لكن الشَّريعة تأخذ بعين الاعتبار الفروق الفطريَّة التي تميِّز طبيعة كلٍّ منهما، فتفرض على كلِّ طرف واجبات تتناسب مع تركيبه البيولوجي والنَّفسي، وهو أمر ينبع من حكمة ربَّانيَّة متقنة. فلا يجوز إغفال أنَّ لكلٍّ منهما صفات ومقوِّمات تختلف عن الآخر، وهذا الاختلاف لا يقلل من قيمة أي منهما؛ بل يكمل بينهما التَّوازن في الحياة الاجتماعيَّة والشَّرعيَّة.
ويمكن تشبيه هذا الأمر بوظيفة العظم والغضروف في جسم الإنسان؛ فالعظم هو الرَّكيزة التي تمنح الجسم الثَّبات والصَّلابة، أمَّا الغضروف فهو المسؤول عن المرونة والحركة، وكلاهما ضروري لاستقامة الجسم وأداء وظائفه. وإذا تمَّ التَّعامل مع العظم والغضروف على هيئة كيان واحد متجانس من دون تمييز، فسيصاب الجسم بالشَّلل أو الإعاقة. وهكذا، فإنَّ تجاهل الفروق الدَّقيقة بين الرَّجل والمرأة في تحديد الواجبات الشَّرعيَّة سينتهي إلى خلل في النِّظام التَّكليفي الذي وضعه الشَّرع الحكيم، ويعطِّل الأداء الطَّبيعي للأدوار المجتمعيَّة. هذا من جانب.
ومن جانب آخر، إذا افترضنا المساواة الكاملة بين الرَّجل والمرأة في جميع الواجبات والمسؤوليَّات بلا مراعاة لاختلاف طبيعتهما، فإننا نُثقل كاهل المرأة بأعباء لم تُخلق لها، ونحمِّلها ما لا يناسب تكوينها الجسدي والنَّفسي. وهذا أشبه بمحاولة تحميل سيَّارة صغيرة بحمولة شاحنة ثقيلة؛ فمهما كانت جودة هذه السَّيَّارة وأناقتها وكفاءتها، فإنَّ الضَّغط الزَّائد عليها سيتسبب في إنهاكها وتعطيلها عن أداء وظيفتها التي خلقت لها، وقد يتسبب في انهيارها تمامًا. وهكذا، فإنَّ تجاهل طبيعة المرأة لا يُحقق العدالة؛ وإنَّما يظلمها ويُعرِّضها للإرهاق والانكسار تحت شعارات ظاهرها المساواة، وباطنها الإجحاف.
وهذا التَّشبيه يعكس بدقَّة جوهر الحكمة الإلهيَّة في تنظيم الأدوار والواجبات بين الرَّجل والمرأة؛ إذ الرَّجل يتمتع بصفات تؤهله لتحمُّل أعباء معيَّنة، والمرأة لها خصائصها التي تمكِّنها من أداء مهام أخرى تتناسب مع طبيعتها الفطريَّة.
وعليه، فإنَّ تحميل المرأة نفس أعباء الرَّجل في كلِّ ما يتطلَّب قوَّة بدنيَّة أو تحمُّلًا معيَّنًا، سيجعلها عرضة للإرهاق والضَّرر، كما أنَّ تخفيف الأعباء عن الرَّجل بشكل غير ملائم قد يضيع طاقاته ويضعف دوره الاجتماعي؛ لذا، فإنَّ مراعاة هذه الفروق وتنظيم الواجبات بناءً عليها، هو أساس متين لضمان استقرار المجتمع وكفاءته، ويجسِّد حكمة الشَّريعة في وضع كلِّ شيءٍ في موضعه المناسب.
ومن هذا الفهم العميق لتكوين الإنسان وتنوّع احتياجاته، تتجلَّى عظمة الشَّريعة الإسلاميَّة في كونها لا تكتفي بتنظيم العلاقات والواجبات الظَّاهريَّة؛ وإنَّما تمتدُّ لتغذِّي الباطن وتسمو بالرُّوح، فتوجِّه المكلفين نحو النُّضج الفكري والعملي، وتفتح أمامهم سُبلًا متعدِّدة للسير في طريق الكمال.
