في لحظة تبدو فيها السياسة الدولية وكأنها تُعيد تدوير مفاهيم الحرب الباردة، يطلّ علينا مشروع قانون أميركي يستهدف جنوب أفريقيا، ليس فقط بسبب مواقفها من حرب غزة، بل بسبب تحالفاتها المتنامية مع خصوم واشنطن التقليديين: الصين، روسيا. هذا المشروع، الذي قدّمه السيناتور الجمهوري روني جاكسون، لا يحمل فقط بنوداً قانونية، بل يستعيد خطاباً سياسياً منسيّاً: المكارثية، تلك الحقبة التي شهدت مطاردة الأصوات المعارضة داخل الولايات المتحدة بذريعة الولاء للشيوعية.
لكن هذه المرة، لا تُوجَّه الاتهامات إلى مواطنين أميركيين، بل إلى دولة ذات سيادة في أقصى جنوب القارة الأفريقية، اختارت أن تسلك طريقاً مستقلاً في سياستها الخارجية، وأن تدافع عن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وأن تعمّق علاقاتها مع دول ترى فيها واشنطن تهديداً مباشراً لنفوذها العالمي.
فهل نحن أمام عودة فعلية للمكارثية؟ أم أن الأمر يتعلّق بإعادة تعريف لمفهوم “العدو” في ظل عالم متعدد الأقطاب؟ وهل تستطيع جنوب أفريقيا أن تصمد أمام هذا الضغط الأميركي المتصاعد؟ وما هي تداعيات هذا التحوّل على مستقبل العلاقات الدولية، وعلى توازن القوى في القارة الأفريقية؟
جنوب أفريقيا.. روح مانديلا ترفض الانحناء
جنوب أفريقيا ليست دولة عابرة في التاريخ السياسي الحديث. فهي خرجت من نظام الفصل العنصري، واحتضنت رموزاً عالمية للعدالة مثل نيلسون مانديلا، وانخرطت في بناء نموذج ديمقراطي متعدّد الأعراق. هذا الإرث جعلها صوتاً أخلاقياً في السياسة الدولية، خصوصاً في الدفاع عن حقوق الشعوب المضطهدة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني.
دفاع جنوب أفريقيا عن غزة، وعن حقوق الفلسطينيين، ليس موقفاً طارئاً ولا تهوّراً دبلوماسياً. إنه موقف متجذّر في مبادئ العدالة والكرامة، والرفض التام لنظام الفصل العنصري الذي يمارسه كيان العدو. لذلك، كان من الطبيعي أن تكون بريتوريا من أبرز الدول التي رفعت دعوى ضد تل أبيب أمام محكمة العدل الدولية، تتهمه بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق سكان غزة.
وبهذا الموقف، تكون جنوب أفريقيا قد دخلت دائرة الاتهام الأميركية، لا لأنها تجاوزت القانون، بل لأنها كسرت صمت العالم، وواجهت القوة بالحق، والهيمنة بالعقل، والمكارثية بالشجاعة.
المكارثية الجديدة.. إعادة إنتاج العداء في ثوبٍ أخلاقي مزيّف
روني جاكسون لم يكن يوماً صاحب رؤية دولية شاملة، بل هو أقرب إلى نسخة متأخرة من جوزيف مكارثي، يلاحق “المنحرفين” الأيديولوجيين، ولو كانوا دولاً مستقلة. مشروع القانون الذي قدمه لا يحمل أي أساس قانوني متين، بل يتغذّى على روايات أيديولوجية ترى في كل من ينتقد كيان العدو “داعماً للإرهاب”، وفي كل من يتعاون مع روسيا أو الصين “خصماً للشعب الأميركي”.
لكن الأخطر من ذلك أن خطاب جاكسون يُمثل عودة كاملة إلى المكارثية، إذ تُستخدم السياسة الخارجية كأداة لتصفية الحسابات الأيديولوجية، لا لتحقيق الأمن أو العدالة الدولية. كل ما يريده جاكسون هو تحويل جنوب أفريقيا إلى درس تأديبي لبقية دول العالم: إياكم والتمرد على إرادتنا.
وفي هذا السياق، يصبح مشروع القانون الأميركي ليس مجرد محاولة لمعاقبة بريتوريا، بل لتخويف كل الدول التي تتجرأ على الوقوف في وجه كيان العدو، أو تتخذ قرارات مستقلة عن البيت الأبيض.
توحد الخطاب بين الجنون والانحراف العنصري
لا يمكن فصل مشروع جاكسون عن المزاج السياسي السائد في الولايات المتحدة، خصوصاً في ولاية ترامب الثانية الذي يعيد إنتاج خطابه العدائي تجاه جنوب أفريقيا، ويتهم حكومة المؤتمر الوطني بارتكاب “إبادة جماعية” ضد السكان البيض. هذا الاتهام، المشحون بنزعة عنصرية واضحة، يأتي في سياق محاولة استمالة الجماعات “الأفريكانز”، الذين لم يبدوا اهتماماً يُذكر بالهجرة أو الحماية الأميركية.
لكن ترامب، الذي يرى العالم عبر مرآة مصالحه الخاصة، يوسّع دائرة الضغط عبر التهديد بزيادة الرسوم الجمركية على صادرات جنوب أفريقيا بنسبة ٣٠٪، في محاولة لإخضاعها اقتصاديًا. ورغم هذه التهديدات، فإن حكومة بريتوريا لم ترد بتصعيد، بل بلغة هادئة وثابتة، تُعبّر عن نضج سياسي لا ينساق وراء الاستفزازات.
