قمة وصفتها الصحافة العالمية بأنها «مفصلية» 

  هل يعيد لقاء ترامب مع بوتين رسم خريطة التوازن العالمي ؟

أثبت لقاء ترامب - بوتين أن التاريخ لا يُكتب بقراراتٍ أحادية، بل بالتوازنات القوية التي تعطي لكل طرفٍ وزنه الحقيقي ويؤكد قدرة الحوار على فتح انفراجات في واحد من أعقد صراعات هذا العقد

الوفاق /في تلك الصباحات الباردة التي يغطي فيها الضباب ميناء أنكوريج، كانت متابعة العالم معلقة على شاحنة عسكرية روسية تدخل أراضٍ أميركية بعد أكثر من عقد كامل من الغياب. ألاسكا، الولاية التي انتقلت من الإمبراطورية الروسية إلى الولايات المتحدة قبل 157 عاماً، عادت لتكون مسرحاً يجمع زعيمي قوتين عظيمتين في قمة وصفتها الصحافة العالمية بأنها «مفصلية». في هذا اللقاء، تلاقت الرغبة في تهدئة الصراع الأوكراني مع ضغوط واشنطن لإجبار موسكو على وقف الحرب، وبرزت أبعاد لا تنحصر في ملفات السياسة التقليدية فحسب، بل تمتد إلى الأمن النووي، وأسواق الطاقة، وتحالفات إقليمية وأخرى متشابكة حول القطب الشمالي، وصولاً إلى حسابات الداخل الأميركي والروسي.

 

اتسم استعداد العواصم الكبرى قبل أيام من انطلاق القمة بالتوتر المرتقب والتنسيق المكثف، انطلقت التحضيرات وتبلورت التوقعات، بينما اكتظّت القاعات خلف الأبواب المغلقة بمفاوضات «ثلاثة مقابل ثلاثة». تعالت ردود فعل أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي وتجلّت انعكاسات هذا اللقاء على دول آسيا وأميركا اللاتينية، لتُعلن بعدها أولى الاتفاقات والالتزامات التي عكست نفسها مباشرة على أسواق النفط والغاز ومسار الحدّ من التسلّح النووي. مشهد يجمع زعيمين على أرض يكسوها الجليد، يؤكد قدرة الحوار على فتح انفراجات في واحد من أعقد صراعات هذا العقد.

 

ما قبل القمة – مسارات التوتر وبناء سقف التوقعات

 

قبل أن يلتقي بوتين وترامب في قاعدة «إلمندورف ريتشاردسون»، انهمكت أجهزة الاستخبارات في باريس وكييف بنتائج القمة. الأوروبيون تساءلوا: هل سيقبل ترامب رفع قيود نجحت في خنق صادرات النفط الروسي؟ ثم جاءت تفجيرات الإمدادات الغازية في بحر البلطيق لتزيد المخاوف من تعطيل كامل لسد فجوة الشتاء.

 

في موسكو، قادت رؤية الكرملين إلى اختيار صيغ تفاوضية تجنّبت أي إشارة إلى التراجع عن «حلف الناتو». أجرت روسيا تدريبات عسكرية مفاجئة في مقاطعتي كلينينغراد وكالينينغراد، لتذكير الغرب بأنها قادرة على تحويل كل نقطةٍ جغرافيةٍ إلى جرفٍ أمني. من دون أن تُعلِم مسبقاً أحداً، أُدخلت صواريخ إس-400 إلى تشكيلة التمرين، في رسالةٍ ضمتها تصريحات لافروف عن «رفض أي تهديد أمني يطال حدودنا».

 

في واشنطن، جاءت تصريحات ترامب من منصة «تروث سوشيال» لتضع سقفاً شخصياً: «إن لم تثمر القمة عن وقف لإطلاق النار في أوكرانيا، سأنسحب». الضغوطات على بوتين، جاءت بعد أيام من تقارير «بلومبرغ» عن دراسة فرض عقوبات إضافية على «روسنفت» و«لوك أويل»، في محاولة أخيرة لدفع روسيا نحو طاولة سلام.

