وتعيد رسم خريطة التحالفات الدولية

 السياسات التجارية الأميركية.. الشرارة التي تعيد تشكيل النظام الدولي

تُمثل الرسوم الجمركية التي فرضها دونالد ترامب نقطة تحوّل في تاريخ التجارة العالمية، وتكشف عن توجه جديد في السياسة الأميركية يقوم على الانعزال الاقتصادي، وإعادة رسم خريطة التحالفات الدولية وفقاً لمصالح واشنطن

في مشهد يعيد إلى الأذهان أجواء الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، أطلق دونالد ترامب موجة جديدة من الرسوم الجمركية على واردات بلاده من أكثر من 70 دولة، في خطوة وصفها البيت الأبيض بأنها ضرورية لحماية الاقتصاد الأميركي والأمن القومي. لكن هذه الإجراءات لم تمر مرور الكرام، إذ أثارت غضباً واسعاً بين الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، وفي مقدمتهم كندا والكيان الصهيوني، ودفعت العديد من الدول إلى إعادة النظر في علاقاتها التجارية مع واشنطن.

 

القرار الأميركي، الذي تراوحت فيه الرسوم بين 10% و41%، لم يكن مجرد إجراء اقتصادي، بل حمل في طياته رسائل سياسية واضحة، تعكس توجّه إدارة ترامب نحو الانعزال التجاري، وإعادة رسم خريطة التحالفات الدولية وفقاً لمبدأ “أميركا أولاً”. وبينما تباهى ترامب بالعائدات التي حققتها هذه الرسوم، حذّر خبراء الاقتصاد من تداعيات كارثية محتملة على النمو العالمي، وعلى استقرار النظام التجاري الدولي الذي بُني على مدى عقود.

 

كندا؛ خيبة أمل وتحركات مضادة

 

من بين الدول التي تلقت الصفعة الأميركية بشكلٍ مباشر، كانت كندا، الحليف التاريخي والجغرافي الأقرب للولايات المتحدة. فرض رسوم جمركية بنسبة 35% على الصادرات الكندية إلى السوق الأميركية شكّل صدمة لأوتاوا، التي لم تتوقع أن تُدرج ضمن قائمة الدول المستهدفة بهذه القسوة، خصوصاً بعد سنوات من التعاون الوثيق في مجالات الأمن والتجارة والطاقة.

 

رئيس الوزراء الكندي، مارك كارني، لم يُخفِ خيبة أمله، وعبّر عن استيائه من الإجراءات الأميركية، مؤكداً أن بلاده ستتخذ خطوات لحماية وظائفها، وتنويع وجهات صادراتها، ومواصلة التفاوض مع واشنطن. لكن خلف هذه التصريحات، كانت هناك إشارات واضحة إلى أن العلاقة بين البلدين تمر بمرحلة حرجة، وأن كندا بدأت فعلياً في البحث عن بدائل استراتيجية تقلل من اعتمادها على السوق الأميركية.

 

البيت الأبيض برّر قراره تجاه كندا بذريعة عدم تعاونها في الحد من تدفق المخدرات غير القانونية إلى الولايات المتحدة، وأيضاً بسبب دعمها لقيام دولة فلسطينية، وهو ما اعتبرته واشنطن خروجاً عن الخط السياسي الذي ترغب في فرضه على حلفائها. هذه التبريرات، وإن بدت واهية للبعض، تعكس حجم التوتر السياسي الذي بات يطغى على العلاقات التجارية بين البلدين.

 

صديق الأمس يرفع الكلفة

 

لم يكن كيان العدو الغاصب بمنأى عن الإجراءات الأميركية، إذ فرضت عليها رسوم جمركية بنسبة 15%، ما أثار استياء واسعاً في تل أبيب، التي اعتادت على معاملة تفضيلية من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة. رئيس اتحاد المصنّعين الصهاينة، رون تومر، عبّر عن خيبة أمله، مؤكداً أن القرار لم يرقَ إلى مستوى التوقعات، وأنه كان من المفترض أن تُخفض الرسوم، لا أن تُرفع، بالنظر إلى العلاقات الخاصة بين البلدين.

