أربعين الإمام الحسين(ع) تقليد ديني وثقافي مهم يلعب دورًا كبيرًا في التقريب وتوحيد الشعوب في جميع أنحاء العالم لما يتضمنه من تعاطف وتضامن وتبادل ثقافي وتعزيز الهوية الإسلامية، ونشر رسالة السلام والحوار الدولي، كلها من بركات هذا الحدث العظيم. ويوفر هذا الحدث الكبير فرصة للحوار والتفاعل بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى، وقد ساهم بشكل ملحوظ في تعزيز العلاقات بين الأديان. كما أن هذا التجمع الضخم والمهيب، الذي يهدف إلى إيصال رسالة عاشوراء بما تتضمنه من مفاهيم العدالة والحرية والسلام، يمكن أن يسهم في تعزيز القيم الإنسانية على المستوى العالمي، ويُعد رمزًا للمقاومة والصمود في وجه الظلم، مما يؤدي إلى تقوية الهوية الإسلامية ووحدة المسلمين.
من أبرز نماذج «السياحة المعنوية» في العالم
الأربعين، أبعد من كونه طقساً دينياً، هو رحلة تضع الجسد والروح معاً في مسار التحول؛ تجربة عميقة من التعاطف والإيثار وإعادة تعريف الهوية، يمكن اعتبارها واحدة من أبرز نماذج «السياحة المعنوية» في عالم اليوم.
وكتب الباحث في مجال السياحة علي أكبر بني أسدي، في مذكرة: في زمننا المتسارع اليوم، يحتاج الإنسان أكثر من أي وقت مضى إلى تجارب تتجاوز صخب الحياة اليومية، وتدفعه للتأمل في المعنى وإعادة التفكير في مسار حياته. السياحة، في هذا السياق، لا تعني فقط الانتقال المكاني؛ بل يمكن أن تكون جسراً للعبور من السطح إلى العمق، ومن الظاهر إلى الباطن، ومن الفردية إلى الجماعية. مراسم المشي في الأربعين الحسيني مثال بارز على هذه الإمكانية؛ حيث يبدأ ملايين الزوار من جميع أنحاء العالم، بخطى متعبة ولكن بقلوب مفعمة بالحب، رحلة يكون مقصدها النهائي التحول الداخلي وسمو الروح.
في العالم المعاصر، أصبحت السياحة كإحدى الفروع الهامة للدراسات الثقافية والاجتماعية، تكتسب أبعاداً جديدة. لم تعد السياحة مجرد نشاط ترفيهي واقتصادي، بل ينظر إليها كفعل ثقافي وهوياتي بل وحتى علاجي.
مرحلة جديدة من الوعي ومعرفة الذات
السياحة المعنوية هي رحلة لا تغيّر الوجهة فحسب، بل تغيّر المسافر أيضًا على مستوى عميق. هي رحلة من الداخل إلى الخارج؛ تجربة يمر بها الفرد من حالته النفسية والروحية الحالية إلى مرحلة جديدة من الوعي، ومعرفة الذات، وفهم الوجود. في هذا النوع من السفر، يؤدي التفاعل مع المكان والناس والمواقف ذات المعنى إلى إعادة بناء ذهنية وتحول روحي ومعنوي للمسافر. من بين أبرز مظاهر هذا النوع من السياحة في العالم الإسلامي، بل وفي جميع أنحاء العالم، هي مراسم المشي في الأربعين الحسيني؛ مناسبة تجمع ملايين الأشخاص سنويًا من مختلف أنحاء العالم، ليس فقط كممارسة دينية، بل أيضًا عملية تربوية وروحية واجتماعية ونفسية ويمكن تحليلها في أدبيات السياحة، وطرح مفهوم «السياحة التجريبية» الذي يشكل أساس تكوين مفهوم السياحة التحويلية. في هذا النهج، لا تعني الرحلة مجرد التنقل الجسدي، بل هي تجربة متعددة الأبعاد تشمل التفاعل العاطفي والذهني والروحي والاجتماعي للمسافر مع بيئة الوجهة. وخاصة عندما تقترن هذه التجربة بالتأمل في قيم الحياة، ومواجهة مفاهيم الموت، والتضحية، والإنسانية، والتضامن الجماعي، فإننا ندخل مجال السياحة التحويلية.
الأربعين؛ نموذج من السياحة المعنوية «التحويلية»
تجربة شخصية عميقة وداخلية، مواجهة الحدود الفكرية والنفسية، التواجد في حالات غير مألوفة أو مليئة بالتحديات
تحول مستدام في الرؤية أو السلوك أو الموقف الشخصي.
مثل هذه التحولات عادة لا تحدث في الرحلات العادية، بل تحتاج إلى بيئة يكون فيها النسيج الثقافي والروحي والجماعي قادراً على إيقاظ وتفعيل القدرات الداخلية للفرد.
الأربعين؛ نموذج من السياحة المعنوية، باعتبارها ظاهرة دينية واجتماعية فريدة من نوعها، تتوافق من عدة جوانب مع عناصر السياحة المعنوية.
المشي في الاربعين؛ رمز للسير والسلوك
«المشي» في الاربعين، رمز للسير والسلوك. يقطع الزائر الطريق من النجف الاشرف إلى مدينة كربلاء المقدسة مشياً على الاقدام ولكن هذا ليس مجرد حركة جسدية فقط، هذه الخطوات هي علامة على الحركة الداخلية والانتقال من الذات نحو حقيقة أكبر. كل خطوة فرصة لتكرار الذكر، للصمت، لفهم الألم، لفهم التضحية، ولتذكير الهدف الأساسي للحياة.