إنَّ الشَّريعة الإسلاميَّة المباركة تسعى بجدٍّ وإتقان لأن ترشد المكلفين نحو بلوغ أعلى درجات الوعي الفكري والعملي، فتضع أمامهم مناهج متنوعة؛ منها ما هو عام ومنها ما يحمل خصوصيَّة في سبل القرب من الله (تعالى)؛ ومن بين هذه السُّبل العظيمة، تحتل زيارة سيِّد الشُّهداء الإمام الحسين (عليه السلام) مكانة متميِّزة؛ فهي تمثِّل طريقًا أكيدًا نحو الكمال المنشود؛ على اعتبار أنَّها تزوِّد الزَّائر بتجربة فريدة تحقق له المغفرة والرِّضوان الإلهي.
وقد ورد في الحديث الشَّريف عن الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قوله: “مَن زارَ قَبرَ أبي عَبدِ اللّه ِ عليهِ السَّلامُ بِشَطِّ الفُراتِ كَمَن زارَ اللّه َ فَوقَ عَرشِهِ”، ممَّا يدل على عظمة هذه الزِّيارة وما تحمله من أجر وثواب عظيمينِ. وعن بشير الدَّهَّان : كُنتُ أحُجُّ في كُلِّ سَنَةٍ، فَأَبطَأتُ سَنَةً عَنِ الحَجِّ، فَلَمّا كانَ مِن قابِلٍ حَجَجتُ ودَخَلتُ عَلى أبي عَبدِ اللّه ِعليه السلام. فَقالَ لي: يا بَشيرُ، ما أبطَأَكَ عَنِ الحَجِّ في عامِنَا الماضي؟ قالَ: قُلتُ: جُعِلتُ فِداكَ، مالٌ كانَ لي عَلَى النَّاسِ خِفتُ ذَهابَهُ، غَيرَ أنّي عَرَّفتُ عِندَ قَبرِ الحُسَينِ عليه السلام.
قالَ: فَقالَ لي: ما فاتَكَ شَيءٌ مِمَّا كانَ فيهِ أهلُ المَوقِفِ، يا بَشيرُ، مَن زارَ قَبرَ الحُسَينِ عليه السلام عارِفًا بِحَقِّهِ كانَ كَمَن زارَ اللّه َ في عَرشِهِ” . والأكثر من ذلك إنَّ بعض الرِّوايات الشَّريفة قد ركَّزت بشكل خاص على أهميَّة زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) للمرأة، ممَّا يعكس مكانتها الخاصَّة وواجباتها التَّكليفيَّة في هذا الجانب؛ فقد ورد في رواية عن أحدهما [الباقر أو الصادق] (عليهما السَّلام): “يا زُرارَةُ! ما فِي الأَرضِ مُؤمِنَةٌ إلَّا وقَد وَجَبَ عَلَيها أن تُسعِدَ فاطِمَةَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيها في زِيارَةِ الحُسَينِ عليهِ السَّلام” . وهذه دلالة واضحة على أنَّ الزِّيارة في بعض الأحيان قد تكون واجبة على المرأة المؤمنة، معززة بذلك مكانة المرأة ودورها في إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)؛ ولذلك، فإنَّ هذا المقال سيُركِّز على تقديم أدلة قوَّية ومتينة من مصادر متنوعة تؤكِّد أنَّ استحباب الزِّيارة، أو حتَّى وجوبها في بعض النُّصوص، يشمل كلا الجنسين: الرِّجال والنِّساء على حدٍّ سواء. مستعرضة الأدلة التي تُثبت شموليَّة الخطاب التَّكليفي بزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) لكافَّة المكلفين من غير وجود استثناء:
المحور الأوَّل: حج المرأة من دون محرم
اتَّفق فقهاء الإماميَّة، على عدم اشتراط وجود المحرم في حج المرأة، سواء أكان الحج مندوبًا أم واجبًا، وهذا بخلاف ما ذهب إليه بعض فقهاء العامَّة الذين اشترطوا وجود المحرم في سفر المرأة مطلقًا، بما في ذلك الحج؛ وجعل بعضهم ذلك شرطًا لصحَّة أدائه.
