مقبرة صائب تبريزي، هذا المعلم الثقافي ذو التصميم الإيراني وتنسيق الحدائق التقليدي، يكتسب الآن هوية جديدة مع دفن الأستاذ فرشجیان فيه؛ليصبح نقطة التقاء بين إرثين كبيرين من التراث الإيراني.
مقبرة صائب تبريزي، الشاعر الشهير في القرن الحادي عشر الهجري، تعد من أبرز نماذج حدائق المقابر الإيرانية التي تم ترميمها في عقد الخمسينات من القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين تعرف كأحد الأقطاب الأدبية والثقافية في أصفهان. هذا المكان، ليس فقط بتصميمه ومعماره الخاص يُعد إرثاً ثميناً من التقاليد الإيرانية والأصفهانية، بل أصبح مع مرور الزمن ملتقى لعشاق الشعر والأدب والفن.
وصية الأستاذ فرشجیان
والآن، وبقرار من عائلة الأستاذ محمود فرشجیان ووفقاً لوصيته الشخصية، من المقرر أن يُدفن جثمان هذا الفنان الكبير اليوم الاثنين 18 اغسطس في الجزء الغربي من المقبرة، أسفل درج مقبرة صائب. إن اختيار هذا المكان من جديد قد لفت الأنظار إلى الجوانب الفنية والمعمارية لهذه المقبرة، وجعله محور اهتمام الرأي العام.
إحياء التقاليد القديمة للعمارة الإيرانية
يعتبر حميدرضا سروش، الحاصل على دكتوراه في العمارة وأستاذ جامعي، مقبرة صائب مثالاً على إعادة إحياء التقاليد القديمة للعمارة الإيرانية في الزمن المعاصر. ويعتقد أن هذا المكان قد صُمم مستلهماً من حدائق المقابر الكلاسيكية مثل حديقة تخت شيراز أو حديقة دلغشا، ويجد ارتباطاً عميقاً بين الطبيعة والمثوى الأبدي للشاعر. وبحسب قوله، فإن وجود الحديقة والأشجار المعمرة حول المبنى لا يضيف فقط إلى جمال البيئة، بل يخلق أيضاً هدوءاً صوفياً وشاعرياً في ذهن الزوار.
ويؤكد أن شكل الإيوان والأقواس في المقبرة قد صُمم ببساطة وتناسب خاص. إن اختيار الحجر الأبيض للواجهة الرئيسية، إلى جانب استخدام محدود لبلاط الفيروزي، جعل هوية المبنى الأصفهاني تظهر بأفضل صورة ممكنة. هذا المزيج من الألوان والمواد لا يعكس فقط ذوق المعماريين المجددين في عام 1951م، بل أن جذوره واضحة أيضاً في العمارة الصفوية.
يضيف سروش: إن مقبرة صائب، على عكس مقابر مثل حافظ أو سعدي التي تم تصميمها بشكل أكثر فخامة وعظمة، يتمتع بجاذبية رغم بساطته. كان هذا الاختيار واعياً ليكون منسجماً مع مضامين الزهد والعرفان والروحانية في أشعار صائب. في الواقع، يرتكز هيكل المقبرة على فلسفة تبحث عن الجمال في السكينة والتوازن وليس في إظهار الترف.
ويؤكد: إن دفن الأستاذ فرشجيان في هذا المكان سيخلق ارتباطاً جديداً بين إرثين ثمينين، هما الشعر والفن الإيراني. كما أن اختيار القسم الغربي من المقبرة للدفن كان أيضاً قراراً ذكياً من حيث الموقع، إذ إنه يحقق ارتباطاً بصرياً مع البناء الرئيسي ويوفر في الوقت ذاته مساحة مستقلة لإحياء ذكرى الفنان.
مقبرة صائب؛ معرض دائم للفنون التقليدية
تعتبر فرزانه شريعتي، الباحثة في الفنون التقليدية، مقبرة صائب ليس مجرد نصب معماري بل معرض دائم للفنون التقليدية الإيرانية. وبرأيها، فإن أهم جانب فني في المقبرة هو النقوش والأشعار المنقوشة بخط النستعليق على حجر القبر وأجزاء الإيوان. هذه الخطوط ليست فقط انعكاساً للجمال البصري، بل تنقل أيضاً الرسالة الروحية والأدبية للشاعر إلى الأجيال القادمة.
وتوضح: إن مزيج الزخرفة الفيروزية مع خطوط النستعليق السوداء والبيضاء قد خلق فضاءً فنياً يشعر فيه الزائر، دون وعي، بأنه في معرض مفتوح. هذه المظاهر تحافظ على الهوية الإيرانية حية وتظهر كيف يمكن إعادة إحياء التقاليد الأصيلة حتى في العمارة المعاصرة.
وتشير شريعتي أيضاً إلى الحديقة المحيطة بالمقبرة وتقول: إن وجود المسارات المرصوفة بالأحجار والأشجار العالية يذكرنا بمخططات الحدائق الإيرانية التقليدية. وبين ذلك، فإن تصميم السلالم والإيوان بطريقة توحي بالدخول من الفضاء الترابي إلى العالم الروحي. مثل هذا التشكيل للفضاء يحمل رسائل رمزية وروحية أكثر من كونه عملياً.
