إغتيال الطفولة والتعليم في زمن القصف

أطفال في مرمى الحرب المفروضة.. ذاكرة الشهادة وثقافة المقاومة

خاص الوفاق: من بين الشهداء، 11 طفلاً في المرحلة الابتدائية، منهم 8 فتيات و3 أولاد، بأسمائهم الكاملة، وأعمارهم، وهواياتهم، وأحلامهم الصغيرة التي لم تُكتمل. هؤلاء ليسوا مجرد ضحايا، بل رموز ثقافية وإنسانية يجب أن تُخلّد.

في كل حرب، هناك ضحايا لا يُذكرون بما يكفي، لا لأنهم أقل شأناً، بل لأنهم أصغر سناً. وفي زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتُختزل فيه المآسي في أرقام، تبرز مأساة الأطفال الشهداء في الحرب المفروضة التي استمرت 12 يوماً بين إيران والكيان الصهيوني كجرحٍ مفتوح في ضمير الإنسانية.
الأطفال، الذين لم يكتبوا بعد أول جملة في دفترهم المدرسي، والذين لم يكتمل نطقهم للحروف الأبجدية، يُغتالون بصمت تحت الأنقاض أو في أحضان أمهاتهم.
الحرب المفروضة الصهيونية ليست مجرد حرب، بل مشهد دامٍ من اغتيال الطفولة، من دفاتر لم تُفتح، وأحلام لم تُكتمل، وأسماء تحوّلت من نداءات صباحية في الصفوف إلى نداءات في مراسم التشييع.
ولم تكن فقط عدواناً عسكرياً، بل كانت جريمة ثقافية وإنسانية بحق الطفولة والتعليم. استُشهد 34 طالباً، بينهم أطفال كانوا على وشك دخول الصف الأول، في مشهدٍ يختزل كل معاني الظلم والوحشية.
هذا المقال لا يرثي فقط، بل يحلل، ويوثق، ويستنهض الوعي الثقافي تجاه جريمة لا يجب أن تمرّ بصمت.
 

المدرسة.. منبر الحياة الذي تحوّل إلى شاهد قبر

المدرسة ليست مجرد مبنى، بل هي أول فضاء اجتماعي يكتشف فيه الطفل ذاته، ويبدأ فيه تشكيل هويته، ويتعلم فيه كيف يحلم. حين يُستهدف الطلاب، فإن ما يُستهدف هو المستقبل نفسه.

 

استشهاد 34 طالباً، بينهم 11 في المرحلة الابتدائية، هو أكثر من مجرد رقم؛ هو إعلان صريح بأن الطفولة لم تعد آمنة، وأن التعليم بات هدفاً في مرمى النيران.
الطفلان «عليسان جباري» و«طه بهروزي»، من مدينة تبريز، كانا قد سُجّلا رسمياً في الصف الأول، لكن القصف الغادر أنهى حياتهما قبل أن تبدأ رحلتهما التعليمية. قال والد طه: «في يوم استشهاده، قمنا قبل ساعات بتسجيله في الصف الأول. كان ذلك اليوم هو بداية مشواره الدراسي، لكنه أصبح يوم استشهاده أيضاً». هذه المفارقة المؤلمة تختزل كيف يمكن أن يتحوّل يوم البداية إلى يوم النهاية.

 

الطفولة المبدعة التي لم تُكمّل قصتها

«آيما زينلي»، الطفلة التي كانت تصنع الأعمال اليدوية منذ سن الثالثة، استُشهدت مع والدها وشقيقتها هیدا. كانت تملك طاولة مليئة بالأقلام والأوراق الملونة، وتحب تأليف القصص وقراءة الشعر. قالت والدتها: «اسمها يعني «قمرنا»، وكانت قمر حياتي، لكنها أصبحت اليوم قمر كل إيران. هذه الطفلة لم تكن مجرد طالبة، بل كانت مشروعاً ثقافياً صغيراً، حلماً إبداعياً لم يُكتمل.

من بين الشهداء، 11 طفلاً في المرحلة الابتدائية، منهم 8 فتيات و3 أولاد، بأسمائهم الكاملة، وأعمارهم، وهواياتهم، وأحلامهم الصغيرة التي لم تُكتمل. هؤلاء ليسوا مجرد ضحايا، بل رموز ثقافية وإنسانية يجب أن تُخلّد.

 

المدرسة كرمز ثقافي مستهدف

تدمير 36 مدرسة خلال الحرب ليس مجرد خسارة بنيوية، بل هو استهداف مباشر للهوية الثقافية والتعليمية للأمة. المدارس هي مصانع الوعي، وحين تُقصف، فإن ما يُقصف هو العقل الجمعي. استشهاد 5 معلمين، يُظهر أن العدوان لم يفرّق بين من يُعلّم ومن يتعلّم.

