في عالم الفن، هناك من يرسم، وهناك من يخلق عوالم كاملة من خلال الريشة واللون. الأستاذ محمود فرشجيان، الفنان الإيراني القدير الذي وُلد في أصفهان عام 1929، ينتمي إلى الفئة الثانية. لقد تجاوز حدود الرسم التقليدي ليؤسس مدرسة فنية متفردة، تمزج بين الأصالة والابتكار، وتعيد تعريف فن المنمنمات الإيراني في سياق عالمي وإنساني.
في رحيل الأستاذ محمود فرشجيان، لا يغيب مجرد فنان، بل يغيب أحد أعمدة الفن الإيراني والعالمي، الذي استطاع أن يحوّل المنمنمات من فن تقليدي إلى لغة بصرية روحية تعبّر عن الوجدان الجمعي والهوية الثقافية. تتلمذ على يد كبار الأساتذة، ثم انطلق في رحلة فنية امتدت لعقود، مزج فيها بين التراث الإيراني والمفاهيم العرفانية والدينية، ليخلق مدرسة فنية متفردة.
سيرة حياة فنان المنمنمات
وُلد الأستاذ محمود فرشجيان عام 1929م في مدينة أصفهان، المعروفة بعراقتها الفنية. كان والده رجلاً محباً للفن، ولما لاحظ شغف ابنه بالرسم، وجّهه إلى ورشة الأستاذ الحاج ميرزا آقا إمامي. ثم تلقّى تعليمه في مدرسة الفنون الجميلة بأصفهان على يد الأستاذ عيسى بهادري. بعد إنهاء هذه المرحلة، سافر إلى أوروبا، حيث أمضى عدة سنوات في دراسة وتحليل أعمال كبار الرسامين الغربيين، ومن خلال هذه الدراسات توصّل إلى رؤية جديدة للفن قائمة على معايير عالمية.
عند عودته إلى إيران، بدأ عمله في الإدارة العامة للفنون الجميلة بطهران، ثم تولّى إدارة قسم الفنون الوطنية، واختير أستاذاً في كلية الفنون الجميلة بجامعة طهران. وخلال هذه الفترة، وبفضل جهوده المتواصلة وإبداعاته المذهلة، انتشر صيته الفني داخل إيران وخارجها.
أسلوب خاص
في مجال الرسم الإيراني، ابتكر الأستاذ فرشجيان أسلوباً ومدرسة خاصة به، حافظ فيها على أصالة الأسس التقليدية لهذا الفن، لكنه طوّره بأساليب جديدة، مما زاد من فعاليته وقيمته. لقد أغنى هذا الفن، وحرّره من ارتباطه الإلزامي بالشعر والأدب، ومنحه رسالة وقيمة تضاهي سائر الفنون. لوحاته تمثل مزيجاً رائعاً من الأصالة والابتكار، حيث يستخدم خطوطاً انسيابية وتراكيب دقيقة ودائرية، ليخلق رموزاً وإشارات داخلية عميقة في أعماله. كما أن اختياره المبتكر للمواضيع ومعالجته الفنية لها، يخرجه عن القوالب التقليدية. أما الألوان الزاهية والمتموجة التي تظهر في أعماله، فهي تجلٍّ للابتكار، تبدو وكأنها أسطورة.
عُرضت أعمال الأستاذ فرشجيان في مئات المعارض الفردية والجماعية داخل إيران وخارجها، وقد لاقت ترحيباً واسعاً. إن إقامة هذه المعارض المتتالية دليل على شهرته العالمية، حتى أن المتاحف والمكتبات والمجموعات الخاصة وعشّاق الفن يفتخرون باقتناء قطعة من أعماله.
الأستاذ فرشجيان وتجديد المنمنمات
بحسب دراسة منشورة في مجلة جامعة الزهراء(س) حول أسلوب الأستاذ فرشجيان، فإن الفنان استطاع أن يخلق ما يُعرف اليوم بـ”المدرسة الإيرانية الحديثة في الرسم”، وهي امتداد للمنمنمات التقليدية، لكنها تتجاوزها من حيث:
– التركيب البصري: استخدام التكوينات الدائرية والانسيابية التي تخلق حركة داخل اللوحة.
– اللون والضوء: توظيف الألوان المتموجة والمضيئة التي تمنح اللوحة طابعاً روحانياً.
– الموضوعات: تناول مواضيع عرفانية ودينية وإنسانية، مثل لوحة “ضامن الغزال” و”عصر عاشوراء”.
