فن مسرحي متجذّر من الشعائر الدينية

التعزية في إيران.. من الحداد إلى فن المقاومة

خاص الوفاق: ما يميّز التعزية الإيرانية هو قدرتها على التكيّف مع التحولات السياسية والاجتماعية، إذ تحوّلت من شعيرة شعبية إلى أداة ثقافية.

في قلب الثقافة الإيرانية، تتربع «التعزية» كواحدة من أعمق الطقوس الدينية والفنية التي تجسّد الحزن، الولاء، والمقاومة. ورغم أن الكلمة في معناها اللغوي تشير إلى الحداد على الأعزاء، فإنها في السياق الإيراني تحمل دلالات أوسع، حيث تحوّلت إلى شكل مسرحي شعبي يُعرض خلال شهر محرم، لإحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين(ع) وأصحابه الكرام في كربلاء المقدسة.
 

 

التعزية بين المفهوم والممارسة

 

التعزية لغوياً تعني الحداد والمواساة، أما في السياق الثقافي الإيراني، فهي مراسم دينية تُجسّد أحداث كربلاء.الاسم الأصلي لها هو «شبيه ‌خواني» (التشابيه) حيث يتقمّص الممثلون شخصيات تاريخية ويتشبّهون بها.

 

 

التعزية الإيرانية بين الشعيرة والمسرح والهوية

 

تُعدّ التعزية في إيران أكثر من مجرد مراسم دينية أو عرض مسرحي؛ إنها مرآة تعكس عمق الهوية الإيرانية، وتُجسّد سردية الحزن والمقاومة التي شكّلت وجدان المجتمع الإيراني عبر القرون. فمنذ أن تحوّلت واقعة كربلاء إلى رمز لمقارعة الظلم والتضحية في سبيل القيم والمبادىء، أصبحت التعزية وسيلة شعبية لإحياء هذه الذكرى، ليس فقط عبر البكاء والنحيب، بل من خلال فن أدائي يجمع الشعر، الموسيقى، والتمثيل في قالب درامي فريد.

 

ما يميّز التعزية الإيرانية هو قدرتها على التكيّف مع التحولات السياسية والاجتماعية، إذ تحوّلت من شعيرة شعبية إلى أداة ثقافية استخدمتها الدولة القاجارية لتوحيد الهوية، ثم واجهت الحظر في العهد البهلوي المقبور، قبل أن تعود بقوة بعد الثورة الإسلامية، وتُسجّل ضمن التراث العالمي غير المادي لليونسكو.

 

التعزية ليست مجرد سرد لتاريخ مأساوي، بل هي فعل مقاومة رمزي، يُعيد إنتاج مفاهيم الخير والشر، ويُرسّخ قيم البطولة والوفاء. كما أنها تُشكّل مدرسة فنية قائمة بذاتها، لها قواعدها ومصطلحاتها، وتُورّث من جيل إلى جيل، ما يجعلها جزءاً حياً من الذاكرة الجماعية الإيرانية.

 

 

من الأسطورة إلى الشعيرة

 

يعتقد بعض الباحثين أن جذور التعزية تعود إلى آلاف السنين قبل الإسلام، حين كان الإيرانيون يحيون ذكرى المحارب الأسطوري «سياوش» عبر شعائر نحيب ورثاء. لكن الشكل الرسمي للتعزية كما نعرفه اليوم بدأ في القرن الرابع الهجري، حين أمر «معز الدولة البويهي» بإغلاق الأسواق في بغداد وارتداء السواد في العاشر من محرم، إيذاناً ببدء مراسم الحداد.

 

 

بداية التعزية في ايران

 

يعتقد الخبير في الشؤون الدينية حجة الإسلام يدالله حاجي‌زاده أن بداية التعزية تعود إلى عصر الدولة الزندية.

 

ويقول: في عصر الزندية، استمرّت إقامة مجالس الرثاء والعزاء. لدينا في هذا العصر تقارير من رحّالة غربيين تحدّثوا عن المنابر، والنوح، واللطم، والتعزية.

 

وبناءً على هذه التقارير، يعتبر بعض الباحثين أن بداية التعزية كانت في هذا العصر تحديداً. ومن بين التقارير التاريخية الأخرى، توجد شهادات تصف تحرك مواكب العزاء مصحوبة بشمائل وصور خاصة.

 

العصر الذهبي للتعزية

 

بلغت التعزية ذروتها في العصر القاجاري، خاصة في عهد ناصر الدين شاه، الذي أمر ببناء «تكيه دولت» في طهران، وهي صالة عرض ضخمة خُصصت لعروض التعزية، مستوحاة من المسارح الأوروبية. في تلك الفترة، أصبحت التعزية وسيلة شعبية للتعبير عن الحزن، لكنها أيضاً تحوّلت إلى أداة سياسية وثقافية، تعكس صراع المستضعفين ضد المستكبرين، وهي سردية تبنّتها الثورة الإسلامية لاحقاً.

 

حيث كانت تُقام هذه الشعائر في مختلف المدن، وكان عادةً يبدأ أحدهم بقراءة الرثاء، لكن مع مرور الزمن أُلغيت هذه القراءة الافتتاحية، لا سيّما في فترة حكم ناصر الدين شاه حيث نشهد ازدهاراً ملحوظاً للتعزية. وقد وصف الكاتب البريطاني «تشارلز جيمس ويلز»، الذي عاش في إيران خلال حكم ناصر الدين شاه القاجاري، مراسم العزاء والتعزية في أصفهان، وكتب أن جميع الناس من نساء ورجال، فقراء وأغنياء، كانوا يرتدون الملابس السوداء ويشاركون في مجالس الرثاء.