وزير التربية والتعليم علیرضا كاظمي أعلن أن من بين الشهداء 34 طالباً و5 معلمين، وأن هناك إصابات في صفوف الطلاب والكوادر التعليمية. هذه الأرقام ليست إحصاءات، بل وثائق دامغة على أن التعليم بات هدفاً في الحروب الحديثة. هذه ليست خسائر تعليمية فحسب، بل ضربة للهوية الثقافية للأمة.

 

عصر الشعر والذكرى

في مراسم «عصر الشعر والذكرى»، التي أُقيمت في مركز الإبداع الثقافي والفني، اجتمع شعراء أدب الطفل والناشئين، وعائلات الشهداء، ليُعيدوا صياغة الحزن إلى قصائد، والدموع إلى كلمات. قال المدير العام للمركز، حامد علامتي: من واجبنا أن نحافظ على ذكرى هؤلاء الأعزاء حيّة، وأن نُبرز مفاهيم التضحية والشهادة في أعمالنا الأدبية.

الشعراء، بأقلامهم، نقلوا رسالة المقاومة، وقرأوا قصائد في رثاء الأطفال الشهداء، مؤكدين أن الأدب هو أولى علامات الثقافة، وأن القلم يظل حياً بنور الشهداء.

 

الرمزية العاشورائية في تخليد الشهداء الأطفال

في موكب «في طريق العشق»، الذي أُقيم في طهران خلال مسيرة الأربعين للذين لم يتمكنوا من الذهاب إلى كربلاء المقدسة، تم تخليد ذكرى الأطفال الشهداء من خلال الفن التفاعلي، الألعاب التعليمية، وسرد القصص. تم توزيع ثلاثة آلاف شارة تحمل صور الأطفال الشهداء، وتم تصوير الجرائم بحق الأطفال من كربلاء المقدسة إلى غزة. وشارك الأطفال والناشئون في إبداع عمل فني جماعي يحمل رسالة «استمرار طريق الإمام الحسين (ع)». الضيافة كانت من تنظيم فتيات ناشئات، وتم توزيع مواد ثقافية كتذكار للمشاركين.

هذا الربط بين عاشوراء والحرب الأخيرة ليس مجرد تذكير تاريخي، بل تأكيد على أن الظلم لا يتغير، وأن الأطفال هم دائماً الضحايا الأبرياء في معارك الكبار. الفن التفاعلي الذي شارك فيه الأطفال والناشئون كان محاولة لإعادة بناء الحلم، ولو رمزياً، من خلال الإبداع الجماعي.

 

الأطفال ضحايا دائمون

في مراسم إحياء ذكرى 47 طفلاً شهيداً في روضة أطفال «آمنه»، قال السيد جواد حسيني، رئيس منظمة الرعاية الاجتماعية: «عرض الآثار المرعبة للحرب الصهيونية المفروضة له جانب مهم، وهو أن الأطفال كانوا دائماً الضحايا الرئيسيين في الحروب. في هذه الحرب المفروضة الصهيونية أيضاً، استُشهد 47 طفلاً، إما في أحضان والديهم، أو تحت الأنقاض، أو مباشرةً برصاص القصف».

وأضاف: «من واجباتنا أن نُثير الحساسية العالمية تجاه الظلم. عدم الاكتراث أخطر من الحرب نفسها. هذه المراسم تحمل رسالة واضحة: لا يجب أن نكون غير مبالين، ويجب أن نتخذ موقفاً دائماً ضد الظالمين».

 

من الشهادة يُبنى الوعي

ما حدث في الحرب المفروضة الأخيرة ليس مجرد مأساة، بل اختبارٌ للضمير الثقافي والإنساني. الأطفال الذين استُشهدوا لم يكونوا فقط ضحايا، بل كانوا رسلاً للوعي، وأبطالاً للذاكرة، ومفاتيحاً لمستقبلٍ يجب أن يُبنى على العدالة والرحمة.

إن مسؤوليتنا، ككتّاب ومثقفين ومواطنين، أن نُخلّد أسماءهم، أن نُحوّل قصصهم إلى رموز، وأن نُعيد صياغة الحزن إلى مقاومة. الثقافة لا تُبنى فقط في المكتبات، بل في ساحات الألم، وفي قصائد الرثاء، وفي مواكب العزاء، وفي دفاتر الأطفال التي لم تُفتح. هؤلاء الأطفال هم شهداء الثقافة، شهداء الحلم، وشهداء المستقبل. واجبنا أن نروي قصصهم، لا أن نرثيهم فقط.

 

المصدر: الوفاق/ خاص