في الذكرى السنوية لعودتهم

الأسرى الأحرار الإيرانيون الأبطال.. بين ملحمة المقاومة وسردية الثقافة

خاص الوفاق: إنهم اليوم جزء من ذاكرة إيران الحية، يذكّرون الأجيال بأن الاستقلال لا يتحقق إلا بالتضحية، وأن العزة لا تُصان إلا بالمقاومة.

في تاريخ الشعوب، هناك لحظات لا تُقاس بالزمن، بل تُقاس بما تتركه من أثر في الوجدان الجمعي، وما تزرعه من قيم في ضمير الأمة. ومن بين هذه اللحظات، تبرز مقاومة الشعب الإيراني خلال الحرب المفروضة الثماني سنوات (1980–1988) التي فرضها نظام الصدام المقبور، بوصفها ملحمة وطنية وإنسانية، تجسدت في ساحات القتال، وفي الزنازين، وفي قلوب الأسرى الأحرار الذين عادوا إلى الوطن حاملين راية العزة والكرامة.
هؤلاء الأحرار، الذين تحمّلوا أقسى أنواع التعذيب النفسي والجسدي، لم يتخلّوا عن مبادئهم السامية، بل ظلوا أوفياء للثورة الإسلامية، ورسلاً للحق في وجه الباطل. إنهم كنوز ثمينة من سنوات الدفاع المقدس، ورموز للثبات والعزة، صنعوا مجد إيران في أحلك الظروف.
في الذكرى السنوية لعودة الأسرى الأحرار الإيرانيين، لا نحيي حدثاً تاريخياً فحسب، بل نستحضر سردية ثقافية وروحية متجذرة في وجدان الأمة. هؤلاء الأبطال الذين عادوا بالنور، لم يكونوا مجرد ناجين من الأسر، بل كانوا شهوداً على ملحمة الدفاع المقدس، وحَمَلة راية الكرامة في وجه الطغيان.
الشعب الإيراني.. مقاومة متجذرة في العقيدة
منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، واجهت إيران تحديات داخلية وخارجية، كان أبرزها الحرب المفروضة التي شنها نظام صدام المقبور بدعم من قوى الاستكبار العالمي. لكن الشعب الإيراني، بقيادة الإمام الخميني(رض) ثم الإمام الخامنئي (مد ظله العالي)، اختار طريق المقاومة، لا الاستسلام.
لم تكن المقاومة مجرد رد فعل عسكري، بل كانت فعلاً حضارياً نابعاً من العقيدة، ومن الإيمان بأن الكرامة لا تُشترى، وأن الاستقلال لا يُمنح، بل يُنتزع. لقد وقف الشعب الإيراني، بكل فئاته، في وجه العدوان، وقدّم الشهداء والجرحى والمجاهدين، واحتضن الأسرى الأحرار الذين عادوا بعد سنوات من الأسر والتعذيب، ليكونوا رموزاً حية للمقاومة.
حجة الإسلام أبوترابي فرد.. سيد الأسرى ومعلم الإنسانية
لم يكن  الشهيد حجة الإسلام السيد علي أكبر أبوترابي فرد مجرد أسير، بل كان روحاً تسري في جسد المعتقل، يعلّم الأسرى كيف يحوّلون الألم إلى أمل، والقيود إلى مدرسة للنهضة. تحمّل صنوفاً من التعذيب الوحشي، من غرس المسامير في جمجمته إلى كسر عظامه، لكنه لم يرد الإساءة بالإساءة. بل أوصى الأسرى بالرد على الجلادين باحترام، مؤمناً بأن المحبة هي السبيل الوحيد لشفاء القلوب.
في إحدى القصص المؤثرة، نرى كيف تحوّل السجّان العراقي «كاظم» من جلاد إلى تائب، ثم إلى شهيد مدافع عن السيدة زينب(س)، بعد رؤيا مؤثرة لوالدته، بفضل أخلاق حجة الإسلام أبوترابي فرد. عندما زار الصليب الأحمر المعتقل، رفض حجة الإسلام أبوترابي فرد أن يشكو التعذيب، قائلاً: «لم أرد أن أشكو بلداً مسلماً لدى الكفار.» لقد اختار أن يحفظ كرامة وطنه، حتى وهو ينزف، مؤمناً بأن الحرب ستنتهي، وأن ما يبقى هو الأخلاق والمبادئ.
اللواء حسين لشكري.. الطيار الذي حلّق فوق الألم
الشهيد اللواء حسين لشكري، أحد أعظم رموز المقاومة في المعتقلات، أُسر في الأيام الأولى للدفاع المقدس، وقضى أكثر من 17 عاماً في الأسر، منها عشر سنوات في الحبس الانفرادي. رغم رتبته العسكرية العالية، والتعذيب الشديد، لم يُقدّم أي معلومات تُضعف قوات الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ظل صامداً، مؤمناً، ورافضاً للذل، حتى لقّبه قائد الثورة بـ«سيد الأسرى»، وهو لقب لم يُمنح إلا له ولحجة الإسلام أبوترابي فرد. عاد إلى الوطن في 6 أبريل 1998، بدرجة إصابة بلغت 70%، والتقى فوراً بقائد الثورة، الذي رقّاه إلى رتبة لواء. كان لشكري مثالاً حياً على أن البطولة ليست في الانتصار العسكري فقط، بل في الثبات على المبدأ، والصبر على الألم، والوفاء بالعهد.