 

خلفَ الكواليس، اجرى الجانبان اتصالاتٍ دبلوماسية مع الصين والهند وتركيا، كلٌ يستطلع مدى استعدادهما لاستغلال أي انتعاش في العلاقات الروسية-الأميركية لصالح خفض شرائح المشتريات أو لطلب مشاريع نقل الغاز عبر خطوط جديدة. وكلما اقترب تاريخ 15 آب/أغسطس، ازداد القلق الإقليمي على مصير سوريا وليبيا، حيث كان الطرفان يُعدّان خطاباً موحداً يطالب بـ«حل سياسي شامل».

 

 اللقاء في السيارة والافتتاحية

 

في مطار أنكوريج، حين سار بوتين باتجاه سيارة الرئاسة الأميركية، بدا الرئيسان أمام عدسات الكاميرات وكأنهما ثنائي درامي يلتقي للمرة الأولى بعد صراع طويل. لم تعتمد مراسم استقبالٍ فاخرٍ كما في قمم سابقة، بل اختار الجانبان صيغة حميمة: انطلاقةٌ في سيارة مغلقة لقائدَي أكبر قوتين نوويتين.

 

داخل الأربعة أمتار من المقصورة، رُصدت لهجتان مختلفتان. بوتين، المحكم في حديثه، استوقف ترامب عند نقطة احترام الأمن الروسي، ونقاشٌ عميق حول الضمانات المستقبلية لعدم توسع الناتو. ترامب، المتفائل بانتصار الدبلوماسية «على الأرض»، شدّد على ضرورة وقف الحرب أولاً قبل أي نقاش آخر. ثم انطلقت السيارة وتباينت الملامح: ابتسامة عرضية من بوتين في وجه ترامب المتحدث بإيحاءاتٍ عن جني نقاطٍ انتخابيةٍ داخلية.

ما يقرب من 45 دقيقةً مرت قبل الوصول إلى القاعة الرئيسة، حملت في طيّاتها رسائل أكبر من الكلمات. إذ اعتبرت موسكو الصورة بمثابة اعتراف بدورها النووي الاستراتيجي، واعتبرت واشنطن أنها فرضت شروطها الخاصة بعدم تكرار «خطأ» قممٍ سابقة انتهت بلا نتائج.

 

صيغة «3 مقابل 3».. ميثاق الغموض

 

انطلقت المباحثات بصياغة «ثلاثة مقابل ثلاثة»، تضمّ وزارتي الخارجية والخزانة من كل جانب، مع إدخال مديري أجهزة الاستخبارات. في غرفة الاجتماعات، التي نُصِبت فيها طاولة بيضوية فائقة العزل الصوتي، تجلى الحرص على إبقاء أي تسريبٍ للنقاشات من دون بروتوكولات صحافية.

 

 

تطرقت الجولة الأولى إلى ملف وقف إطلاق النار، بتمهيدٍ أميركي أشار إلى جدول زمني أولي مدته شهران لإرساء «هدنة مبدئية»، قُوبل بتساؤلات روسية حول كيفية ضمان انسحاب القوات الأوكرانية من دون إشراف المواجهة اللاحقة. ثم تناهى نقاش عن آليات تفتيش مشتركة في دونباس، بصيغةٍ قد تتجاوز دور منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.

 

عند المرحلة الثانية، تناهى الحديث إلى العقوبات الاقتصادية. هنا، رُفعت دراسة عن «قائمة مرنة» لشركات النفط والغاز الروسية، يحق لموسكو تعديلها أو استبعاد أسماء منها لقاء التقدم في الانسحاب من الأراضي الأوكرانية.

 

أما الجولة الثالثة، فكانت الأكثر حساسية: التسلّح النووي. عاد المشهد إلى 2007 حين أُبرمت صفقات «ستارت» لأول مرة. هذه المرة، بات النقاش حول إمكانية ضم اتفاقية إلكترونية للتقنيات الفضائية والصواريخ الباليستية العابرة للقارات. في وقتٍ لم تبتّ فيه المسألة عبر بندٍ واضح، اتفق الجانبان على تشكيل «لجنة فنية مشتركة» لتحضير تعديل معاهدة تبدأ مسوداته الجمعة المقبلة.