 

صحيفة “يديعوت أحرونوت” كشفت أن حكومة بنيامين نتنياهو كانت تراهن على ألا تتجاوز الرسوم الجمركية الأميركية 10%، خصوصاً بعد أن أوحت لإدارة ترامب باستعدادها لإنهاء الحرب على غزة. لكن يبدو أن هذه الإشارات لم تلقَ آذاناً صاغية في واشنطن، التي قررت المضي قدماً في فرض الرسوم، ما يشير إلى تراجع تأثير الكيان الغاصب على القرار الأميركي، على الأقل في المجال الاقتصادي.

 

هذا التوتر الجديد بين واشنطن وتل أبيب يفتح الباب أمام تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين البلدين، خصوصاً إذا استمرت الإدارة الأميركية في اتخاذ قرارات أحادية الجانب تمسّ المصالح الصهيونية، دون تنسيق مسبق أو مراعاة للخصوصية التي لطالما ميّزت هذه العلاقة.

 

أوروبا في مرمى النيران

 

لم تسلم أوروبا من الإجراءات الأميركية، رغم إبرامها اتفاقاً مبدئياً مع واشنطن يقضي بدفع رسوم بنسبة 15% على نحو ثلثي صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة، والتي تُقدّر قيمتها بنحو 434 مليار دولار. هذا الاتفاق، الذي شابه الكثير من الغموض، لم يمنع ترامب من تفعيل الرسوم الجمركية بحلول السابع من الشهر الجاري، ما أثار موجة من الانتقادات في العواصم الأوروبية.

 

زعيمة الكتلة البرلمانية لحزب الخضر الألماني، كاتارينا دروجه، هاجمت النهج التفاوضي الذي اتبعه المستشار فريدريش ميرتس، محمّلةً إياه مسؤولية ضعف نتائج الاتفاق، وما ترتّب عليه من إضرار بالصناعات الألمانية. هذا الغضب الشعبي والسياسي يعكس حجم الإحباط في أوروبا من السياسات التجارية الأميركية، التي باتت تُنظر إليها على أنها تهديد مباشر للاقتصاد الأوروبي.

 

في ظل هذه التطورات، بدأ العديد من الدول الأوروبية في مراجعة علاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة، والبحث عن شركاء جدد في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، في محاولة لتقليل الاعتماد على السوق الأميركية، وتفادي الوقوع ضحية للقرارات الأحادية التي تتخذها واشنطن.

 

الاقتصاد العالمي على المحك

 

الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب لم تقتصر آثارها على العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والدول المستهدفة، بل امتدت لتشمل الاقتصاد العالمي بأسره. نائب الأمين العام لغرفة التجارة الدولية، آندرو ويلسون، حذّر من أن الشركات بدأت تستيقظ على حقيقة أن معدّل الرسوم الجمركية هو الأعلى تاريخياً، وأن ذلك ستكون له عواقب كارثية على الاقتصاد الأميركي والعالمي.

 

الشركات الكبرى، مثل “أديداس” و”بروكتر آند غامبل”، بدأت في رفع أسعار منتجاتها، نتيجة لتصاعد الحرب التجارية، بينما شهدت سلاسل التوريد تأخيرات كبيرة، وأصبحت التجارة مع الولايات المتحدة أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. هذه التطورات دفعت العديد من الشركات إلى إعادة تقييم استراتيجياتها، والبحث عن أسواق بديلة، في محاولة لتقليل الخسائر المحتملة.

 

في الداخل الأميركي، بدأت محكمة الاستئناف الفدرالية في التشكيك في قانونية الإجراءات التي اتخذها ترامب، خصوصاً أنه استند إلى قانون الصلاحيات الاقتصادية الدولية في حالات الطوارئ، الذي لا يذكر صراحةً التعرفات الجمركية كصلاحية متاحة للرئيس. هذا الجدل القانوني يعكس حجم الانقسام داخل الولايات المتحدة حول جدوى هذه السياسات، ومدى قانونيتها، وتأثيرها على الاقتصاد الوطني.

