في عالم تتشابك فيه السياسة مع المبادئ، وتُستخدم فيه حقوق الإنسان كأداة ضغط أو ورقة تفاوض، يطلّ علينا التقرير السنوي الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية لعام 2025، حاملاً في طياته الكثير من الجدل. التقرير الذي يُفترض أن يكون مرآةً حيادية تعكس واقع الحريات والحقوق حول العالم، بدا هذا العام وكأنه انعكاسٌ مشوّه لأجندة سياسية، إذ تجاهل انتهاكات واضحة في مناطق حساسة، وركّز على دول حليفة وأخرى خصمة، وفقاً لما يناسب مصالح واشنطن في عهد دونالد ترامب ووزير خارجيته ماركو روبيو.
ازدواجية صارخة في تقييم الحريات
التقرير الذي لطالما اعتُبر مرجعاً دولياً في تقييم أوضاع حقوق الإنسان، جاء هذه المرة مقتضباً، متجاهلاً بشكل واضح بعض الملفات الساخنة، وعلى رأسها الانتهاكات الصهيونية في غزة والضفة الغربية. وبينما أقرّ بوجود عمليات توقيف تعسفية وقتل خارج القانون، اكتفى بالإشارة إلى أن السلطات الصهيونية قامت بـ«خطوات ذات مصداقية» لتحديد المسؤولين، دون الخوض في تفاصيل أو تحميل أي جهة مسؤولية مباشرة.
في المقابل، لم يتوانَ التقرير عن توجيه انتقادات حادة لعدد من الدول الأوروبية، مثل المملكة المتحدة، ألمانيا وفرنسا، متّهماً إياها بفرض «قيود خطيرة» على حرية التعبير. ففي بريطانيا، أشار التقرير إلى تدخلات حكومية متكررة لإخماد حرية الرأي، خاصة بعد حادثة ساوثبورت التي أثارت جدلاً واسعاً حول خطاب الكراهية على الإنترنت.
التحالفات السياسية تُملي المعايير
ما يثير الريبة في هذا التقرير هو الانتقائية الواضحة في تسليط الضوء على الانتهاكات. فبينما تجاهل التقرير السلفادور، إحدى الدول الحليفة لترامب، بحجة «عدم وجود تقارير موثوقة عن انتهاكات كبيرة»، لم يتردد في انتقاد البرازيل، حيث ندد بالملاحقة القضائية للرئيس السابق جايير بولسونارو، حليف ترامب، واعتبرها تدهوراً في الوضع الحقوقي.
أما الصين، الخصم الاستراتيجي للولايات المتحدة، فقد نالت نصيباً وافراً من الانتقاد، حيث وصف التقرير ما يحدث بحق أقلية الأويغور المسلمة بأنه «إبادة»، في استمرار لنهج الإدارات الأميركية المتعاقبة في استخدام ملف الأويغور كورقة ضغط سياسية.
جنوب أفريقيا والأقلية البيضاء
في خطوة مثيرة للجدل، أشار التقرير إلى «تدهور كبير» في وضع حقوق الإنسان في جنوب أفريقيا، مسلطاً الضوء على قضية «الأقلية البيضاء»، وهي قضية لطالما أثارت انقساماً داخلياً في البلاد. دعم ترامب لهذه القضية بدا واضحاً، مما يطرح تساؤلات حول مدى حيادية التقرير، وهل بات يُستخدم لتبرير مواقف سياسية أكثر من كونه أداة تقييم موضوعية.
منظمة العفو الدولية.. تحذير من رسالة مخيفة
ردود الفعل لم تتأخر، إذ عبّرت منظمة العفو الدولية في الولايات المتحدة عن قلقها العميق من محتوى التقرير، واعتبرته «رسالة مخيفة» مفادها أن واشنطن ستتغاضى عن الانتهاكات إذا كانت تخدم أجندتها السياسية. الناشطة أماندا كليسنغ قالت بوضوح: «انتقدنا تقارير سابقة عندما كان هناك ما يبرر ذلك، لكن لم يسبق قط أن شهدنا تقارير مثل هذا التقرير».
حرية التعبير في أوروبا.. بين الرقابة والردع
الانتقادات التي طالت أوروبا لم تكن عابرة، بل جاءت مفصلة، خاصة في ما يتعلق بحرية التعبير. ففي ألمانيا وفرنسا، أشار التقرير إلى تدخلات حكومية للحد من خطاب الكراهية على الإنترنت، وهو ما اعتبرته الخارجية الأميركية «تدخلاً سياسياً» في حرية الرأي.
هذا التوصيف يثير جدلاً واسعاً، خصوصاً أن هذه الدول تتعامل مع خطاب الكراهية كتهديد اجتماعي وأمني، وليس مجرد تعبير عن الرأي.
الكيان الصهيوني.. اختصار الفقرة وتضخيم التبرير
اللافت في التقرير هو اختصار الفقرة المرتبطة بكيان العدو، رغم أن الانتهاكات الموثقة في غزة والضفة الغربية في السنوات الأخيرة كانت محل إدانة من منظمات دولية عدة. الاكتفاء بالإشارة إلى «خطوات ذات مصداقية» دون ذكر أي تحقيقات أو محاسبة فعلية، يعكس ازدواجية واضحة في المعايير، ويطرح تساؤلات حول مدى استقلالية التقرير عن التوجهات السياسية للإدارة الأميركية.
الحقوق كأداة سياسية.. هل فقد التقرير مصداقيته؟
في ظل هذه الانتقائية، يبدو أن التقرير السنوي لحقوق الإنسان بات أقرب إلى وثيقة سياسية منه إلى تقييم حقوقي مستقل. فالتقارير السابقة كانت تتسم بالتفصيل. بينما جاء هذا التقرير مقتضباً، موجهاً، ومليئاً بالتبريرات التي تخدم مصالح واشنطن في ظل إدارة ترامب.
الناطقة باسم الخارجية الأميركية، تامي بروس، دافعت عن التقرير بالقول إن «القليل يكون أفضل أحياناً»، معتبرة أن التقارير السابقة كانت «منحازة سياسياً». لكن هذا التبرير لم يقنع الكثيرين، خاصة في ظل غياب أي إشارة إلى انتهاكات واضحة في مناطق مثل غزة، أو أملكن أخرى.
هل ما زالت واشنطن مؤهلة لقيادة الخطاب الحقوقي؟
في ظل هذا التوجه الجديد، تبرز تساؤلات جوهرية حول دور الولايات المتحدة في قيادة الخطاب الحقوقي العالمي. هل يمكن لواشنطن أن تستمر في تقديم نفسها كمدافع عن الحريات، بينما تتغاضى عن انتهاكات حلفائها وتستخدم حقوق الإنسان كأداة سياسية؟ وهل باتت التقارير الحقوقية الأميركية انعكاساً لتحالفات آنية أكثر من كونها مرآة للواقع؟
التقرير السنوي لهذا العام لا يجيب عن هذه الأسئلة، بل يثيرها بقوة. وبينما يستمر العالم في مواجهة تحديات حقوقية متزايدة، يبدو أن الحاجة إلى تقييمات مستقلة وحيادية باتت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. فحقوق الإنسان لا يجب أن تكون ورقة تفاوض، بل مبدأ عالمي لا يُساوَم عليه.