 

 انعكاسات فورية – أوكرانيا وحلف الأطلسي والإعلام العالمي

 

حال إعلان انتهاء المباحثات الأولية، انطلق سباق التصريحات. في كييف، عبّر زيلينسكي عن ترحيبٍ بالحوار، إلا أنه حذّر من أي مفاوضات «خلفية» تُقصي أوكرانيا عن قرار مستقبل سيادتها. الأوروبيون عبروا عن ارتياحٍ مضاعفٍ لرؤية واشنطن وموسكو مجدداً يتحدثان وجهًا لوجه، لكنهم طالبوا بآليات ضامنةٍ لا تترك «إدارة السلام» لبلدين فقط دون إشراك المؤسسات الدولية.

 

على وقع هذه التحليلات، نشرت «فايننشال تايمز» توقعاتٍ بتراجع طفيفٍ في أسعار الغاز بحلول الشتاء إذا تم تنفيذ «المرحلة الأولى» لوقف إطلاق النار، فيما حذرت «بلومبرغ» من أن أي تراخٍ في فرض العقوبات قد يعيد ارتفاعاً مفاجئاً للأسعار، وخصوصاً إذا شملت روسيا رفع أسعار تصدير نفطها عبر خطوط جديدة في القطب الشمالي.

 

خطوات التنفيذ ما بعد القمة

 

 

عادت القمة بمتغيرات جديدة دفعت الجانبين فور الوصول إلى موسكو وواشنطن لإطلاق جولة من المشاورات المكثفة، حيث أعيد تفعيل اللجنة المعنية بتحديث معاهدة «ستارت» للحد من الأسلحة الاستراتيجية. وقد ركزت الاجتماعات الأولى على ترصين آليات التفتيش المتبادل والشفافية في حصر الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والأقمار الصناعية العسكرية، بما يتيح بناء ثقة تدريجية بين موسكو وواشنطن قبل نهاية العام.

 

على نحو موازٍ، أسفر الاجتماع عن تشكيل فريق عمل قطبي يجمع خبراء روساً وأميركيين للبحث في إنشاء ممرات بحرية مشتركة عبر مضيق بيرينغ، وتنسيق إقامة موانئ لوجستية تدعم سفن استخراج الموارد في القطب الشمالي. وجرى التأكيد على ضرورة دمج منظور بيئي يحمي المجتمعات الأصلية ويضمن شهادات علمية متبادلة حول تأثيرات التنقيب القطبي ومواجهة تحديات التغير المناخي.

 

وبالتوازي مع تلك الخطوات، تواصلت المشاورات الدولية عبر الأمم المتحدة لتفعيل آلية «الهدنة المبدئية» التي من المقرر أن تضع أولى فرق المراقبة تقاريرها الشهر المقبل حول مدى التزام الأطراف بوقف إطلاق النار. وقد تولّت دول محايدة مهمة نشر مراقبين دوليين وتوثيق أي خروقات، في إطار إعداد ممرات إنسانية آمنة تحمي المدنيين وتمهّد الطريق نحو محادثات سلام شاملة.

 

في ختام هذا الفصل الدبلوماسي الكبير، يخرج بوتين وقد أثبت أن التاريخ لا يُكتب بقراراتٍ أحادية، بل بالتوازنات القوية التي تعطي لكل طرفٍ وزنه الحقيقي. لقد أعادت قمة ألاسكا تعريف مصطلح «القوة الناعمة الروسية» أمام أنظار العالم، مؤكدةً أن موسكو ليست مجرد طرفٍ يناصر سياسة الردع بل شريكٌ يطلب الحوار من منطلق احترام متبادل. وعندما تعود الهدنة أو تُمهّد الطريق لمعاهدة جديدة، ستبقى روسيا قد سجلت هذه اللحظة نصراً استراتيجياً سيطال أعماق المناقشات الدولية لسنواتٍ طويلة.

 

 

المصدر: الوفاق