ملاحقة مسؤولين صهاينة بتهم ارتكاب جرائم حرب في غزة

كريم خان في مرمى النيران.. المحكمة الدولية تتحدّى الترهيب

قضية المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان ليست مجرد خلاف قانوني، بل معركة حقيقية بين العدالة والقوة، بين القانون والمصالح، بين المبادئ والابتزاز

في عالم يُفترض أن تحكمه القوانين الدولية، وتُصان فيه حقوق الإنسان، يواجه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، البريطاني كريم خان، حملة ترهيب غير مسبوقة، تهدف إلى منعه من ملاحقة مسؤولين صهاينة بتهم ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة والضفة الغربية. هذه الحملة، التي كشف تفاصيلها موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، لا تقتصر على الضغوط السياسية والدبلوماسية، بل تشمل تهديدات أمنية مباشرة، وتشويه سمعة، ومحاولات ابتزاز، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول استقلالية القضاء الدولي، وقدرته على مواجهة القوى الكبرى حين يتعلق الأمر بكيان العدو.

 

تغوص هذه المعالجة العميقة في قلب قضية تشكّل إحدى أكثر المحطات حساسية في مسار العدالة الدولية المعاصرة، حيث تكشف الستار عن حملة ترهيب غير مسبوقة يتعرض لها المدعي العام كريم خان، على خلفية محاولاته الجادة لتطبيق القانون على الجرائم المنسوبة لكيان العدو الغاصب في الأراضي الفلسطينية. ليست هذه القضية مجرد اختبار قانوني عابر، بل هي معركة وجودية تُلقي بظلالها على استقلالية القضاء العالمي، وتدفع بالمحكمة الجنائية الدولية إلى مواجهة معقدة مع قوى دولية نافذة تحاول كبح سعيها نحو المساءلة.

 

بين تلاطم التصعيد الدبلوماسي والتهديدات الأمنية المباشرة، تُطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل المحكمة الجنائية الدولية: هل تستطيع الحفاظ على حيادها واستقلاليتها؟ وهل يمكن للعدالة أن تصمد حين تتحول أدواتها إلى أهداف؟ في ظل هذا التصعيد، تتجلى معركة حقيقية بين مبادئ القانون الدولي والنفوذ السياسي، بين مطلب العدالة وواقع الهيمنة. ومن هنا، تصبح القضية أكثر من مجرد حدث؛ إنها انعكاس لتحدي عالمي يمس جوهر النظام القانوني الدولي ويضع العدالة ذاتها في مرمى النار.

 

كريم خان.. المدعي العام يواجه المحظور

 

منذ توليه منصب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، لم يكن كريم خان شخصية مثيرة للجدل. بل على العكس، عُرف عنه الحذر القانوني، والحرص على التوازن في الملفات الدولية. لكن قراره بفتح تحقيقات جدية في جرائم الحرب المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحديداً في قطاع غزة، قلب الطاولة، وجعل منه هدفاً لحملة ترهيب متعددة الأوجه.

خان لم يكتفِ بالتصريحات العامة، بل أصدر مذكرات توقيف بحق بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن السابق يوآف غالانت، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ المحكمة، أثارت عاصفة من الغضب في تل أبيب وواشنطن ولندن. هذه المذكرات، التي تستند إلى أدلة موثقة حول استهداف المدنيين، واستخدام الحصار كأداة حرب، دفعت أطرافاً متعددة إلى محاولة إجهاض المسار القضائي، بأي وسيلة ممكنة.

 

الموساد يدخل على الخط.. التهديدات تتجاوز السياسة

 

وفق التحقيق الذي نشره “ميدل إيست آي”، تلقى خان تحذيرات مباشرة من جهاز الموساد الصهيوني، تفيد بأن حياته وسلامته الشخصية معرضة للخطر إذا لم يتراجع عن مذكرات التوقيف. هذه التهديدات لم تكن مجرد إشارات غامضة، بل جاءت في إطار إحاطة أمنية رسمية، تؤكد وجود نشاط استخباراتي صهيوني داخل لاهاي، ما يشكل تهديداً مباشراً للمدعي العام، ولمنظومة المحكمة بأكملها.

 

التحقيق أشار أيضاً إلى أن أفراداً من عائلة خان، وزملاء مقربين منه، تعرضوا لضغوط وتهديدات، بل إن بعضهم أبلغ ضده في محاولة لتشويه سمعته. هذه الأساليب، التي تُستخدم عادة في الصراعات الاستخباراتية، تكشف عن حجم قلق كيان العدو من المسار القضائي، وعن استعداده لاستخدام كل الأدوات المتاحة لمنع المحاسبة.

 

 بريطانيا وأميركا في مواجهة العدالة الدولية

 

لم تقتصر الضغوط على الجانب الأمني، بل شملت أيضاً ابتزازاً سياسياً مباشراً من قبل حكومات غربية. وزير الخارجية البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، هدّد خان بأن بريطانيا ستقطع التمويل عن المحكمة الجنائية الدولية، وستنسحب منها إذا أصدر مذكرات توقيف بحق المسؤولين الصهاينة. هذا التهديد، الذي جاء في نيسان/أبريل 2024، يعكس حجم التورط البريطاني في حماية كيان العدو الغاصب من المساءلة الدولية.

 

في اليوم التالي، وجّه 12 عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ الأميركي، من بينهم وزير الخارجية الحالي ماركو روبيو، رسالة إلى خان جاء فيها: “استهدف كيان الاحتلال وسنستهدفك”. هذه الرسالة، التي تحمل طابعاً تهديدياً صريحاً، تكشف عن موقف إدارة ترامب من المحكمة، وعن استعدادها لاستخدام نفوذها السياسي والاقتصادي لتقويض العدالة الدولية.

