الصحفي كرمزٍ إنساني ومقاوم

عين غزة التي لا تنطفئ.. أنس الشريف شهيد الكلمة والصورة

الوفاق/ أنس الشريف لم يكن مجرد صحفي، بل حاملاً لوصية شعب، وناقلاً لصرخة الحقيقة، في أعقاب استشهاده، قدّم فنانون من مختلف أنحاء العالم ١٥ عملاً بصرياً، تُجسّد أنس الشريف كرمزٍ للصحافة الحرة.

 في زمنٍ تتكالب فيه الجرافات الإعلامية على طمس الحقيقة، ينهض صوتٌ من بين الركام، يحمل الميكروفون كراية، والكاميرا كمرآة للضمير. أنس الشريف، الصحفي الفلسطيني في قناة الجزيرة، لم يكن مجرد ناقل أخبار، بل كان شاهداً حيّاً على وجع غزة، وضميراً ناطقاً باسم شعبها. استُشهد بعد ١٥ شهراً من الحرب والتشريد، لكن صوته لم يُسكت؛ بل تحوّل إلى أيقونة ثقافية، ألهمت الفنانين والمثقفين ليخلّدوا رسالته في أعمال بصرية ومواقف إنسانية، تُعيد تعريف دور الإعلام المقاوم في زمن القتل المنهجي.

 

 

لقاء أخير في سماء الشهداء

 

 

في فجر يوم الأحد 10 أغسطس، وبعد ١٥ شهراً من الحرب والتشريد والدمار، نال أنس الشريف، الصحفي في شبكة الجزيرة، فرصةً جديدة للقاء أبنائه الشهيدين، شام وصلاح؛ إذ استُهدف أنس الشريف مع أربعة من أعضاء فريقه، من بينهم الصحفي محمد قريقع وثلاثة مصورين، في خيمة كانت مقراً للصحفيين في غزة، بهجوم جوي شنّته قوات الاحتلال الصهيوني، ما أدى إلى استشهادهم.
لكن قبل هذه الجريمة، كان الكيان الصهيوني القاتل للأطفال قد استهدف بشكل منظّم الصحفيين الذين كانوا يغطّون أخبار الحرب وجرائم هذا الكيان المحتل، مع أفراد عائلاتهم، وأرداهم شهداء. ووفقاً للإحصاءات، بلغ عدد شهداء الصحافة والنشطاء الإعلاميين منذ السابع من أكتوبر حتى الآن ٢٣٨ شهيداً.

 

 

