وفي السنوات الأخيرة، سعت إيران إلى تقليل اعتمادها على المسارات الدولية عالية المخاطر من خلال التركيز على التعاون الإقليمي، وتعزيز روابطها الاقتصادية مع الدول التي تشترك معها في المزيد من القواسم الثقافية والدينية والجغرافية.
وفي هذا السياق، حظيت باكستان – باعتبارها ثاني أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان وأحد الاقتصادات الناشئة في جنوب آسيا – بمكانة خاصة في الاستراتيجيات الاقتصادية الإيرانية.
لذلك يمكن اعتبار توقيع هذه الاتفاقية بدايةً لمرحلة جديدة في العلاقات الاقتصادية بين البلدين؛ مرحلة لن تشهد فقط زيادة في حجم التبادلات التجارية، بل ستشمل أيضًا تعزيز البنى التحتية للنقل، وأنظمة الدفع البديلة، والتعاون الصناعي والزراعي.
من جهة أخرى، أظهرت إيران من خلال هذه الخطوة اعتمادها على قدراتها الداخلية والإقليمية لتحقيق تنمية مستدامة، كما أكدت سعيها لتعطيل تأثير العقوبات عبر تعاون استراتيجي مع دول الجوار.
في هذا الإطار، يجب النظر إلى اتفاقية التجارة الحرة بين إيران وباكستان على أنها أكثر من مجرد وثيقة اقتصادية؛ فهي في الواقع جسر يربط المصالح الوطنية والإقليمية، ويمكن أن تصبح نموذجاً ناجحاً لباقي دول الجوار والدول الإسلامية.
سلع استراتيجية على طريق التبادل.. من الطاقة إلى المواد الغذائية
كما ذكر سابقاً، تُعدّ باكستان -التي يبلغ عدد سكانها 240 مليون نسمة- واحدة من أكبر الأسواق في المنطقة، حيث تشترك مع إيران في روابط ثقافية ودينية وإثنية، خاصة في المناطق الحدودية، ما يجعلها شريكاً محتملاً لإيران.
ومع وجود حدود برية تزيد عن 900 كيلومتر، والأسواق الحدودية النشطة، والإمكانيات المينائية مثل ميناء تشابهار والقرب من موانئ غوادر وكراتشي، تتوفر بيئة مناسبة لتنمية التجارة بين البلدين.
وتشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 40٪ من صادرات إيران إلى باكستان تشمل مشتقات نفطية ومواد غذائية، في حين أن الجزء الأكبر من واردات إيران من باكستان يتمثل في منتجات مثل الأرز واللحوم والفواكه الأستوائية.
كما أن تعزيز واردات سلع مثل الأرز والمانجو من باكستان، إلى جانب تطوير صادرات المنتجات شبه الصناعية الإيرانية، يمكن أن يرفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 5 مليارات دولار على المدى القصير.
المقايضة.. أداة لمواجهة العقوبات
من ناحية أخرى، وفي ظل القيود الصارمة التي تفرضها العقوبات المالية والمصرفية الدولية على عمليات التحويلات البنكية والعملة الإيرانية، أصبح استخدام نظام المقايضة مع الدول المجاورة، خاصة باكستان، حلاً عملياً ومنخفض التكلفة.
هذا النظام الذي يعتمد على التبادل المباشر للسلع دون الحاجة إلى العملات الأجنبية أو النظام المصرفي الدولي، يمكّن إيران من تجاوز ضغوط العقوبات والحفاظ على تدفق تجارتها.
وتمتلك باكستان إمكانيات كبيرة في إنتاج الأرز واللحوم والفواكه الأستوائية والملابس والمنسوجات، مما يجعلها شريكاً مثالياً للمقايضة مع صادرات إيران مثل المنتجات النفطية والمواد المعدنية والزراعية. ويوفر هذا الهيكل التجاري التكاملي بيئة مناسبة لتعزيز التبادل غير النقدي وتطوير التجارة الحدودية.
من جهة أخرى، تتميز المقايضة بطابعها غير الرسمي واعتمادها على الحدود البرية، مما يجعلها أقل عرضة لرقابة الأطراف المفروضة للعقوبات، كما يمكن لهذا النظام أن يسهم في توسيع العلاقات الاقتصادية على المستويين المحلي والإقليمي.
ومن شأن إضفاء الصبغة الرسمية على هذا النموذج عبر اتفاقيات ثنائية أن يعزز الثقة المتبادلة، ويقلل من المخاطر التجارية، ويرسخ الاستقرار الاقتصادي لكلا البلدين.