وقالت شريعتي: دفن الأستاذ محمود فرشجيان بجوار صائب، فرصة للتأكيد مجدداً على الصلة بين الشعر والخط والرسم. كما أن صائب خلق صوراً شعرية بالكلمات، فإن فرشجيان أيضاً أبدع صوراً فنية وروحانية بريشته. هذا التجاور يمكن أن يجعل مقبرة صائب وجهة سياحية وجديدة لمحبي الفنون الإيرانية.
اختيار مقبرة صائب لدفن الأستاذ فرشجیان.. دلالات معنوية
ناصر كياني، الباحث في الثقافة والحضارة الإيرانية، يصف مقبرة صائب بأنها أحد أهم الرموز الثقافية في أصفهان. ويقول إن هذا البناء ليس مجرد مكان للدفن، بل تحول مع مرور الوقت إلى جزء من الذاكرة الجماعية لشعب أصفهان وحتى إيران، صائب كشاعر عاش في العصر الصفوي، يمثل جزءاً من الهوية الأدبية والروحية لإيران، وقبره رمزٌ لتكريم هذه الهوية.
ويعتقد أن اختيار مقبرة صائب لدفن الأستاذ فرشجیان يحمل دلالات معنوية كبيرة. هذا الإجراء هو نوع من المجاورة التاريخية بين شخصيتين بارزتين: أحدهما الشاعر الكبير في القرن الحادي عشر والآخر الرسام الشهير في القرن الرابع عشر. كلاهما، بطريقته الخاصة، أبدع عالماً من المعنى والجمال، وكلاهما ترك إرثاً خالداً للثقافة الإيرانية.
ويشير كياني أيضاً إلى الجانب الاجتماعي لهذا الاختيار ويقول: إن مقبرة صائب، بسبب موقعها الحضري، كانت دائماً محط اهتمام الناس. دفن الأستاذ فرشجیان في هذا المكان سيجذب المزيد من الاهتمام إلى هذه المنطقة، ويمكن أن يؤدي إلى ازدهار السياحة الثقافية في أصفهان. هذا الأمر لا يعد فقط تكريماً لذكرى الفنان، بل سيعزز أيضاً المكانة الثقافية للمدينة.
ويضيف أن مقبرة صائب ستصبح الآن مكاناً ذا قيمة مضاعفة؛ مكان لا يتجلى فيه الشعر والتصوف فحسب، بل أيضاً فن الرسم والفنون التشكيلية الإيرانية. هذا التلاقي يحمل رسالة واضحة للأجيال القادمة: الثقافة الإيرانية هي مجموعة من الروابط الحية بين الشعر والفن والروحانية.
رفع مؤشرات أصفهان في المجالات الفنية
نظرًا لكون مقبرة صائب يقع في المنطقة الأولى من البلدية، يقول علي رضا زاده، رئيس بلدية هذه المنطقة: لا شك أن وجود شخصية مثقفة وعظيمة مثل الأستاذ فرشجيان يمكن أن يرفع من مؤشرات أصفهان في المجالات الفنية. سيصبح هذا المكان مزارًا لأهل الفن. وبالنظر إلى دفنه في هذا الموقع، تم التخطيط لبرامج لتكريم هذا الأستاذ الكبير في الأيام القادمة.
ويتابع قائلاً: نعتزم تحويل موقع قبر صائب إلى صائبية أصفهان ليكون مكانًا مميزًا لأهل الثقافة والفن، كما هو الحال مع حافظية شيراز. سيكون لهذا المكان مكانة خاصة للأستاذ فرشجيان، وفي المستقبل سيصبح موقعًا لعقد الجلسات التخصصية للفنانين. تم وضع تصاميم خاصة ومبتكرة لهذا الفضاء وندعو جميع الجهات والفنانين للمساهمة في هذا المسار.
ويؤكد: إن الموقع الدقيق لدفن الأستاذ فرشجيان يقع أسفل درجات مقبرة صائب وفي جزء من المساحة الخضراء لهذا المجمع. وقد حضر الأستاذ فرشجيان بنفسه إلى هذا المكان سابقًا واختاره ليكون مكانه الأبدي. حتى تصميم رمز مكان الدفن تم من قبله شخصيًا.
ويضيف: نأمل أن يتحول هذا المكان، من خلال التنسيق الذي تم بين محافظة أصفهان وبلديتها، إلى مزار يليق بأهل الفن. لقد تم تنظيف المساحة الخضراء أسفل درجات مقبرة صائب، وسيتم في المستقبل تحويل هذا المكان، وفقاً للتصميم الرمزي الذي أعده الأستاذ، إلى نقطة ثقافية وفنية لمدينة أصفهان.
من أشعار صائب إلى ريشة فرشجيان
مقبرة صائب تبريزي في أصفهان هو أكثر من مجرد قبر بسيط؛ فهذا البناء شهادة على ارتباط العمارة الإيرانية وفن الخط وتنسيق الحدائق التقليدية. ومع قرار عائلة الأستاذ محمود فرشجيان بدفنه في هذا المكان، يدخل مقبرة صائب فصلاً جديداً من حياته الثقافية. الآن، لم يعد هذا المكان ملاذاً لشعر صائب فقط، بل سيصبح أيضاً مأوى لفن التصوير لفرشجيان؛ التقاء تيارين فنيين يحملان في النهاية رسالة واحدة: خلود الثقافة والفن الإيرانيين.