وقد استند علماء الإماميَّة في هذا الحكم إلى جملة من الرِّوايات الصَّحيحة الصَّريحة في نفي هذا الاشتراط، ممَّا يدل بوضوح على استقلاليَّة المرأة المكلفة في أداء فريضة الحج أو نُسكه المندوب متى ما توفَّرت شروط الاستطاعة، من دون توقف على وجود مرافق من ذوي المحارم.
وقد أورد الشيخ محمَّد بن الحسن الحر العاملي (رضوان الله تعالى عليه) في وسائل الشِّيعة طائفة من هذه الرِّوايات التي تُفنِّد هذا القيد وتُثبت الحكم على خلاف ما اشترطه غير الإماميَّة. ومن بين هذه النُّصوص ما يدل صراحة على أنَّ المرأة إذا أمنت الطَّريق وكان الحج واجبًا عليها، فلا حاجة بها إلى المحرم؛ وفي الواقع تكون مأمورة بأداء الفريضة شأنها شأن الرَّجل، وذلك في انسجام تام مع قواعد التَّكليف الشَّرعي القائمة على المسؤوليَّة الفرديَّة والاستقلال في الواجبات متى ما تحققت شروطها الموضوعيَّة.
ومن أبرز الأدلة التي استند إليها فقهاء الإماميَّة في نفي اشتراط المحرم لحجِّ المرأة، سواء أكان الحج واجبًا أو مندوبًا، صحيحة صفوان الجمَّال: وهو فقيهٌ حملدار قال: قلت: لأبي عبدالله (عليه السلام) قد عرفتني بعملي، تأتني المرأة أعرفها بإسلامها وحبِّها إيَّاكم، وولايتها لكم، ليس لها مَحرم، قال: إذا جاءت المرأة المسلمة فاحملها، فإنَّ المؤمن من محرم المؤمنة، ثمَّ تلى هذه الآية: (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
ومن الأدلَّة كذلك صحيحِة عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام)، قَالَ: سَأَلْتُه عَنِ الْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مَعَ غَيْرِ وَلِيٍّ. قَالَ: “لَا بَأْسَ فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَوِ ابْنُ أَخٍ قَادِرَيْنِ عَلَى أَنْ يَخْرُجَا مَعَهَا ولَيْسَ لَهَا سَعَةٌ فَلَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَقْعُدَ ولَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهَا”.
وهذه الرِّواية تمثِّل نصًا صريحًا في إبطال اشتراط وجود المحرم؛ وعلى العكس إنَّها تُدين مَن يمنع المرأة من أداء فريضة الحج بحجَّة غياب الولي، إن لم يكن هناك مانع شرعي أو مادِّي معتبر. ويُفهم من قوله (عليه السلام): “فلا ينبغي لها أن تقعد”، أنَّ التَّكليف الشَّرعي لا يسقط عن المرأة بمجرَّد عدم وجود محرم. ويبقى قائمًا ما دامت شروط الاستطاعة الأخرى متوفرة، ممَّا يُصنَّف ردًّا مباشرًا على رأي بعض القائلين بسقوط الوجوب في هذه الحالة. وغيرها من الرِّوايات الكثيرة في هذا الباب، وقد وضع فقهاء علماء الإماميَّة هذه المسألة في شرائط وجوب الحج.
وقد عنى فقهاء الإماميَّة بهذه المسألة اهتمامًا خاصًّا عند بحث شروط وجوب الحج، فضمُّوها باب الشَّرائط الموضوعيَّة المنظِّم لأداء الفريضة. ولعلَّ الدَّليل العملي الأبرز على صحَّة هذا الموقف الشَّرعي يظهر جليًّا في الواقع المعاش؛ إذ لا تزال حشود المعتمرين والحجاج من الرِّجال والنِّساء تختلط في صحن المسجد الحرام عند الطَّواف. وتنام أعداد كبيرة منهم في عراءٍ صحراويٍّ مكشوف في مزدلفة ليلًا، من دون أن يُشترط وجود محرم لكلِّ امرأة لتؤدِّي هذه المناسك، ولا يتأثَّر انتظام الحج أو سلامة حركة الحجيج بغياب هذا الشَّرط. وهذا الواقع يُثبت صحَّة الروايات ويؤكِّد شمولها في بيان الأحكام، كما يُظهر بوضوح حكمة الشَّريعة في مراعاة أحوال المكلَّفين وتسهيل سُبل العبادة لهم، ما دامت الطُّرق آمنة ووسائل السَّلامة متوفِّرة.