 

 مؤشرات الأسهم والعملات تحت الضغط

 

ردود الفعل على الإجراءات الأميركية لم تقتصر على التصريحات السياسية، بل انعكست بشكل مباشر على الأسواق المالية. في آسيا، تراجع مؤشر “نيكي 225” الياباني بنسبة 0.66%، بينما سجّلت الأسهم الأوروبية أدنى مستوى لها في ثلاثة أسابيع، مع انخفاض مؤشر “يوروستوكس” بنسبة 1.7%. هذه التراجعات تعكس حالة القلق التي تسود الأسواق، في ظل عدم وضوح الرؤية بشأن مستقبل العلاقات التجارية الدولية.

 

في المقابل، ارتفع مؤشر الدولار، الذي يقيس أداء العملة الأميركية مقابل سلّة من ستّ عملات رئيسة، محققاً أفضل أداء أسبوعي له في نحو ثلاث سنوات. هذا الارتفاع يعكس توجه المستثمرين نحو الدولار كملاذ آمن، في ظل تصاعد التوترات التجارية، وتراجع الثقة في الأسواق الأخرى.

 

لكن هذا الأداء الإيجابي للدولار لا يخفي حقيقة أن السياسات الجمركية التي يتبعها ترامب قد تؤدي إلى رفع مستويات التضخّم في الولايات المتحدة، وزيادة التكاليف على الشركات، ما قد ينعكس سلباً على النمو الاقتصادي، ويؤدي إلى تباطؤ عالمي، كما حذّر العديد من المحللين.

 

تحالفات على المحك

 

في كندا، بدأت الحكومة في البحث عن شركاء تجاريين جدد، وفي أوروبا، تصاعدت الدعوات إلى إعادة النظر في الاتفاقيات التجارية مع واشنطن. هذه التحركات تعكس إدراكاً متزايداً بأن التحالفات التقليدية لم تعد محصّنة ضد التقلّبات السياسية الأميركية، وأن المصالح الوطنية باتت تتطلب مرونة أكبر في التعامل مع الحليف الأميركي.

 

الهند، التي فرضت عليها الولايات المتحدة رسوماً بنسبة 25%، ردّت بإعلان نيتها عدم شراء مقاتلات “إف-35″، في خطوة تحمل دلالة سياسية واقتصادية، وتعبّر عن رغبة نيودلهي في تقليص اعتمادها على واشنطن في مجال الدفاع. أما تايوان، فقد قابلت الإجراءات الأميركية بفتور، ما يشير إلى فتور في العلاقات الثنائية، رغم التوترات المتزايدة مع الصين.

 

هذه المواقف مجتمعة تؤكد أن العالم يشهد تحوّلاً في طبيعة التحالفات، وأن السياسات التجارية الأميركية قد تكون الشرارة التي تعيد تشكيل النظام الدولي، ليس فقط اقتصادياً، بل أيضاً سياسياً واستراتيجياً.

 

ترامب يعيد رسم خريطة التجارة العالمية

 

من وجهة نظر إدارة ترامب، فإن الرسوم الجمركية تمثل أداة فعالة لإعادة التوازن إلى العلاقات التجارية الدولية، وإنهاء العجز التجاري الذي تعاني منه الولايات المتحدة منذ عقود. ترامب تباهى بالعائدات التي حققتها هذه الرسوم، والتي بلغت 125 مليار دولار، فضلاً عن تعهدات دول محددة بضخ مئات المليارات من الدولارات على شكل استثمارات في السوق الأميركية.

 

لكن هذه المكاسب، كما تشير شبكة “إن بي سي”، جاءت على حساب تباطؤ النمو الاقتصادي، وارتفاع مستويات التضخّم، وزيادة التكاليف على الشركات، ما قد يؤدي إلى تباطؤ في الاقتصاد العالمي. هذه الارتدادات السلبية تطرح تساؤلات حول جدوى هذه السياسات على المدى الطويل، ومدى قدرتها على تحقيق الأهداف التي وضعتها إدارة ترامب.

 

وهكذا تُمثل الرسوم الجمركية التي فرضها دونالد ترامب نقطة تحوّل في تاريخ التجارة العالمية، وتكشف عن توجه جديد في السياسة الأميركية يقوم على الانعزال الاقتصادي، وإعادة رسم خريطة التحالفات الدولية وفقاً لمصالح واشنطن.

 

 

المصدر: الوفاق