الانفصال عن الروتين والدخول إلى الفضاء الروحي
الأربعين، بسبب طابعها الجماعي، وقلة الإمكانيات، وخصوصية أجوائها الثقافية، تتيح للزائر أن يبتعد عن الحياة اليومية، وعن العالم الافتراضي، وضوضاء المدن، وأنماط الاستهلاك، ليعيش في عالم بسيط، مليء بالمحبة والصدق والإيثار، هذا الانقطاع المؤقت عن الحياة المعتادة يُعد أحد الشروط الأساسية في السياحة الارتقائية.
القدرة على الخدمة والتواضع
في مسيرة الأربعين، يواجه الزائر مشاهدَ متجذرة في فطرة الإنسان: أناس غرباء من لغات وجنسيات مختلفة يقدمون له الطعام بالحب والاحترام، ويعطونه الملابس والدواء، ويغسلون قدميه.
هذه الخدمة دون انتظار مقابل، تدفع الإنسان للتأمل في معنى الكرامة والعطاء والتضامن. مشاعر الخجل والامتنان والتواضع هي جزء من عملية إعادة بناء نفسية الزائر.
تجربة التعاطف العالمي
المشاركة في مسيرة الأربعين هي نوع من تجربة التعاطف بين الأذهان؛ حيث يلتقي الأفراد، رغم اختلاف اللغة والثقافة وحتى الدين، في ساحة عاطفية وروحية مشتركة. هذا التعاطف الجماعي له تأثير مهم على نمو الشخصية، وتوسيع وجهات النظر الثقافية، وتصحيح المواقف القومية.
الشهادة والتضحية في ذروة المظلومية
الأربعين تذكّرنا بالشهادة والتضحية في ذروة المظلومية. مواجهة قصة الإمام الحسين(ع)، وأصحابه الأوفياء، وفاجعة كربلاء، تنقل الزائر من المستوى العادي للفهم التاريخي إلى مجال الفهم العاطفي والوجودي للموت وحقيقة الحياة.
هذه المواجهة، في كثير من الحالات، تؤدي إلى يقظة داخلية، واتخاذ قرارات جديدة، وتغيير نمط الحياة.
النقطة المهمة في السياحة الارتقائية هي مرحلة العودة. في هذه المرحلة، لم يعد الشخص هو نفسه الذي بدأ الرحلة. في العديد من التقارير والذكريات والمقابلات مع زوار الأربعين، يمكن بوضوح ملاحظة علامات هذا التحول:
أشخاص قاموا بتبسيط نمط حياتهم بعد الرحلة؛ أولئك الذين قرروا ترك العادات السلبية أو الأمور غير المجدية في حياتهم؛
أو الذين بدأوا أنشطة ثقافية أو اجتماعية أو خيرية، مستلهمين من ثقافة الأربعين.
في أدبيات التحول الفردي، يمكن اعتبار هذه التغييرات دليلاً على «إعادة تعريف الهوية» و«إضفاء معنى جديد على الحياة»، وهو بالضبط الهدف الرئيس للسياحة المعنوية.
لذلك، فإن الأربعين، ليست مجرد طقس ديني فحسب، بل هي نوع من الرحلة الداخلية والاجتماعية التي تكتسب معناً في إطار حركة جسدية.
أرضية فريدة لتجربة التحول الروحي والرقي الداخلي
إن حضور ملايين البشر من ثقافات مختلفة، إلى جانب الأجواء الروحانية، والخدمات المقدمة دون مقابل، والمسير الطويل، والتواصل الإنساني النقي، يوفر أرضية فريدة لتجربة التحول الروحي والرقي الداخلي.
إعادة قراءة الأربعين من زاوية السياحة المعنوية لا يضفي فقط رؤية جديدة على هذا الحدث، بل يمكن أن يمهد أيضاً لتصميم وتطوير سياسات في مجال السياحة الثقافية، التربية الروحية، والتواصل بين الثقافات.
في عالم يعاني من السطحية وفقدان المعنى، يمكن للأربعين أن يكون نموذجاً للعودة إلى العمق، إلى المعنى، وإلى الإنسانية.
إعادة قراءة مراسم الأربعين في إطار السياحة المعنوية هي فرصة لفهم جديد لقوة التجارب الجماعية والروحية والثقافية في بناء إنسان أكثر التزاماً ووعياً وتآلفاً. هذه الرحلة لا تنتهي بالوصول إلى مدينة كربلاء المقدسة ولا تقتصر على أيام معينة؛ بل هي نقطة بداية لمسار جديد في الحياة يمكن أن يؤدي إلى العيش ببساطة أكبر، والبحث عن معنى أعمق، والتصرف بمسؤولية أكبر. في عالم عطِش للمعنى، تذكّرنا الأربعين بهذه الحقيقة: أنه لا يزال بالإمكان إيجاد مكان بين ملايين البشر للطيبة بلا مقابل، والتآلف بلا حدود، وإيمان حي.
إعادة قراءة مراسم الأربعين في إطار السياحة الهادفة إلى الارتقاء، هي فرصة لإدراك جديد لقوة التجارب الجماعية والروحية والثقافية في بناء أشخاص أكثر التزاماً ووعياً وتعاطفاً. هذه الرحلة لا تنتهي بالوصول إلى مدينة كربلاء المقدسة، ولا تقتصر على أيام معينة؛ بل هي نقطة انطلاق لمسار جديد في الحياة يمكن أن يؤدي إلى عيش أبسط، وأن يكون الإنسان أكثر معنى وتصرفاً بمسؤولية أكبر. في عالم متعطش للمعنى، تذكّرنا الأربعين بهذه الحقيقة: أنه لا يزال بالإمكان العثور بين ملايين البشر على مكان للطيبة دون مقابل، والتعاطف بلا حدود، وإيمان حي.