فإذا كان ذلك جائزًا في الحج، وهو أحد أركان الإسلام، فإنَّه في زيارة الأربعين -وهي شعيرة حبٍّ وولاء لا تقل أثرًا في تربيَّة وتهذيب النَّفس- أولى بالجواز، ما دامت المرأة تراعي حجابها وعفافها، وتسير في ظلِّ مجتمع مؤمن يُجسِّد ولاية المؤمنين والمؤمنات لبعضهم بعضًا.
إنَّ المرأة التي تمضي في طريق الإمام الحسين (عليه السلام)، ليست خارجة عن وظيفتها الفطريَّة، وإنَّما هي تسير في خطِّ الكمال الإنساني، وتترجم عاطفتها الصَّادقة نحو إمامها (عليه السلام) إلى فعلٍ تعبُّديٍّ راقٍ، يعمِّق وعيها، ويُصقل إيمانها، ويجعل من زيارتها محطَّة ارتقاء لا انكسار؛ لذلك، من الظُّلم أن نضع العوائق باسم الغيرة أو الحذر، وننسى أنَّ الشَّريعة قد جعلت للمرأة باب القرب مفتوحًا، وجعلت لها في ركاب أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) مكانًا، يليق بعزِّها، ويُناسب فطرتها، ويُكرِّس تكاملها مع الرَّجل.
المحور الثَّاني: حركة المرأة في المجال العام بين العفاف والرسالة
من الشَّواهد القرآنيَّة البالغة الدَّلالة على مشروعيَّة خروج المرأة وسعيها في الحياة العامَّة ضمن ضوابط العفَّة والحشمة، ما ورد في قصَّة السيِّدة مريم (عليها السلام)، التي ضربها الله (تعالى) مثلًا أعلى للمرأة المؤمنة الطَّاهرة؛ فيقول (سبحانه): (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا. قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا. قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا. فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا. فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا. فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا).
لقد اختارت السيِّدة مريم (عليها السلام) أن تنتبذ عن قومها إلى مكان شرقيّ بعيد، ثمَّ انتقلت لاحقًا إلى موقع قصيّ لتضع حملها، في رحلة ذات أبعاد نفسيَّة وجسديَّة شاقَّة، تحرَّكت فيها بين أماكن متعدِّدة قبل أن تعود إلى قومها وهي تحمل آية من آيات الله (تعالى). وما يلفت في هذه السيرة المقدَّسة أنَّ مريم (عليها السلام)، على الرَّغم من تحركها وتنقلها وسعيها، لم تفرِّط في الحياء ولا في الحجاب؛ وكانت مثالًا للعفاف والسَّتر التَّام.
إنَّ هذه الآيات، وسياق القصَّة المحيطة بها، تؤصِّل لمبدأ قرآني مفاده أنَّ سعي المرأة في الحياة العامَّة، إذا كان بقصد طاعة أو هدف راجح، وتمَّ ضمن إطار العفَّة والحشمة، لا يتعارض أبدًا مع قوله (تعالى): (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) (11)، وإنَّ ذاك القرار هو الأصل ما لم تدعُ الحاجة، والحاجة هنا عبادة، ورسالة، أو مقصد شرعي معتبر.
ويدعم هذا المعنى أيضًا قوله (تبارك وتعالى) في موضع آخر من قصة مريم (عليها السلام): (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ)؛ حيث كانت السيِّدة مريم (عليها السلام) تُقيم في بيت المقدس، وتركع مع الرَّاكعين، ويخاطبها النَّبي زكريا (عليه السلام)، وكل ذلك في جوٍ من النَّقاء والإجلال والستر، حتَّى أصبحت (عليها السلام) مثلًا قرآنيًّا مضروبًا للذين آمنوا.
