مواكب الأربعين؛ جغرافيا الضيافة وخرائط الوعي الثقافي
في أربعين الإمام الحسين(ع)، لا تسير الأقدام فقط نحو كربلاء المقدسة، بل تتحرك مفاهيم العطاء والمقاومة والهوية نحو ذروتها. المواكب، تلك المنشآت المؤقتة على طريق النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة، تبدو لأول وهلة كأماكن للإيواء والضيافة، لكنها في جوهرها تتجاوز الدور الخدمي لتُشكّل بنية تحتية ثقافية واجتماعية متكاملة تُعيد رسم العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين التاريخ والحاضر، وبين الروح والمكان.
بحسب الإحصاءات الرسمية، شارك أكثر من 5000 موكب إيراني، وقرابة 75 ألف موكب عراقي في أربعينية هذا العام، لتكون هذه البنية الخدمية بمثابة شريان الحياة لملايين الزائرين. بعض المواكب مثل راية العباس(ع) أو السيدة فاطمة الزهراء(س) وفّرت إقامات ضخمة تصل إلى 5000 زائر، وخدمات طبية واتصالات وإنترنت مجانية، في حين تخصصت مواكب أخرى كـموكب النساء الفاطميات وموكب الزينبية بتلبية حاجات الأمهات والرضّع.
لكن الأبرز لم يكن في الأرقام، بل في التخصص، مثل مواكب «إمام زادكان» أي «أحفاد الأئمة» التي تبنّت خطاباً ثقافياً وتنسيقياً بين المؤسسات الدينية، أو موكب الصمّ في البصرة الذي تحدّى حدود الجسد ليمنح معنى جديداً للخدمة الحسينية.
المواكب كمراكز إنتاج معرفي
ليست المواكب مجرد أماكن راحة، بل تحولت إلى مختبرات صغيرة للوعي الحسيني. ففي موكب كتاب حسيني، ينتقل الكتاب من رفوف المكتبات إلى الطرقات، وتقام أنشطة أدبية، وحملات للمطالعة، ومحافل للأطفال والناشئة. وفي المقرّ الشعبي القرآني يتم تمويل 90 موكباً قرآنياً، وتنفيذ مشروع سفير الآيات الذي ينشر 1500 موكب قرآني فردي يحمل المحتوى والرسالة.
القافلة الشبابية «أُسوة» لا تكتفي بتلاوة القرآن بل تُخطط لإنشاء حلقات معرفية وسرد روائي وكتابة يوميات، في انتقال واضح من الاستهلاك الديني إلى التفاعل والنقد والنشر.
حتى إذاعة «راديو قرآن» دخل الميدان، ببثٍ حيّ للأذان من كربلاء المقدسة، وتغطية محافل قرآنية على الطريق، بما يشير إلى رغبة في جعل الإعلام الديني أداة تواصل حيّ لا مجرد منبر تعليمي.
في مدينة سامراء المقدسة، حيث يقع بيت والد الإمام المهدي(عج) وحرم الإمامين العسكريين(ع)، تتلاقى روافدٌ متعددة من الخدمة والوعي الثقافي، لترسم لوحةً استثنائية من الانتماء الحسيني، بعيداً عن الطقوس الشكلية، واقتراباً من روح المقاومة والبذل والإصلاح.
كانت سامراء المقدسة لسنوات خارج الخط الرئيسي لمسار الأربعين، لكن في السنوات الأخيرة، أصبحت وجهة روحية مركزية، خصوصاً مع تنظيم موكب النساء بسعة 3500 زائرة، وافتتاح شايخانة الإمام الرضا(ع)، وتوفير إنترنت مجاني، ورفع قدرة مواقف السيارات إلى 15 هكتاراً. هذا النموذج يُظهر كيف أن المواكب لا تخدم الزائرين فقط، بل ترفع المدينة أيضاً نحو إشعاع ثقافي وروحي جديد.
فضاء نسوي آمن ومنظم
من أبرز المشاهد في هذا الموسم الحسيني، ما شهده موكب السيدة فاطمة الزهراء (س) من تنظيمٍ متقنٍ لخدمة ٣٥٠٠ زائرة يومياً، في فضاء خاص منع فيه دخول الرجال حرصاً على خصوصية النساء. يشمل المكان خدمات متكاملة:
التكييف لمواجهة حرارة شهر صفر التي تتجاوز ٤٥ درجة، قسم لغسل الملابس بسعة ١٢٠٠ شخص يومياً، خدمات خياطة وإنتاج يومي للثلج،80 دورة مياه مصممة بعناية صحية.