آفاق واعدة لتجارة تصل إلى 10 مليارات دولار
تظهر الإحصائيات الرسمية أن حجم التبادل التجاري بين إيران وباكستان قد تجاوز حاجز 2-3 مليار دولار، مقارنة بأقل من 500 مليون دولار في السابق، وهذا النمو المضاعف يعكس قدرة السوق الباكستانية الكبيرة على استيعاب المنتجات الإيرانية.
وبحسب البيانات، بلغ إجمالي التبادل التجاري بين البلدين حوالي 3 مليارات و129 مليون دولار، منها ما يقارب مليارين و423 مليون دولار صادرات إيرانية، وحوالي 706 ملايين دولار واردات من باكستان.
وبذلك، سجل الميزان التجاري الإيراني فائضاً إيجابياً بنحو 5/3 ضعف. كما أن الزيادة بنسبة 6/13% في التبادل التجاري عام 2024 مقارنة بالعام السابق، تُعدّ مؤشراً واضحاً على ديناميكية وقدرة التعاون الثنائي في المجال التجاري.
في هذا الصدد، صرح وزير الصناعة والتعدين والتجارة الإيراني قائلاً: كان حجم التبادل التجاري بين إيران وباكستان سابقاً حوالي 3 مليارات دولار، وقد سجل نمواً متصاعداً باستمرار، وفي إطار الاتفاقية الجديدة، نستهدف زيادة هذا الرقم إلى 10 مليارات دولار في المستقبل القريب.
البنية التحتية.. الحلقة الرابطة بين الأسواق
من الجوانب الحيوية التي لا ينبغي إغفالها في تطوير العلاقات التجارية الإيرانية – الباكستانية هو تعزيز البنية التحتية للنقل والاستفادة المثلى من الموانئ الرئيسية في كلا البلدين.
وتمتلك موانئ تشابهار الإيرانية وغوادر الباكستانية – بفضل موقعها الجغرافي المتميز على ساحل بحر عمان – إمكانات كبيرة لتصبح بوابات للتجارة الإقليمية.
ويمكن لربط هذين الميناءين عبر ممرات برية وبحرية أن يشكل نواة لشبكة لوجستية متكاملة ومنخفضة التكلفة، تدعم التجارة الثنائية وحتى إعادة التصدير إلى دول أخرى.
إلى جانب البنية التحتية للنقل، يشكل تطوير المناطق الحرة والاقتصادية الخاصة في المناطق الحدودية والساحلية فرصةً مهمةً لإقامة وحدات إنتاجية وصناعية مشتركة بين إيران وباكستان.
ويمكن لهذه الوحدات -بالاستفادة من إمكانات البلدين في قطاعات مثل النسيج، والصناعات الغذائية، والزراعة، والبتروكيماويات- أن تنتج سلعاً متنوعة تلبي احتياجات السوق المحلية وتصدر أيضاً إلى دول ثالثة.
كما يمكن لهذا التعاون أن يسهم في نقل التكنولوجيا، ورفع مستوى الإنتاجية، وتوفير فرص العمل في المناطق الحدودية الأقل نمواً.
بالإضافة إلى ذلك، يعد خفض التكاليف اللوجستية أحد أبرز مزايا هذا التعاون البنيوي، فالنقل البري والبحري القريب ومنخفض التكلفة سيعزز القدرة التنافسية لأسعار السلع ويقوي سلسلة التوريد بين البلدين.
كما أن تفعيل هذه الممرات سيتيح نقل وترانزيت البضائع بين الصين وآسيا الوسطى والخليج الفارسي وشبه القارة الهندية عبر إيران وباكستان، وهو ما سيسهم ليس فقط في تعزيز المصالح الاقتصادية الثنائية، بل أيضاً في رفع الأهمية الجيوسياسية لكلا البلدين على الساحتين الإقليمية والدولية.
وتشكل اتفاقية التجارة الحرة بين إيران وباكستان منعطفاً تاريخياً في العلاقات الاقتصادية والسياسية للبلدين، حيث يمكنها – بالاستفادة من القواسم الثقافية المشتركة والقرب الجغرافي والإمكانات التجارية التكاملية – أن تتحول إلى نموذج ناجح للتعاون الإقليمي.
هذه الاتفاقية لن تخلق فرصاً اقتصادية جديدة فحسب، بل ستكون أيضاً أداة فعالة لتخفيف ضغوط العقوبات وتعزيز مكانة إيران في المعادلات الإقليمية.