهة مكشوفة بين دبلوماسية الهيمنة وخطاب الدولة الحقوقية، حيث تجد هولندا نفسها، ولأول مرة، مضطرة للدفاع عن مواطنيها ومؤسساتها ضد تدخلات من دولة لطالما اعتُبرت «صديقة».

من التظاهر إلى الوثائق

في قلب أمستردام، عاصمة التعدّدية الثقافية وحرية التعبير، خرجت تظاهرات تضامنية مع الفلسطينيين، كان يفترض أن تبقى في سياق الاحتجاج الديمقراطي. ولكن، ما حدث بعدها كشف أن كيان العدو لم يكتف بالمراقبة البعيدة، بل بدأ يرسل وثائق غير رسمية إلى صحافيين وسياسيين هولنديين، تتضمن معلومات شخصية حسّاسة عن مشاركين في تلك التظاهرات. هذه الوثائق تم تمريرها عبر قنوات غير رسمية، فيما يشبه «الضغط الناعم»، لإحراج النشطاء وثنيهم عن استمرارهم.

هذا التصرف تم توثيقه في التقرير الأمني الهولندي، الذي وصفه بأنه «محاولة مباشرة للتأثير على الرأي العام والسياسة الداخلية»، وهو ما اعتُبر خطًا أحمر في العلاقة بين الدول. فأن تحاول دولة أجنبية ترهيب مواطنين داخل أراضيك على خلفية نشاطهم السياسي، يعني أنها بدأت تتعامل معك كأنك امتداد سياسي لها، لا كدولة ذات سيادة. هنا تحوّل الخلاف إلى خطر أمني حقيقي، وليس مجرد تباين دبلوماسي عابر.

محكمة لاهاي تحت النيران الناعمة

ليس بعيدًا عن أمستردام، في مدينة لاهاي، تقبع المحكمة الجنائية الدولية، وهي المؤسسة القضائية الأممية المكلفة بملاحقة مجرمي الحرب عبر العالم. هذه المحكمة نفسها أصبحت هدفًا متكررًا للتهديدات الصهيونية، وفق التقرير الهولندي. كيان العدو، ومعه الولايات المتحدة، لم يكتف بالاعتراض الدبلوماسي على صلاحيات المحكمة، بل بدأ يمارس ضغوطًا فعلية، من تهديدات علنية إلى مراقبة مسؤولي المحكمة.
تحقيقات صحافية كشفت أن كيان العدو قاد حملة تجسس وترهيب استمرت تسع سنوات، استهدفت شخصيات قانونية داخل المحكمة، بهدف منعها من إصدار مذكرات توقيف أو فتح تحقيقات ضد قادة صهاينة.
ولكن المحكمة، رغم الضغوط، أصدرت في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت، في خطوة قضائية هزّت أركان الدبلوماسية الدولية.
هذا النزاع بين المحكمة وكيان العدو وضع هولندا، بصفتها الدولة المضيفة، أمام مسؤولية تاريخية. فالدفاع عن المحكمة لا يعني فقط حمايتها الفيزيائية، بل حماية مبدأ العدالة الدولية من التحايل والابتزاز، وهو ما أعطى الخطوة الهولندية وزنًا مضاعفًا سياسيًا وقانونيًا.

هل تبدأ دول أخرى برسم خط أحمر مشابه؟

إذا كانت هولندا قد تجرأت على كسر الصمت، فإن السؤال الأهم: هل تتبعها دول أوروبية أخرى؟ الجواب يتعلّق بمدى قدرة الشعوب الأوروبية على الضغط، ومدى جرأة مؤسساتها الأمنية على فضح تدخلات خارجية مغطاة بسياسة تاريخية من التحفّظ. هناك دول مثل ألمانيا وفرنسا، تربطها علاقات حساسة مع كيان العدو، إذ يُستخدم مفهوم «الشعور بالذنب التاريخي» كمانع لأي نقد سياسي تجاه تل أبيب.
ولكن، مع تصاعد جرائم الحرب في غزة، وتزايد التضامن الشعبي مع الفلسطينيين، قد تجد هذه الدول نفسها في وضع مشابه لهولندا، بين حماية مؤسساتها المدنية وبين التماهي مع الضغوط السياسية الصهيونية. فهل نكون أمام إعادة رسم لخارطة التحالفات الغربية؟ هذا السؤال لا يزال مفتوحًا، ولكن تصنيف كيان العدو كتهديد قومي في بلد أوروبي رائد مثل هولندا، يُشكل نقطة تحول قد تُلهم دولًا أخرى لكسر التابو السياسي.

