موسكو وبكين تعيدان تشكيل موازين القوى

تحالف يُكتب بالمدمرات والغواصات.. بوصلة جديدة للنفوذ العسكري العالمي

لم يعد بحر اليابان مجرد مساحة مائية بين اليابان وروسيا، بل بات رمزاً لتحولات أعمق تعيد رسم خرائط التحالفات وتعيد تعريف مفاهيم الأمن الإقليمي، وتكتب فصول جديدة من التاريخ العسكري والدبلوماسي قد تحدد مستقبل المنطقة لعقود قادمة

في قلب مياه بحر اليابان، وعلى أصوات هدير المدمرات والغواصات، يُعاد اليوم رسم حدود الجغرافيا السياسية من جديد. لم تكن المناورات البحرية المشتركة بين روسيا والصين في شهر أغسطس/ آب 2025 مجرد تدريبات عسكرية روتينية، بل جاءت كبيان استراتيجي صارخ يصرّ على فرض واقع عالمي جديد، تتزاحم فيه القوى لإثبات نفوذها بعيدًا عن القطب الواحد.
وسط التوترات المتصاعدة بين الشرق والغرب، وتصاعد السباق نحو التسليح البحري، تعكس هذه التحركات العسكرية تحولًا عميقًا في مفاهيم الأمن والتعاون الدولي. بينما كانت الأنظار تتجه نحو بحر الصين الجنوبي، قررت موسكو وبكين أن يكون بحر اليابان هو مسرح المرحلة القادمة — حيث تختلط الرسائل الدفاعية بالرموز السياسية، وتلعب المدمرات دور المفاوضين على سطح المياه العميقة.
فما الذي يدفع القوتين العظميين إلى استعراضٍ بهذا الحجم؟ وما الرسائل الخفية خلف التشكيلات البحرية والدعم اللوجستي؟ وهل أصبحت البحار المنصات الجديدة لإعادة هندسة النظام العالمي؟ أسئلة كثيرة تأخذنا إلى قلب «التفاعل البحري 2025» الذي يبدو أنه أكثر من مجرد تمرين، إنه إعلان وجود وتحول في قواعد اللعبة.
بحر اليابان.. ساحة اختبار جديدة للتحالفات
في قلب شرق آسيا، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى وتتشابك خطوط النفوذ، برز بحر اليابان في  السنوات الأخيرة كمسرح متجدد للصراع الجيوسياسي، لا يقتصر على التنافس العسكري فحسب، بل يمتد ليشمل إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية والدولية. هذا البحر، الذي يفصل الأرخبيل الياباني عن شبه الجزيرة الكورية وسواحل روسيا الشرقية، لم يعد مجرد ممر مائي استراتيجي، بل تحوّل إلى ساحة اختبار حقيقية لمدى صلابة التحالفات وقدرتها على الصمود أمام التحديات المتسارعة. اختيار روسيا والصين لهذا البحر كموقع لانطلاق مناوراتهما المشتركة تحت عنوان «التفاعل البحري 2025» لم يكن قرارًا عشوائيًا، بل جاء مدروسًا بعناية، يعكس إدراكًا عميقًا لأهمية هذا الموقع الجغرافي الحساس. فالبحر يجاور قواعد عسكرية أمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية، ويشهد حركة تجارية كثيفة تمر عبر ممراته البحرية، ما يجعله نقطة تماس مباشرة بين القوى الإقليمية والدولية. العلاقات العسكرية بين موسكو وبكين لم تكن وليدة اللحظة، بل تمتد جذورها إلى أوائل القرن الحادي والعشرين، حين بدأت الدولتان بتنظيم تدريبات مشتركة ضمن سلسلة «مهمة السلام»، التي شكلت اللبنة الأولى في بناء الثقة العسكرية بينهما. ومع تصاعد الضغوط الغربية على روسيا، خاصةً بعد أزمة أوكرانيا، وجدت موسكو في بكين شريكًا استراتيجيًا يمكن الاعتماد عليه، بينما رأت الصين في روسيا بوابة لتعزيز حضورها العسكري في مناطق كانت تُعتبر تقليديًا ضمن النفوذ الغربي. مناورات «التفاعل البحري 2025» جاءت لتؤكد هذا التفاهم المتنامي، وتُظهر قدرة البلدين على التنسيق البحري في بيئة معقدة، تتسم بكثافة التحركات العسكرية وتعدد المصالح المتضاربة. ورغم تأكيد الطرفين على الطابع الدفاعي لهذه التدريبات، إلا أن الرسائل التي حملتها كانت واضحة: نحن قادرون على العمل المشترك في مناطق حساسة، ونملك من الجاهزية ما يكفي لمواجهة أي تحدٍ محتمل.