ويظهر هذا المعنى أيضًا في سيرة السيِّدة خديجة الكبرى (عليها السلام)، أولى نساء الأمَّة إيمانًا، وأشرفهن نسبًا ومقامًا؛ فقد كانت تدير أعظم تجارة في مكَّة، وتملك من النُّفوذ المالي ما لم يملكه غيرها، ومع ذلك لم يكن اشتغالها بالشَّأن الاقتصادي والاجتماعي منافيًا للحشمة والوقار؛ وإنَّ قريشًا –على عنادها– لم تجد مطعنًا واحدًا في شخصيتها، على الرَّغم من توجسهم من زواجها برسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وهذا شاهد على أنَّ المرأة يمكن أن تتحرَّك في دائرة المجتمع باحترام وهيبة، من دون أن تفرِّط في قيم العفاف.
ونرى هذا المنهج يتكرر في سيرة سيدتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام)، سيِّدة نساء العالمين؛ إذ لم يكن خروجها إلى المسجد النَّبوي الشَّريف للخطابة دفاعًا عن الحقِّ، ولا تجوالها في الليل مع أمير المؤمنين (عليه السلام) على بيوت المهاجرين والأنصار، طعنًا في مقام القرار؛ وإنَّما كان موقفًا مشرِّفًا يُقتدى به. كما كانت تخرج أسبوعيًّا لزيارة قبر عمِّها حمزة (عليه السلام) في أحد، في فعل سنَّته للمؤمنات، ومضت عليه النِّساء الصَّالحات على مرِّ العصور.
وفي السِّياق ذاته، لابدَّ من الإشارة إلى خروج الإمام الحسين (عليه السلام) من المدينة إلى كربلاء، مصطحبًا معه عقيلة الطَّالبيين السيِّدة زينب (عليها السلام)، وسائر النِّساء من أهل بيته. ولم يكن ذلك خروجًا استثنائيًّا فرضته ظروف طارئة؛ وبالأحرى كان خروجًا محسوبًا، مقصودًا، يحمل بُعدًا تعبُّديًّا ورساليًّا، ويعبِّر عن خط سلوك واضح في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، يُفرِّق تمامًا بين التَّبرج والخروج من غير ضرورة، وبين السَّعي في سبيل الله (تعالى) ضمن ضوابط الشَّرع والعفاف والكرامة.
وهكذا، يتبيَّن أنَّ حركة المرأة في المجال العام في بعض المواضع طاعة لله (تعالى)، ونصرة لدينه، وإحياء لأمر أوليائه، ما دامت قائمة على العفَّة، ومقيدة بأحكام الشَّريعة، ومسترشدة بسير النِّساء المعصومات والصَّالحات.
وهكذا، كما خرجت السيِّدة مريم (عليها السلام) في مهمّةٍ إلهيَّة سامية، لا تُنافي العفاف ولا تتعارض مع القرار، وكما نهضت الصدِّيقة الشَّهيدة فاطمة الزَّهراء (عليها السلام) في المدينة للدفاع عن الحقِّ، وسارت مولاتنا زينب (عليها السلام) من المدينة إلى كربلاء ثمَّ إلى الكوفة والشَّام، في خطّ رساليّ جسَّد قمَّة العفاف في ذروة الحركة، فإنَّ المرأة اليوم، وهي تسير في طريق الإمام الحسين (عليه السلام)، تُحيي بذلك ذات الرِّسالة، وتُفعِّل ذات النموذج، وتُظهر بجلاء أنَّ العفاف لا يعني الانزواء، وأنَّ القرار في البيوت لا يعني تعطيل الرِّسالة؛ فزيارة الأربعين، للمرأة كما للرجل، هي تجديد عهد، وبناء وعي، ومسيرة سُلوك إلى الله (تعالى)، تسير فيها المرأة المسلمة على خطى من سبقها من النِّساء العظيمات، بسترها، وحيائها، وولائها، لتقول للعالم: إنَّ العفَّة لا تُعيق المسير، وإنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) باب الله (سبحانه) المفتوح، للرِّجال والنِّساء.
المحور الثَّالث: شمولية النداء للرجل والمرأة في نصوص أهل البيت (عليهم السلام)
تواترت الرِّوايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في الحثِّ على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، وهي روايات مستفيضة في مصادر الإماميَّة، تؤكِّد شمول الخطاب للرَّجل والمرأة، وتُعنى بالمرأة عناية خاصَّة، لما في زيارتها من إشراك عملي في التَّجديد المستمر للعهد مع صاحب الطَّف (عليه السلام)؛ ومن النُّصوص الدَّالة على ذلك: قول الإمام الصَّادق (عليه السلام) المنقول عن أمِّ سعيد الأحمسيَّة عن أبي عبد اللَّه الصَّادق (عليه السَّلام)، قالت: قالَ لي: “يا أمَّ سَعيدٍ! تَزورينَ قَبرَ الحُسَينِ؟ قالَت: قُلتُ: نَعَم .