هذا النموذج يجسّد كيف يمكن لفضاء نسوي أن يتحول إلى موئل للراحة والتعبّد، بعيداً عن ضغط الزحام والحرارة، ويدل على فكرٍ إداري مستقبلي في تهيئة المدينة للمزيد من الزائرات.
في مشهد مهيب بمدينة البصرة، يُقدم مجموعة من الصمّ العراقيين خدماتهم للزائرين عبر موكب مخصص، ويُكرّمون من قبل خدام العتبة الرضوية بشال وكتيبة عزاء. هذه المبادرة تُثبت أن الخدمة الحسينية لا تحتاج إلى نطقٍ، بل إلى روحٍ تنتمي وتُعطي، وأن البذل في سبيل الحسين(ع) يشمل الجميع، بغض النظر عن القدرات الجسدية.
في مسيرة من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة، تتحرك قافلة «أُسوة» القرآنية التي تضم نخبة من القرّاء الشباب من الجمهورية الإسلامية، حاملين معهم أهدافاً تربوية وثقافية: توسيع الخطاب القرآني في جبهة المقاومة، غرس روح الصمود والإيثار، إقامة محافل وحلقات معرفية وسرد روائي، إنتاج مواد إعلامية توثق هذه المسيرة.
بهذا، يُصبح صوت القرآن عاملاً من عوامل التعبئة الثقافية، لا مجرد تلاوة، ويُفتح باب التفاعل بين الشباب والزائرين نحو فهم أعمق للمقصد الحسيني.
نذكر هنا بعض المواكب الإيرانية التي تقدم خدمات للزائرين في أيام الأربعينية:
– موكب راية العباس(ع): في مدينة النجف الأشرف يُعد من أولى الوجهات للزائرين عند دخولهم النجف الأشرف، ويقدم خدمات الإقامة والضيافة بجودة عالية.
– موكب العلويين: في مدينة النجف الأشرف يوفر موكب العلويين إقامة كاملة ووجبات (فطور، غداء، عشاء)، بالإضافة إلى حضانة للأطفال وخدمات طبية على مدار الساعة، مما يجعله خياراً ممتازاً للعائلات.
– موكب السيدة فاطمة الزهراء(س): في العمود 202: من أكبر المواكب في الطريق، يستوعب 5000 زائر للإقامة و6000 زائر للضيافة في كل وجبة.
– موكب الإمام الرضا(ع): في العمود 285، وهو أكبر موكب إيراني في كربلاء المقدسة، يقدّم خدمات الإقامة، أنشطة ثقافية، إنترنت، ومساعدات من الهلال الأحمر.
– موكب سيد الشهداء(ع): من مدينة بوشهر في العمود 736، يضم حسينية كبيرة، ويقدم وجبات (فطور، غداء، عشاء)، إقامة، وعيادة طبية، ويُعد مكاناً مناسباً للراحة واستعادة النشاط.
– موكب طلاب الأمة المحمدية الدولي: في العمود 770، يقدم خدمات طبية، ثقافية (مثل جناح الأطفال وقسم دولي)، وضيافة (وجبتان إلى ثلاث يومياً)، بالإضافة إلى محطة صلوات.
– موكب السيدة فاطمة المعصومة(س): في العمود 1080، من أفضل المواكب، يقدّم خدمات شرعية ومعرفية بأربع لغات، محافل قرآنية، محاضرات ومدائح، جناح للأطفال، مطعم الضيافة، مستشفى ميداني، مركز المفقودين، ومحطات صلوات.
– موكب النساء الفاطميات: من الحوزة العلمية في قم المقدسة، في العمود 1222، مخصص للأمهات والرضع، يقدم إقامة، ضيافة، توزيع مستلزمات صحية للأطفال والأمهات (حفّاضات، حليب، أدوية)، وجبات وهدايا للأطفال، مكان خاص للرضاعة، أسرة للرضع، ومكان لتغيير الحفّاضات ولعب الأطفال.
– موكب زينبية: موكب خاص للنساء في العمود 1403، للسيدات الباحثات عن موكب مخصص، يُعد موكب زينبية خياراً مثالياً، حيث يوفر بيئة مريحة وآمنة للنساء الزائرات.
المواكب ليست حشوداً، بل إرادة شعبية تنتصر للحق. فيها تُمارَس المقاومة بلغة الشاي الساخن، والخياطة، والمجالس، والقصص، والموسيقى، والأذان، والهمس القرآني في الأذن المتعبة.