زيارة موسكو.. شراكة تركية – روسية على الأرض السورية

‏في سياق إقليمي شديد التعقيد، حملت زيارة الوفد السوري الرفيع إلى موسكو أكثر مما بدا على السطح ، فالزيارة، التي جرى ترتيبها بالتنسيق مع أنقرة، ‏والتي شارك فيها مستشار الأمن القومي السوري الجديد ماهر الشرع، لم تكن فقط خطوة دبلوماسية تقليدية.

بل محاولة لإعادة صياغة دور دمشق في معادلات يُرسم معظمها خارج حدودها. وحضر الوفد السوري، المكوّن من وزير الخارجية أسعد الشيباني، وزير الدفاع مرهف أبو قصرة، ورئيس الاستخبارات حسين سلامة، إلى موسكو ليس من موقع العداء أو الندية، بل من موقع الباحث عن توازن ممكن، تحت سقف تفاهم روسي – تركي آخذ في التبلور.‏ ‏‏في خلفية هذه الزيارة، يقف التفاهم الروسي – التركي كأرضية صلبة يُعاد تشكيل المشهد السوري فوقها.

 

 

كانت تركيا هي الطرف الأكثر حضوراً في مداولات ما قبل اللقاء، وهي التي دفعت باتجاه فتح القنوات السياسية بين دمشق وموسكو، بعد سلسلة تفاهمات أمنية حصلت في الساحل والشمال. و‏دمشق، التي تُحاول ترميم صورتها كسلطة ذات سيادة، وجدت نفسها مضطرة للمضي بهذا المسار، ليس فقط لكسر عزلتها، بل لضمان الحد الأدنى من الشراكة في الملفات الكبرى، من الساحل إلى الغاز، ومن الأقليات إلى الملف الكردي وصولاَ للتخوف من المشروع الإسرائيلي .

 

 

‏في قلب المحادثات، كان الساحل السوري. ففي حين تُحاول دمشق ضبط إيقاع الأمن والسيادة في هذه المنطقة الحساسة، يبدو أن الحقائق على الأرض تتجاوز إمكانياتها. التموضع التركي المتسلل في بعض مناطق الساحل، يحتاج إلى غض الطرف الروسي عن ذلك، تجنباَ لإستفزاز الاسرائيلي شكّلا محوراً أساسياً في التفاهم الجاري.

 

‏المطلوب من دمشق هنا لم يكن إملاء الشروط، بل القبول بواقع إقليمي يتشكّل تدريجياَ ، مع الحفاظ على السيطرة الشاملة أولاَ ثم الرمزية بمرحلة لاحقة بحيث لا يُستخدم الساحل كمنصة للاشتباك الإقليمي، لا مع “إسرائيل” ولا أوروبا التي تتوجس من الفصائل الخارجة عن التفاهم الثلاثي.

 

 

‏أحد البنود التي طُرحت بجرأة نسبية هو ملف الاتفاقيات النفطية التي وقّعها النظام السابق مع الروس، ومنحت موسكو امتيازات تنقيب واحتكار شبه مطلق في البحر المتوسط رغم النبرة الرسمية التي تحدث بها الوفد السوري عن ضرورة “المراجعة”، إلا أن المراقبين في موسكو لاحظوا أن الهامش التفاوضي محدود جدا، وأن أي تعديل لن يتم إلا عبر تفاهم تركي – روسي مبدئي.

 


‏أما الديون الروسية، فقد طُرحت بحذر، مع طلب سوري بإعادة جدولتها، مقابل تثبيت تعاون طويل الأمد، أمني واقتصادي، مع التزام سوري بعدم استهداف المصالح الروسية أو المساس بقواعدها العسكرية في طرطوس وحميميم مقابل الإلتزام بالإتفاقيات العسكرية المبرمة بخصوص الإمداد بالذخائر للأسلحة الخفيفة والمتوسطة .

 

 

‏أحد الأبواب التي تم التطرق إليها، من خلف ستار، هو ملف الأقليات الدينية، وخصوصا بعد أحداث السويداء والتعديات على الكنائس الأرثوذكسية. أرادت دمشق من موسكو أن تكون شريكا في حماية هذا التنوّع، لكن دون العودة إلى خطاب “الحماية الطائفية”.

 


‏روسيا، من جانبها، لم تُخفِ أنها ترى في هذا الملف وسيلة للتواصل مع إسرائيل، التي تُراقب بقلق تمدد النفوذ التركي على مقربة من حدودها، وخوفها من عودة موطىء قدم لإيران مستقبلاَ لذلك تُفضّل شراكة روسية – سورية تحفظ توازنات ما بعد الأسد، وتضمن استمرار اللعب على ورقة الأقليات من دون صدامات مباشرة مع أحد .

 

 

‏‏في ما يخص “قسد”، لم يكن هناك توافق فعلي، بل مجرد تفاهم ضمني على ضرورة “احتواء الموقف”، مع الإشارة التركية الواضحة إلى أن صبرها له حدود. روسيا، التي لطالما لعبت على الحبلين، بدأت تميل تدريجياً لصالح موقف أنقرة، في مقابل وعد تركي بعدم توسيع نفوذها في العمق السوري وهذه رغبة اسرائيلية تحتاج للكفالة الروسية . ‏أما فرضية الوجود الإيراني في الساحل، فكان أحد المواضيع التي تم التفاهم عليها ضمنيا. ‏وهو أمر غير متاح وغير وارد لأسباب وظروف عديدة .‏

 

 

‏ما خرجت به موسكو من هذه الزيارة لم يكن مجموعة تفاهمات واضحة، بل خارطة طريق لعلاقة ثلاثية: روسية – تركية ـ سورية – بإنتظار إعادة الترتيب الإقليمي . ‏السلطة السورية الجديدة، رغم محاولتها تقديم نفسها كدولة ذات قرار، ما تزال في موقع انتظار المعطيات الإقليمية قبل أن تُقرر كيف تتحرك. وهذا الأمر غير المعلن، هو ما سمح بتمرير تفاهمات كبرى تمس السيادة والثروات، مقابل وعود بدعم دولي وانفتاح تدريجي على الخليج وأوروبا.

 


‏ خاتمة: من يملك مفاتيح ‏الزيارة كانت حدثًا سياسيًا كبيرًا، لكن ليست دمشق من كتب فصوله الأولى، بل من أنقرة انطلقت الفكرة، وفي موسكو نُسّق السيناريو، وعلى طاولة صغيرة جلس الوفد السوري، حاملا حزمة مطالب مشروعة، ولكن بهامش ضئيل للمناورة. ف‏هل نحن أمام شراكة جديدة؟ أم أننا في مرحلة “الوصاية المنظمة”، حيث تُرسم التفاهمات فوق الساحة السورية، بوجود سلطات ، تُدير المشهد بأدوات محدودة، وتحاول أن تحجز لنفسها مقعدا في قطار ليس معلوماَ متى موعد إنطلاقه .

 

 

 

المصدر: العالم