المحور الرَّابع: مشروعية ودور المرأة في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)
من الشَّواهد المهمَّة على مشروعيَّة خروج النِّساء للزِّيارة، وفاعليتهن في إحياء الشَّعائر والوفاء لرموز الدِّين، ما روي عن سيِّدة نساء العالمين فاطمة الزَّهراء (عليها السلام)؛ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: “عَاشَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ بَعْدَ أَبِيهَا خَمْسَةً وَسَبْعِينَ يَوْماً لَمْ تُرَ كَاشِرَةً وَلَاضَاحِكَةً، تَأْتِي قُبُورَ الشُّهَدَاءِ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ مَرَّتَيْنِ: الْإِثْنَيْنَ، وَالْخَمِيسَ، فَتَقُولُ: هَا هُنَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، هَا هُنَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ”.
وهذا النَّص يبيِّن أنَّ مولاتنا الزَّهراء (عليها السلام) –وهي الصدِّيقة المعصومة– قد اتَّخذت زيارة قبور الشُّهداء، عادةً أسبوعيَّة، تديم بها الصِّلة مع الشُّهداء، وتُرسِّخ بها في المجتمع ثقافة الوفاء والتَّفاعل الوجداني مع تضحيات المجاهدين، من خلال الدُّعاء والاستغفار والزِّيارة، وكلُّ ذلك في جو من الحياء والحشمة والعفاف.
ومن جملة الشُّبهات التي يُروّج لها في هذا الباب، ما يُقال من أنَّ خروج المرأة لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) قد يتعارض مع واجباتها المنزليَّة وحقوق زوجها، وكأنَّ الزِّيارة تُوجب الإخلال بأساس العلاقة الزَّوجيَّة. لكن هذا التَّصوّر مردود وبعيد عن روح الشَّريعة، فإنَّ تنظيم العلاقة بين الزَّوجينِ قد تولّته الشَّريعة الإسلاميَّة بكلّ دقَّة وحكمة، فجعلت للزوج حقوقًا واضحة، كما جعلت له صلاحية التَّنازل عنها في موارد معيَّنة، ومنها الإذن للزوجة بالسَّفر. فكما أنَّ له الحقُّ في المنع، فإنَّ له الحقُّ في الإجازة.
وأمَّا ما يُقال أحيانًا من أنَّ بعض الرِّجال لا يملكون الجرأة على منع زوجاتهم من الذَّهاب إلى الزِّيارة، خشية أن يُتَّهموا بعداوتهم لسيِّد الشهداء (عليه السلام)، فإنَّه كلام لا يستند إلى أساس علمي، وينبع من الجهل، والشَّريعة لا تُبنى على الجهل؛ بل على البصيرة والتَّفقه في الدِّين. وليس من يمنع زوجته لظرفٍ شرعي أو عائلي -وهو متديّن ومحبّ للإمام الحسين (عليه السلام)- معاديًا لسيِّد الشُّهداء (عليه السلام)! ولكن ذلك داخل في حدود التَّشريع الذي رسمه الله (تعالى)، وجعل فيه للزوج حقًّا، ما دام يُمارَس ضمن إطار الشَّرع، لا ظلمًا ولا تعسفًا.
إنَّ ميزان الحقّ في الإسلام هو العلم والفهم لا العاطفة، فكما أنَّ الزِّيارة شعيرة عظيمة، فإنَّ حفظ نظام الأسرة أيضًا واجبٌ عظيم، وكلاهما لا يتعارضان متى ما أُحسن فهم الدِّين وأُديرت الحياة بروح المسؤوليَّة والشَّراكة. ويمكن –بالتفاهم- أن يُهيّئ الزوج الأجواء المناسبة لزوجته، فتذهب ملبيَّة للنداء الحسيني، وقلبها مطمئن، وبيتها آمن، ورضى زوجها في ظهرها، فيتحقق بذلك الخير الكامل، وتتنزل البركات على الجميع.