خطوات دبلوماسية ضد التحريض والاستيطان

هذا وقد أعلنت الحكومة الهولندية حظر دخول وزيري الكيان الغاصب  إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش إلى أراضيها، وذلك على خلفية تصريحات متكرّرة لهما حرّضا فيها على العنف وتوسيع المستوطنات غير القانونية، بما في ذلك الدعوة إلى تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة. وجاء القرار كجزء من موجة قرارات دبلوماسية متشددة، شملت استدعاء السفير الإسرائيلي في لاهاي لجلسة توبيخ رسمي.

وأوضح وزير الخارجية الهولندي كاسبار فيلدكامب أن الشخصيتين أُدرجتا على قائمة «غير المرغوب بهم» في منطقة شنغن، ما يحظر فعليًا دخولهما إلى معظم دول الاتحاد الأوروبي، مشيرًا إلى أن هولندا ستواصل الضغط على حكومة نتنياهو لتغيير مسارها السياسي. هذا التصعيد يتزامن مع أزمة دبلوماسية متفجرة بين رئيس كيان الاحتلال إسحاق هرتسوغ ورئيس الوزراء الهولندي ديك سخوف، إثر انتقادات الأخير لسياسات تل أبيب ومنعها إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، مما دفع هولندا للتهديد باتخاذ إجراءات اقتصادية ودبلوماسية إضافية على مستوى الاتحاد الأوروبي.

هولندا تُعيد رسم خريطة التحالفات

في ضوء التحوّل المتنامي في المواقف الأوروبية تجاه الاحتلال، يبرز الموقف الهولندي الأخير كمؤشر واضح على انبثاق مرحلة جديدة تعيد فيها العدالة تعريف التحالفات السياسية. فلم يعد ممكناً تجاهل الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين أو اعتبار التضامن مع غزة تهديداً داخلياً، بل أصبح هذا التضامن جزءاً من منظومة الدفاع عن القيم الإنسانية المشتركة. ومع تصنيف كيان العدو لأول مرة كتهديد قومي في تقرير رسمي لهولندا، تتبلور معالم خطاب جديد يقوم على المبادئ أكثر من المصالح، ما يمهّد لإعادة صياغة العلاقات الدولية وفقاً لمعايير العدالة والمسؤولية. وبناءً على معايير هيئة NCTV، يأتي هذا التصنيف نتيجة محاولات ممنهجة من قبل جهات صهيونية للتأثير في الإعلام الهولندي وقرارات البرلمان عبر نشر معلومات مضللة، وفق ما كشفته وثائق سرية نشرها المركز الفلسطيني للإعلام.

داخلياً، تزداد الدعوات في الأوساط السياسية الهولندية لتقليص التعاون العسكري مع تل أبيب، مدفوعة بتراجع التأييد الشعبي، حتى من فئات كانت تُعرف بدعمها التقليدي لها. هذا التغيّر لا يُعدّ حدثاً عارضاً، بل يمثل نقطة تحول تعكس وعيًا متزايدًا بأهمية إعادة النظر في أسس الشراكة، وتحديدًا حين تتعارض المصالح مع المبادئ. وفي هذا السياق، تثبت هولندا أنها رغم تأخرها في اتخاذ مواقف حاسمة، قادرة على الدفاع عن سيادتها ومصلحة شعبها، حتى وإن تطلب ذلك صداماً مع حلفاء كانوا يوماً في مأمنٍ من النقد أو المساءلة.

المصدر: الوفاق/ خاص