 

كذلك، كانت تُصرف مبالغ كبيرة على إقامة مراسم عزاء الإمام الحسين(ع). كما ورد في تقرير من أحد الرحّالة الفرنسيين الذين زاروا إيران في عهد محمد شاه القاجاري، عن إقامة التعزية في الطرقات العامة، والتكيّات، وساحات المساجد، وحتى داخل القصور الكبرى بطهران.

 

 

فن التعزية.. بين الشعر والمسرح

 

تُعرف التعزية أيضاً باسم «تشابيه» أو «تعزية‌ خواني»، وهي عروض تعتمد على الشعر والإنشاد أكثر من الأداء التمثيلي. يُطلق على من يؤلف النصوص اسم «باني»، بينما يُدير العرض «مدير التعزية»، ويُطلق على الممثلين «قارئو التشابيه». وتُعرض مشاهد من واقعة كربلاء، حيث يُجسَّد الإمام الحسين(ع)، وأصحابه، وأعداؤه، في سردية درامية مؤثرة.

 

 

التعزية اليوم تراث حيّ ومقاوم

 

أصبحت التعزية جزءاً من الهوية الثقافية الإيرانية، تُعرض اليوم في مختلف المدن الإيرانية، وتُعد وسيلة للتعبير عن الحزن الجماعي، لكنها أيضاً منصة فنية تُقاوم النسيان، وتُجدد العهد مع قيم التضحية والعدالة.
في عام 2010، تم تسجيل التعزية ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو، اعترافاً بقيمتها الفنية والروحية العالمية.

 

 

عناصر التعزية

 

التعزية مزيج من الألوان، الشعر، والموسيقى، وتُعرض غالباً في مناسبات الحداد على الأولياء أو الأعزاء الراحلين. وهي مسرحية دينية تُجسّد صراع الخير والشر.

 

هيكل التعزية المسرحي

 

التعزية تُعرض شعرياً مع موسيقى، وتُراعى فيها قواعد المسرح: مخرج، ممثلون، نص، ملابس، مكياج، وديكور. يُطلق على كل عرض اسم «مجلس»، والممثلون يُسمّون «شبيه ‌خوان»، والمخرج «معين ‌البكا»، والكاتب «مقتل‌نویس»، والنص يُسمّى «جُنك»، أما المنتج فهو «باني».

 

 

مراحل العرض

 

– التمهيد: دخول جماعي وإنشاد عن الشخصية.

 

– الحدث الجانبي: قصة قصيرة تمهيدية.

 

– الواقعة: الحدث الرئيسي ويستغرق 3-4 ساعات.

 

 

فئات الممثلين

 

– موافق‌خوان (الأبطال): يرتدون الأبيض والأخضر، لهم أصوات جميلة ويؤدّون بأجهزة إنشادية خاصة مثل «بنجكاه و جهاركاه.»

 

– إمام‌ خوان: أكثرهم خبرة ووقاراً.

 

– شهادت خوان: يُقتل في نهاية العرض.

 

– بجه ‌خوان: الأطفال الذين يبدأون بأدوار بسيطة.

 

– حُر‌خوان: شخصية رمادية تُجسّد التردّد.

 

– زنانه خوان: رجال يؤدّون أدوار نسائية بصوت ناعم.

 

– مخالف‌ خوان (الأشرار): يرتدون الأحمر والوردي، صوتهم زمخت وحاد، يدخلون وسط موسيقى صاخبة.

 

– شمر‌خوان: قائد الشر، يُجسّد عداوة شديدة.

 

– تخت‌ خوان: يؤدّون أدوارهم جالسين لكبر السن.

 

– نعش: حضور بلا حوار، مثل الكومبارس.

 

 

الموسيقى روح التعزية المتحركة 

 

فرقة مكوّنة من سبعة أشخاص يعزفون على الطبل، الدهل، الصنج، السُرنا، والبوق. تسعى هذه الفرقة من خلال أدائها إلى تغيير أجواء المسرح. يُعزف كل آلة في وقت محدد؛ على سبيل المثال، يُستخدم الطبل عند دخول الأشخاص، أما الصنج فيرافق ضربات السيوف في ساحة المعركة. لا تُرافق هذه الموسيقى أبداً بالإنشاد أو أداء الـ «شبيه‌ خوان‌ها» (مؤدّو المشاهد).

 

ولكل «شبيه‌ خوان» مقام صوتي خاص به؛ على سبيل المثال، من يؤدّي دور الإمام يقرأ في مقام «بنج‌كاه» و «رهاوي»، أما من يؤدّي دور سيدنا العباس(ع) فينشد في مقام «جهار‌كاه»، والمعارضون (مخالف‌خوان‌ها) يستخدمون مقام «سه‌كاه».

 

لا توجد مدارس رسمية للتعزية، بل تُنقل من جيل إلى جيل. يبدأ الطفل بدور «بجه ‌خوان»، ثم يتدرج حسب صوته إلى أدوار إيجابية أو سلبية، أو حتى أدوار نسائية.

 

المصدر: الوفاق/ خاص