– الرمزية: كل عنصر في لوحاته يحمل دلالة، من الخيمة إلى الفرس إلى الظلال، مما يجعل أعماله نصوصاً بصرية قابلة للتأويل.
إرثه الفني
صمم الأستاذ فرشجيان ضريح الإمام الحسين(ع) وضريح الإمام الرضا(ع)، وشارك في تصميم ضريح شهداء كربلاء المقدسة وسرداب الغيبة في سامراء.
عرضت أعماله في مئات المعارض داخل إيران وخارجها. أُسس له متحف خاص في مجمع سعدآباد بطهران، يضم أكثر من 70 عملاً.
أصدر عدة كتب توثق أعماله، منها: تصوير الشاهنامة عام 1974م ، “محمود فرشجيان” بأجزائه الخمسة، آخرها صدر عام 2008 ويضم 150 عملاً فنياً. أعماله عُرضت في مئات المعارض، وتأسس له متحف خاص في مجمع سعدآباد بطهران.
لوحة عصر عاشوراء
لوحة “عصر عاشوراء” تُعد من أشهر أعماله وأكثرها تأثيراً. رسمها في لحظة وجدانية عميقة، بعد أن نصحته والدته بالاستماع إلى مجلس عزاء. دخل غرفته، وأمسك بالريشة، ورسم اللوحة دفعة واحدة دون تعديل. يظهر فيها فرس الإمام الحسين(ع) عائداً بلا راكب، والنساء يخرجن من الخيمة في حالة من الهلع والحزن. اللوحة لا تصور الحدث فقط، بل تنقله كصرخة بصرية تهز وجدان المشاهد.
إخفاء وجوه الشخصيات يدل على احترام الفنان لهم، ويمنح المشاهد شعوراً بأن الحزن لا يُرى بل يُحس. الأرض الجافة تشير إلى العطش، بينما امتداد الخيمة نحو السماء يوحي بأن المصيبة تجاوزت الأرض إلى الكون كله.
اللوحة تمزج بين مفاهيم الحق، المقاومة، الصمود، الشهادة، العقيدة، والإيمان، مما يجعلها أكثر من مجرد عمل فني، بل بيان بصري للروح الحسينية.
التكريمات والإنجازات
نال الأستاذ فرشجيان عشرات الجوائز الدولية، منها: وسام الدرجة الأولى في الفن من إيران، درع أوسكار الفن الإيطالي، نخل الذهب للفن من إيطاليا، ميدالية الفن العسكري من إيران، جائزة وزارة الثقافة والفنون.
رائد المنمنمات الإيرانية وصاحب الريشة العرفانية
في عالم الفن الإيراني، يبرز اسم الأستاذ محمود فرشجيان كأيقونة فنية تجاوزت حدود الزمان والمكان، وخلقت مدرسة بصرية متفردة تمزج بين الأصالة والابتكار، وبين الروح الإسلامية والخيال العرفاني وتربّى في أحضان الفن التقليدي، لكنه سرعان ما انطلق نحو آفاق عالمية، ليعيد تعريف فن المنمنمات بأسلوبه الخاص.
الفن كرسالة
الأستاذ محمود فرشجيان لم يكن مجرد فنان، بل كان حاملاً لرسالة روحية وثقافية، عبّر عنها بريشته كما يعبّر العارف بكلماته. لقد أعاد تعريف المنمنمة كفن حي، نابض، قادر على التعبير عن الحزن والفرح، عن المقاومة والسكينة، عن الأرض والسماء. رحيله خسارة، لكن أعماله ستظل تنطق بالحياة، وتلهم أجيالاً من الفنانين والباحثين.
رحيل الفنان القدير الأستاذ محمود فرشجيان يشكّل خسارة فادحة لعالم الفن، لا سيما لفن المنمنمات الذي أعاد إليه الحياة والروح بأسلوبه الفريد.لم يكن مجرد فنان يرسم، بل كان مؤرخاً بصرياً للروح الإيرانية، وناقلاً للحكمة العرفانية عبر الريشة واللون. رحيله يترك فراغاً، لكن إرثه سيظل حياً في كل لوحة تنبض بالحركة، وفي كل خط يروي قصة من قصص الجمال والمقاومة والهوية. لقد أثبت أن الفن ليس ترفاً، بل رسالة، وأن المنمنمة ليست مجرد زخرفة، بل نافذة على عالم من المعاني.