في هذا السياق، لم يعد بحر اليابان مجرد مساحة مائية تفصل بين اليابان وروسيا، بل بات رمزًا لتحولات أعمق، تُعيد رسم خرائط التحالفات وتُعيد تعريف مفاهيم الأمن الإقليمي، وتُكتب فصول جديدة من التاريخ العسكري والدبلوماسي، قد تحدد مستقبل المنطقة لعقود قادمة.
 استعراض القوة في قلب بحر اليابان
في صباح الأول من أغسطس/ آب، تحركت أمواج بحر اليابان على وقع أصوات  المدمرات والغواصات، معلنةً انطلاق مناورات «التفاعل البحري 2025» التي جمعت بين الأسطولين الروسي والصيني في مشهد عسكري غير مسبوق من حيث الحجم والتنسيق. لم تكن هذه المناورات مجرد استعراض تقني، بل كانت بمثابة رسالة استراتيجية موجهة إلى العالم، مفادها أن التحالفات تتغير، وأن البحار باتت مسارح جديدة للصراع والتفاهم. قاد الجانب الروسي المدمرة المضادة للغواصات «الأدميرال تريبوتس»، وهي سفينة ذات سجل طويل في العمليات البحرية، بينما تولّت المدمرة الصينية «شاوشينغ» قيادة التشكيلات القادمة من الشرق. إلى جانب هاتين السفينتين، شاركت غواصات ديزل-كهربائية من كِلا الطرفين، ما أضفى على المناورات طابعًا تكتيكيًا متقدمًا، خصوصًا في مجال مكافحة الغواصات والعمليات تحت سطح البحر. لم تقتصر التدريبات على البحر فقط، بل امتدت إلى الشواطئ الروسية، إذ أُنشئ مقر قيادة مشترك في مدينة فلاديفوستوك، ليكون مركزًا لتنسيق العمليات وتبادل المعلومات بين الطرفين. هناك، اجتمع ضباط من الجيشين لتخطيط سيناريوهات افتراضية، تضمنت عمليات بحث وإنقاذ، تدريبات على الدفاع الجوي، ورمايات مدفعية مشتركة في ميادين قتالية تابعة لأسطول المحيط الهادئ. اللافت في هذه المناورات كان حجم المشاركة الصينية، حيث وصلت إلى فلاديفوستوك مجموعة بحرية ضخمة تضم المدمرتين «شاوشينغ» و«أورومتشي»، إلى جانب غواصة ديزل-كهربائية وسفينة إمداد متكاملة تُدعى «تشيانداوهو»، وسفينة إنقاذ الغواصات «سيهو». هذه القطع البحرية رست جنبًا إلى جنب مع السفن الروسية، مثل الفرقاطة «غرومكي»، والغواصة «فولخوف»، وسفينة الإنقاذ «إيغور بيلووسوف»، في مشهد يعكس حجم التنسيق اللوجستي والتقني بين البلدين.
وبعد انتهاء المناورات، أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية أن جزءًا من القوات المشاركة سيواصل مهمته عبر دورية بحرية سادسة مشتركة في مياه المحيط الهادئ، ما يشير إلى أن هذه التدريبات ليست حدثًا معزولًا، بل جزء من خطة استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تعزيز الحضور البحري المشترك في مناطق حساسة.
عندما تتحدث المدمرات بلغة السياسة
لم تكن مناورات «التفاعل البحري 2025» مجرد حدث عسكري تقني، بل جاءت محمّلة برسائل سياسية ودبلوماسية عميقة، تتجاوز حدود بحر اليابان لتصل إلى عواصم القرار العالمي. ففي ظل تصاعد التوترات بين القوى الكبرى، وتنامي النزعة نحو الاستقطاب، اختارت روسيا والصين أن تُظهرا تناغمهما العسكري في منطقة حساسة، كمن يقول: «نحن هنا، ونملك أدوات الردع والتأثير».