تحالفات الجنوب العالمي تتحدى الهيمنة
ردّ جنوب أفريقيا على المشروع الأميركي لم يكن خطابًا عدائيًا، بل سلسلة من الخطوات الدبلوماسية الذكية التي تعمّق تحالفاتها مع دول تعتبرها واشنطن تهديدًا وجوديًا. فبريتوريا أعلنت رسميًا سحب الاعتراف بمكتب تمثيل تايوان، وأكدت التزامها بمبدأ “الصين الواحدة”، ما أثار ارتياحًا كبيرًا في بكين، وأعطى إشارات واضحة بأن بريتوريا لا تخشى اتخاذ قرارات سيادية.
أمّا مع روسيا، فقد استضافت جنوب أفريقيا مؤتمرًا مشتركًا مع “نادي فالداي”، ناقش مستقبل العلاقات الأفريقية – الروسية على أسس المساواة، دون إملاءات أو شروط مسبقة. التعاون الأمني والتكنولوجي بين البلدين أخذ طابعًا استراتيجيًا، خصوصًا مع تصاعد دور جنوب أفريقيا في رئاسة مجموعة العشرين.
فلسطين.. البوصلة الأخلاقية لجنوب أفريقيا
إذا كانت القضية الفلسطينية قد شكلت محور الخلاف بين واشنطن وبريتوريا، فإنها أيضاً تُمثّل البوصلة الأخلاقية التي تحدد مواقف جنوب أفريقيا في السياسة الدولية. لم تكن غزة مجرد ملف إنساني عابر، بل كانت اختبارًا حقيقيًا لضمير العالم، وجنوب أفريقيا نجحت في هذا الاختبار.
رفعت دعوى قضائية ضد كيان العدو، وواجهت سيلًا من التهديدات والضغوط، لكنها لم تتراجع. كان صوتها ظل عاليًا في الدفاع عن المدنيين، في مقاومة الإبادة، في فضح الصمت الدولي، وفي رفض منطق التواطؤ الأميركي مع كيان العدو. هذه المواقف جعلتها هدفًا لمشروع جاكسون، لكنها أيضًا أكسبتها احترامًا دوليًا واسعًا.
هل تنجح واشنطن في تطويق جنوب أفريقيا؟
الإجابة ليست سهلة، لكن التاريخ والمشهد الحالي يقولان لا. العقوبات وحدها لم تعد تردع الدول المستقلة. فجنوب أفريقيا اليوم أكثر نضجًا وقوة، ولديها تحالفات واسعة في الجنوب العالمي، في مجموعة “بريكس”، في إفريقيا، وفي آسيا. وهي تمتلك أوراقًا اقتصادية وسياسية، وتجيد استخدام لغة القانون الدولي والمنابر الدولية.
الولايات المتحدة قد تواصل ضغوطها، لكنها فقدت جزءًا كبيرًا من هيبتها الأخلاقية. كلما زادت تهديداتها، ازداد إدراك العالم أنها تتصرف بوصفها قوة استبدادية تخشى فقدان سيطرتها.
جنوب أفريقيا تكتب فصلًا جديدًا في مقاومة الهيمنة
ما يحدث بين واشنطن وبريتوريا ليس مجرد خلاف دبلوماسي، بل هو لحظة فارقة في تاريخ السياسة الدولية. إنها لحظة تقف فيها دولة ناهضة لتقول: لن نكون تابعين، لن نخاف من العقوبات، لن نساوم على المبادئ.
جنوب أفريقيا، في هذا السياق، ليست ضحية، بل فاعل سياسي يُعيد تعريف موقعه في العالم، ويُدافع عن قيمه، حتى لو كلّفه ذلك مواجهة المكارثية الجديدة. صمودها أمام مشروع قانون يستعيد أسوأ مراحل التاريخ الأميركي ليس فقط مقاومة داخلية، بل تحدٍّ أخلاقي أمام منطق القوة الغاشمة الذي تعتمده واشنطن.
السياسات الأميركية، في محاولتها فرض الهيمنة عبر أدوات العقوبات والتهديد، تُعيد إنتاج عالم قديم تهاوت أركانه، بينما تتقدّم دول الجنوب العالمي برؤية أكثر تنوّرًا واستقلالية. بريتوريا اختارت الانحياز إلى العدالة، إلى تعددية الأقطاب، إلى الشراكة المتساوية، وإلى مواقف لا تُقاس بالمصالح الضيقة ولا بالإملاءات الجيوسياسية، بل تُبنى على قيم إنسانية عريقة.
ولذلك، فالمواجهة القادمة لن تكون فقط بين دولتين، بل بين منطقين مختلفين: منطق يرسّخ سيادة الدولة، ويؤمن بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومنطق يسعى إلى إخضاع العالم لميزان القوة، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة، والمبادئ، والمصالح المشتركة.
جنوب أفريقيا اليوم لا تقف وحدها. العالم يراقب، والشعوب تنهض، والتاريخ يعيد كتابة نفسه. وفي هذا الفصل الجديد، يبدو أن صوت العدالة أعلى من صراخ العقوبات، وأن المكارثية لن تجد لها مكانًا في العالم القادم.