ثلاثية «معسكر عنبر».. سردية الأسرى بلغة القلب
الكتاب الذي نال إشادة قائد الثورة الإسلامية، معسكر عنبر، يضمّ ذكريات ثلاثة من الأسرى الإيرانيين: حسين فرهنك إصلاحي، مهدي كلابي، وغلامحسين كهن. الكتاب، الصادر عن دار نشر «سوره مهر»، يُعدّ وثيقة أدبية وإنسانية، تنقل تفاصيل الحياة داخل المعتقلات، وتُعيد تشكيل الذاكرة الوطنية من داخل الزنازين.
يروي هذا الكتاب تجربة الأسرى الإيرانيين خلال فترة احتجازهم في معسكر عنبر، الذي كان تحت إدارة نظام صدام المقبور، ويضم ثلاثة أقسام.
– في بلاط المحبوب: يُخصّص هذا الفصل لذكريات حسين فرهنك إصلاحي في معسكر عنبر، ويروي لحظات مؤثرة، مثل تلقي خبر قبول قرار وقف إطلاق النار، ورحيل مفجّر الثورة الإسلامية الإمام الخميني(رض)، وزيارة الأسرى لمدينة كربلاء المقدسة. وأنه كيف في مرقد سيدنا العباس(ع)، امتنع جنود نظام صدام المقبور عن الدخول خوفاً، وتركوا الأسرى يبكون ويصلّون بحرية، في مشهد يُجسّد الإيمان في أقسى الظروف.
– حمائم الأجنحة البيضاء: يركّز هذا الفصل على ذكريات مهدي كلابي في معسكر عنبر، ويعرض جوانب من الحياة اليومية والمعاناة داخل المعتقل. ويسرد قصص الشهداء داخل المعتقل، مثل محمد رضائي، الذي استُشهد تحت التعذيب، وسُكب عليه ماء مغل حتى امتلأ جسده بالبثور. كما يروي قصة عزيزالله من أصفهان، الذي قاوم حتى آخر رمق، رغم إصابته الشديدة، وكان رمزاً للثبات في وجه القسوة.
– معسكر عنبر: يحمل هذا الفصل عنوان الكتاب نفسه، ويقدّم رواية غلامحسين كهن عن تجربة الأسر في معسكر عنبر، مع التركيز على قصة زيارة الأسرى لمدينة كربلاء المقدسة. ويحمل هذا الفصل عنوان الكتاب نفسه، ويركّز على تفاصيل الحياة اليومية في المعتقل، من منع النظر إلى السماء، إلى «الحقنة ضد عاشوراء»، التي كانت محاولة لمنع الأسرى من إقامة العزاء الحسيني. لكن الأسرى، رغم المرض والتعب، واصلوا العزاء تحت البطانيات، مردّدين «يا حسين، يا حسين»، في مشهد يُجسّد الإيمان في أقسى الظروف.
الأسرى الايرانيون.. امتداد لكربلاء المقدسة 
لقد اقتدى الأسرى الايرانيون بأهل بيت النبي(ص) وسبايا كربلاء المقدسة، ودافعوا في سجون الصدام المقبور عن الإسلام والقرآن ومبادئ الثورة الإسلامية، ولم يخضعوا للذل والمهانة. كانوا رجالاً من نور، رفعوا راية الثورة وسط الظلام، ووقفوا حتى الرمق الأخير لترسيخ نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الأثر الثقافي والروحي للمقاومة
إن مقاومة الشعب الإيراني، وتجربة الأسرى الأحرار، لم تبقَ محصورة في حدود الجغرافيا، بل امتدت إلى العالم الإسلامي، وأيقظت الشعوب، وألهمت حركات المقاومة في المنطقة. لقد أثبتت أن الإيمان يمكن أن يهزم الطغيان، وأن الإنسان المؤمن قادر على تحويل الألم إلى أمل، والقيود إلى حرية.
من الأسر يولد النصر
إن عودة الأسرى الأحرار ليست فقط نهاية لألم شخصي، بل بداية لوعي جماعي. لقد أثبتوا أن المقاومة ليست فقط في ساحات القتال، بل في الزنازين، وفي الصبر على الألم، وفي التمسك بالمبدأ. إنهم اليوم جزء من ذاكرة إيران الحية، يذكّرون الأجيال بأن الاستقلال لا يتحقق إلا بالتضحية، وأن العزة لا تُصان إلا بالمقاومة.
إنها دعوة للأجيال الجديدة لتأمل هذه التجربة، لا كحدث تاريخي، بل كمنهج حياة. فكل من يحمل قضية ويصبر عليها، هو امتداد لأولئك الأحرار الذين عادوا إلى الوطن مكللين بالعزة.
المصدر: الوفاق/ خاص