الرسالة الأولى كانت موجهة إلى الولايات المتحدة وحلفائها في آسيا، خاصةً اليابان وكوريا الجنوبية. فالمناورات جاءت في توقيت يشهد فيه المحيط الهادئ سباقًا محمومًا نحو التسلح البحري، وتكثيفًا للوجود العسكري الأمريكي في قواعده المنتشرة على طول السواحل الآسيوية. عبر هذه التدريبات، أرادت موسكو وبكين أن تظهرا قدرتهما على التنسيق العملياتي، وتقديم نموذج بديل للتحالفات الغربية، دون الحاجة إلى ضجيج إعلامي أو تهديدات مباشرة.
أما الرسالة الثانية، فكانت موجهة إلى الدول الإقليمية التي تراقب المشهد من بعيد، مثل كوريا الشمالية، الهند، ودول أخرى. المناورات حملت إشارات إلى أن التعاون العسكري بين روسيا والصين لم يعد مقتصرًا على التنسيق السياسي، بل تطور إلى مستوى التخطيط المشترك، القيادة الموحدة، وتبادل الخبرات الميدانية، ما يفتح الباب أمام تحالفات أوسع قد تشمل أطرافًا جديدة في المستقبل. الرسالة الثالثة كانت داخلية، موجهة إلى شعبي البلدين. ففي ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها روسيا بسبب العقوبات الغربية، والتوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة، جاءت هذه المناورات لتؤكد أن البلدين لا يزالان قادرين على فرض حضورهما في الساحة الدولية، وأن التعاون بينهما ليس مجرد خيار تكتيكي، بل استراتيجية طويلة الأمد.
ولعل أبرز ما يميز هذه الرسائل هو أنها جاءت مغلفة بلغة «الدفاع»، حيث شدد الطرفان على أن المناورات لا تستهدف أي دولة، وأنها تهدف إلى تعزيز الأمن البحري والتنسيق في حالات الطوارئ. لكن في عالم السياسة، لا تُقرأ التصريحات كما تُقال، بل كما تُفهم. وهنا، فهمت القوى الغربية أن بحر اليابان لم يعد منطقة نفوذ أحادية، بل بات ساحة مفتوحة لتوازنات جديدة، تُرسم بالمدمرات والغواصات أكثر مما تُرسم بالبيانات الدبلوماسية.
سيناريوهات المستقبل بين موسكو وبكين
في ظل التوترات العالمية المتزايدة، يبدو أن التعاون العسكري بين روسيا والصين لم يعد مجرد رد فعل على الضغوط الغربية، بل تحول إلى ركيزة استراتيجية تسعى بواسطته الدولتان إلى إعادة تشكيل النظام العالمي. 
وهكذا يبدو أن «التفاعل البحري 2025» ليس مجرد تمرين عسكري، بل هو مؤشر على مرحلة جديدة من العلاقات الدولية، حيث تتحول التحالفات من كونها ردود فعل إلى أدوات لإعادة تشكيل العالم. وبين مدمرات «الأدميرال تريبوتس» و«شاوشينغ»، وبين خرائط فلاديفوستوك وخطط بكين، تُكتب فصول جديدة من التاريخ، قد تحدد ملامح العقود القادمة. ومع استمرار التوترات في بحر الصين الجنوبي، والقرصنة في البحر الأحمر، والتدخلات في الخليج الفارسي، يصبح من الضروري أن تتبنى الدول الكبرى نهجًا أكثر تعاونًا، لا تنافسيًا، في إدارة الفضاءات البحرية. فالمحيطات لا تنتمي لأحد، لكنها تؤثر على الجميع. ومن هنا، فإن مناورات «التفاعل البحري 2025» ليست فقط تمرينًا عسكريًا، بل هي دعوة لإعادة التفكير في مفهوم الأمن البحري، وفي كيفية بناء شراكات تحمي البحار من أن تتحول إلى ساحات صراع دائم.
المصدر: الوفاق/ خاص

الاخبار ذات الصلة