 

السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام ذهب أبعد من ذلك، قائلاً إن خان إذا مضى في إصدار مذكرات التوقيف، “فبإمكانه أيضاً أن يطلق النار على الأسرى بنفسه”، مضيفاً: “سنعاقبك”، ومشدّداً على أن المحكمة “أُنشئت من أجل أفريقيا ولأشرار مثل بوتين، لا لديمقراطيات مثل إسرائيل”، وفق تعبيره. هذا التصريح، الذي يحمل نبرة استعلائية وعنصرية، يفضح النظرة الأميركية للمحكمة، ويؤكد أن العدالة الدولية لا تُقبل إلا حين تكون موجّهة ضد خصوم الغرب.

 

حملات تشويه ومزاعم مضلّلة لتقويض العدالة

 

في إطار الحملة الممنهجة التي تستهدف المدعي العام كريم خان، تداولت بعض المنصات الإعلامية تسريبات تستهدف سمعته الشخصية وتهدف إلى التشكيك في نزاهته ومصداقيته أمام الرأي العام الدولي. وتشير تفاصيل التحقيق إلى أن المدّعية التي قدمت شكوى ضد خان تُعرف بأنها ذات سجل سابق في إطلاق مزاعم مشابهة بحق شخصيات مختلفة، وهو ما يثير التساؤلات حول خلفية الاتهامات ومدى ارتباطها بمحاولات الضغط على المحكمة.

 

كما قدّم أحد الشهود الرئيسيين شهادة تبرئ خان مما نُسب إليه، مؤكداً أنه تعرض بدوره لمضايقات داخل أروقة المحكمة نتيجة موقفه الداعم له. هذا التسلسل من الأحداث يسلط الضوء على استغلال آليات القضاء الداخلي كأداة للتأثير السياسي، وعلى وجود تحركات منسقة تهدف إلى عرقلة المسار القانوني المستقل الذي يضع انتهاكات كيان العدو الغاصب تحت المجهر القضائي الدولي.

 

المحكمة الجنائية الدولية بين الاستقلال والارتهان

 

القضية لا تتعلق بشخص كريم خان فقط، بل بمستقبل المحكمة الجنائية الدولية كمنصة للعدالة العالمية. إذا نجحت الضغوط والتهديدات في إجبار المحكمة على التراجع، فإن ذلك سيشكّل سابقة خطيرة، ويقوّض مصداقيتها، ويحوّلها إلى أداة سياسية بيد القوى الكبرى.

 

المحكمة، التي أُنشئت لمحاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والإبادة الجماعية، تواجه اليوم اختباراً حقيقياً: هل تستطيع أن تلاحق الجناة، مهما كانت مناصبهم، ومهما كانت الدول التي تحميهم؟ أم أنها ستخضع للابتزاز، وتتحول إلى مؤسسة عاجزة عن تنفيذ ولايتها؟

 

الجواب عن هذا السؤال لا يتعلق فقط بالقانون، بل بالإرادة السياسية للدول الأعضاء، وبقدرة المجتمع الدولي على حماية استقلال القضاء، وبموقف الشعوب من العدالة، حين تكون مهددة من قبل من يفترض أنهم حماة القانون.

 

العدالة الدولية لا تزال رهينة المصالح السياسية

 

حتى الآن، لم تصدر مواقف قوية من الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية تدين الحملة ضد خان، أو تعلن دعمها له بشكل واضح. هذا الصمت، الذي يرقى إلى التواطؤ، يعكس حجم النفوذ الصهيوني والغربي داخل المؤسسات الدولية، ويطرح تساؤلات حول جدوى وجود المحكمة إذا كانت عاجزة عن حماية موظفيها.

 

بعض المنظمات الحقوقية أصدرت بيانات تضامن، لكن تأثيرها ظل محدوداً، في ظل غياب موقف رسمي من الأمم المتحدة، أو من الاتحاد الأوروبي، أو من الدول الكبرى التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان. هذا الغياب يضعف موقف المحكمة، ويشجع على مزيد من الترهيب، ويؤكد أن العدالة الدولية لا تزال رهينة المصالح السياسية.

 

العدالة في مواجهة القوة.. من ينتصر؟

 

قضية كريم خان ليست مجرد خلاف قانوني، بل معركة حقيقية بين العدالة والقوة، بين القانون والمصالح، بين المبادئ والابتزاز. المدعي العام الذي قرر أن يواجه المحظور، ويلاحق مسؤولين صهاينة بتهم جرائم حرب، يواجه اليوم حملة ترهيب غير مسبوقة، تهدف إلى إسكات صوت العدالة، وتكريس الإفلات من العقاب.

 

لكن هذه المعركة، مهما كانت قاسية، تفتح الباب أمام نقاش عالمي حول مستقبل القضاء الدولي، وحول قدرة المؤسسات على حماية حقوق الشعوب، ومحاسبة الجناة، مهما كانت مناصبهم، ومهما كانت الدول التي تحميهم.

 

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً: هل تنتصر العدالة، أم تنكسر أمام سطوة السياسة؟ وهل يستطيع العالم أن يحمي من يجرؤ على قول الحقيقة، أم أن الحقيقة ستظل ضحية المصالح؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ستحدد ليس فقط مصير كريم خان، بل مصير العدالة الدولية بأكملها.

 

المصدر: الوفاق