أنس الشريف.. من جباليا إلى الخلود
بدأت رحلة أنس الشريف من مخيم جباليا عام ١٩٩٦، حيث تشكّلت ملامح وعيه المقاوم في حضن المعاناة. لم يكن مجرد صحفي، بل حاملاً لوصية شعب، وناقلاً لصرخة الحقيقة. في وصيته الأخيرة، كتب: «هذه وصيتي وآخر رسائلي؛ إن وصلتكم هذه الكلمات، فاعلموا أن العدو الصهيوني قد قتلني وأسكت صوتي.» لكن هذه الكلمات لم تكن ختاماً، بل بداية فصل جديد من النضال، حيث تحوّلت شهادته إلى شرارة ألهبت ضمائر الفنانين، وأطلقت موجة من الأعمال التي تُجسّد رسالته وتُدين الجريمة.
الفن في مواجهة القتل؛ ١٥ رواية بصرية
في أعقاب استشهاده، قدّم فنانون من مختلف أنحاء العالم ١٥ عملاً بصرياً، تُجسّد أنس الشريف كرمزٍ للصحافة الحرة، وتُدين استهداف الإعلاميين كجريمة حرب. وهذه الأعمال هي:
– الميكروفون كزهرة دم: يُصوّر الميكروفون في يد الشهيد وقد تحوّل إلى زهرة من الزنابق الحمراء، تعبيراً عن ثمار سنوات نضاله الإعلامي. رمزية الدم هنا لا تشير إلى الموت، بل إلى الحياة التي نبتت من التضحية.
– السترة الدامية كوثيقة حيّة: سترة الصحفي الشهيد تُعرض كوثيقة ناطقة وسط أنقاض الجريمة، تُجسّد استمرار رسالته حتى بعد استشهاده. اللون الأحمر لا يُستخدم للصدمة، بل للتوثيق.
– عدسة مكسورة، عينٌ لا تنطفئ: عدسة كاميرته التي كانت تعكس واقع غزة تحطّمت، لكن الحقيقة التي نقلها لا تزال حيّة. العمل يُبرز المفارقة بين تحطيم الأداة وبقاء الرسالة.
– أنس جاثٍ وسط الزنابق الدامية: لوحة تُظهر أنس الشريف جاثياً وسط سهل من الزنابق الحمراء، غارقاً في التأمل، وعيناه شاخصتان نحو الأفق. العمل يُجسّد لحظة انتظارٍ روحي، لا هزيمة.
– تأثره بخبر جوع غزة: صورة تُظهر لحظة تأثره العميق عند إعلان خبر جوع أهل غزة، تُبرز إنسانيته وتفاعله العاطفي مع شعبه، وتُعيد تعريف الصحفي كضمير حيّ.
– الميكروفون كأداة مقاومة: عمل يُظهر الميكروفون وقد أصبح أقوى من سلاح الجندي الصهيوني، في إشارة إلى قوة الكلمة في مواجهة الرصاص. الفن هنا يُعيد ترتيب موازين القوة.
– اطلاق صاروخين في لوحة واحدة : صاروخان في لوحة واحدة أحدهما لإسكات صوت الصحفي، والآخر يستهدف شعب غزة. العمل يُدين ازدواجية العنف، ويُظهر أن الكلمة تُستهدف كما الإنسان.
– كاريكاتير كارلوس لاتوف: يُصوّر مخطط الكيان الصهيوني لتدمير غزة بالكامل، وسط صمت المجتمع الدولي. يُبرز الغفلة الدولية كعاملٍ مساهم في الجريمة.
– لوحة كمال شرف: نتاج يُحمّل بنيامين نتنياهو مسؤولية اغتيال الصحفيين، ويُبرز انتهاك القانون الدولي بشكلٍ صارخ. العمل يُحوّل الفن إلى وثيقة اتهام.
– الصحفي كحامل الحقيقة المصلوبة: يُجسّد الصحفي كمن يحمل الحقيقة على كتفيه، وتُصلب هذه الحقيقة بمسامير الغفلة، واللامبالاة، والصمت، والتغاضي. العمل يُعيد صياغة مشهد الصلب في سياق إعلامي.
– أنس الشريف كعين غزة: يُظهر أنس وقد تحوّل إلى عينٍ كونية، ترى ما لا يُرى، وتنقل ما يُراد له أن يُطمس. العدسة هنا ليست أداة، بل كيانٌ روحي.
– تشييع رمزي وسط الزنابق: لوحة تُظهر جنازة رمزية لأنس الشريف وسط الزنابق، تُعيد تعريف الموت كولادة جديدة. الزنابق ليست زهوراً، بل شهوداً.
– الميكروفون كراية مقاومة: يُصوّر الميكروفون وقد رُفع كراية، تُرفرف فوق الأنقاض، في إشارة إلى أن الصوت لا يُدفن. العمل يُحوّل الأداة إلى رمز.
– الصحفي كشهيد عالمي: يُجسّد أنس الشريف ليس فقط كشهيد فلسطيني، بل كرمز عالمي للصحافة الحرة. الخلفية تُظهر خريطة العالم، والدم يسيل على الحدود.
– الرسالة الأخيرة: كبداية تُعرض وصيته الأخيرة في عمل فني، لكن الكلمات تُضيء كأنها بداية، لا نهاية. العمل يُعيد تعريف الشهادة كاستمرار، لا انقطاع.
الإعلام المقاوم
في عالمٍ تُصلب فيه الحقيقة بمسامير الغفلة واللامبالاة والصمت، ينهض الإعلام المقاوم كمنبرٍ للضمير. أنس الشريف لم يكن ضحية، بل شهيداً حمل الحقيقة على كتفيه، وواجه بها آلة القتل. استهدافه، كما استهداف ٢٣٨ صحفياً منذ السابع من أكتوبر، يكشف عن خوف الكيان الصهيوني من الكلمة، ومن الصورة، ومن المايكروفون الذي بات أقوى من السلاح.
عين غزة
أنس الشريف، «عين غزة» التي لا تنطفئ، لم يُغتال، بل تحوّل إلى رمزٍ خالد، يُلهم الأحرار، ويُرعب الطغاة. أعمال الفنانين التي خُلّدت ذكراه، ليست مجرد ردّ فعل، بل استمرارٌ لرسالته، وتأكيدٌ على أن الحقيقة لا تُقتل، بل تُبعث من جديد في كل قلمٍ حر، وكل عدسةٍ شجاعة، وكل صوتٍ يرفض الصمت. في زمنٍ يُراد فيه للحق أن يُدفن، ينهض أنس الشريف من بين الركام، ليقول: «أنا هنا، ما زلت أروي الحكاية».
المصدر: الوفاق