د. عباس خامه یار*
في الأربعین، تتعطّر الأرض بنفحات السماء.
وتتحوّل الطُرُق، تحت أقدام الملایین من القلوب العاشقة، إلى نهرٍ لا ینتهي؛
ینبع من أقصى القرى والمدن، ومن أعماق الجبال والصحاری،
لیفـیض أخیراً في بحر کربلاء اللامتناهي.
هواء المسیر ممزوجٌ بعطر التراب المبتلّ بمطر الخریف،
وبرائحة الخبز الخارج توّاً من التنّور.
کل خطوة ترافقها سلامات، وأیدي ممدودة، ودموع في عیون المضیفین.
أطفالٌ یرفعون بأیدیهِم الصغیرة کؤوس الماء البارد.
عجائزُ منحنیاتُ الظهر یضعن التمر والخبز على الموائد.
شبابٌ یکنسون الطریق لئلّا یغمر الغبارُ خطوات الزائر.
وکلّهم، دون أيّ انتظار، واقفون على حبّ اسمٍ واحد: الحسین(ع).
هذا الطریق لا یعرف حدوداً ولا جنسیات.
عربٌ وعجم، أتراکٌ وأفغان، سودٌ وبيض، مسلمون، بل وأتباع دیانات أخرى؛
کلّهم في صفٍّ واحد.
في هذا الموکب، یکون المارّ المجهول أعزَّ ضیف في أکرم البیوت.
وأصدق الهتافات ذاك «لبیك یا حسین(ع)» الخارج من أعماق الأرواح.
الأربعین امتدادٌ لعاشوراء؛
هي المعركة الأبدیة بین الحقّ والباطل.
وهنا یکون الاختیار بسیطاً:
إمّا أن تقف في خیمة الحسین(ع) وزینب(س)،
أو تنزلق – ولو دون قصد – إلى صفوف یزید وأعوانه.
طریق الحسین(ع) لیس قراراً لحظةً عابرة،
بل هو منهجٌ ربّى الأجیال، وأشعل الثورات،
ودفع برجالٍ ونساءٍ عظام إلى ساحات الفداء.
في کل خطوة، تسمع صوت التاریخ:
وقعَ الرماح والسّیوف، صرخة «هل من ناصر ینصرني»،
بکاء الأطفال، ونداء «زینب» المتردّد مع هبوب الریح.
ولکنك، إلى جانب ذلك، تسمع ضحکات أطفال الیوم،
وهم یجرون في طریق العشق، على أمل غدٍ أبهى.
تقول الإحصاءات العالمیة إنّه أکبر تجمعٍ سلميّ للبشریة،
ولکن لغة الأرقام تعجز عن وصف الحقیقة.
فحقیقة الأربعین لا تُدرك إلا في دفء ید المضیف،
وفي دمعة على طرف عین الزائر،
وفي لذّة التعب في الخطوات،
وفي ذلك النور المنبعث من القبة الذهبیة إلى القلوب.
وعند نهایة الطریق، حین تلوح القبةُ والعَلَمُ الأسود یتألقان من بُعد،
ترتجف رکبتاك، ویخفق قلبك سریعاً، وتنساب دموعك بلا إرادة.
هنا، لم تعد الأرض أرضاً،
بل السماء هي التي حلّت على التراب.
تضع جبهتك على العتبة، وتهمس:
«یالَیتَنا کُنّا معك»…
وفي قلبك تعقد عهداً جدیداً؛
عهداً بأن تمتدّ هذه الطریق،
لا على تراب العراق فحسب،
بل في کل مسیر حیاتك.
نعم… الأربعین رحلةٌ إلى کربلاء المقدسة،
ولکن غایتها السماء..
* المستشار الثقافي الإيراني السابق في بيروت