الثورة البوليفارية في مواجهة الاستكبار

فنزويلا.. بين العقوبات الأميركية ومقاومة الهيمنة

*لا تزال فنزويلا تحاول رسم مسارها الخاص، أما واشنطن فهي أمام خيارين؛ إما الاستمرار في سياسة العقوبات التي أثبتت محدوديتها، أو الانفتاح على حوار يعيد الاعتبار للدبلوماسية، ويمنح الشعوب حق تقرير مصيرها بعيداً عن الإملاءات

منذ مطلع القرن العشرين، شكّلت فنزويلا نقطة ارتكاز في الاستراتيجية الأميركية تجاه أميركا اللاتينية، ليس فقط بسبب ثروتها النفطية الهائلة، بل أيضاً لموقعها الجغرافي الحيوي في منطقة الكاريبي. ومع كل تحوّل سياسي داخلي في كراكاس، كانت واشنطن تعيد ضبط بوصلتها، بين التحالف والدعم، وبين العداء والعقوبات. هذه العلاقة المتقلبة، التي بدأت بتعاون اقتصادي وثيق، تحوّلت تدريجياً إلى صراع سياسي حاد، بلغ ذروته في عهد هوغو تشافيز وخلفه نيكولاس مادورو، إذ أصبحت فنزويلا رمزاً للمقاومة الإقليمية ضد الهيمنة الأميركية .

 

الجذور النفطية للعلاقة.. من المراقبة إلى الشراكة

 

في مطلع القرن العشرين، كانت فنزويلا دولة زراعية تعتمد على تصدير البن والكاكاو، فيما كانت الولايات المتحدة تراقبها ضمن إطار «مبدأ مونرو»، الذي اعتبر أميركا اللاتينية مجالاً حصرياً للنفوذ الأميركي.

 

الأزمة المالية التي عصفت بفنزويلا عام 1902، دفعت واشنطن للتدخل كوسيط، لتثبيت دورها كحامية للمصالح الغربية في المنطقة.

 

لكن التحول الحقيقي بدأ عام 1922، مع اكتشاف حقل «لا روسا” النفطي، الذي فتح الباب أمام شركات أميركية كبرى، أبرزها «ستاندرد أويل»، للاستثمار المكثف في قطاع الطاقة الفنزويلي. في الحرب العالمية الثانية، أصبح النفط الفنزويلي عنصراً استراتيجياً في دعم الحلفاء، ما دفع واشنطن إلى تعزيز وجودها العسكري والاستخباراتي في الكاريبي.

 

بحلول خمسينيات القرن الماضي، كانت العلاقات في أوجها، خاصة في عهد ماركوس بيريز خيمينيس، حيث تداخلت المصالح الاقتصادية والسياسية، وأصبحت واشنطن الشريك الأول لفنزويلا، في ظل حكومات مؤيدة للغرب.

 

 فنزويلا حاجز ضد المدّ اليساري

 

مع بداية الحرب الباردة، تحوّلت فنزويلا إلى حليف إستراتيجي في مواجهة النفوذ السوفيتي. بعد الإطاحة بخيمينيس عام 1958، دعمت واشنطن اتفاق «بونتو فيخو»، الذي رسّخ ديموقراطية ليبرالية موالية للغرب. لكن نجاح الثورة الكوبية عام 1959، أثار قلق واشنطن من انتشار الحركات اليسارية المسلحة، ما دفعها إلى تقديم دعم استخباراتي وعسكري للحكومة الفنزويلية لقمع هذه الحركات.

 

ورغم تأميم النفط عام 1976، حافظت فنزويلا على علاقات ودية مع واشنطن، واستمرت في تزويدها بالنفط وتعويض الشركات الأميركية. لكن انهيار أسعار النفط في الثمانينيات أدخل البلاد في أزمة اقتصادية عميقة، دفعت الحكومة إلى تبني سياسات تقشفية بإشراف صندوق النقد الدولي، ما عزز النفوذ الأميركي في الاقتصاد الفنزويلي.

 

من الاحتجاج إلى الثورة

 

في أواخر الثمانينيات، بدأت فنزويلا تشهد اضطرابات اجتماعية واقتصادية متزايدة، أبرزها أحداث «كاراكازو” عام 1989، التي كشفت هشاشة النظام الاقتصادي النيوليبرالي. ورغم استمرار الدعم الأميركي للحكومات المتعاقبة، بدأ يتشكل وعي شعبي معارض للسياسات التقشفية والفساد، ما مهّد الطريق لصعود هوغو تشافيز، الضابط السابق الذي قاد محاولة انقلابية فاشلة عام 1992، قبل أن يتحول إلى رمز شعبي ويصل إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع عام 1998.

 

الثورة البوليفارية في مواجهة الهيمنة

 

مع وصول تشافيز إلى الحكم، دخلت فنزويلا مرحلة جديدة من الصراع مع الولايات المتحدة. أطلق تشافيز مشروع «الثورة البوليفارية»، الذي استند إلى أفكار سيمون بوليفار في التحرر والسيادة، وأعاد صياغة الدستور لتعزيز السلطة التنفيذية وتوسيع المشاركة الشعبية.

 

اقتصادياً، اعتمد على إيرادات النفط لتمويل برامج اجتماعية طموحة، استهدفت الفقراء والمهمشين. أما خارجياً، فقد تبنّى خطاباً معادياً للولايات المتحدة، ونسج تحالفات مع دول مثل كوبا، روسيا، وإيران، وأسس تحالف «ألبا» الإقليمي.

 

ردّ واشنطن جاء عبر اتهامات متكررة لتشافيز بدعم الإرهاب والجريمة المنظمة، ومحاولات لعزله دولياً، خاصة بعد الانقلاب الفاشل ضده عام 2002، الذي اتُهمت الولايات المتحدة بدعمه بشكل غير مباشر.

 

 عهد نيكولاس مادورو.. العقوبات كأداة للضغط السياسي

 

بعد وفاة تشافيز، تولى نيكولاس مادورو الحكم وسط أزمة اقتصادية خانقة وتوترات سياسية داخلية. ورغم استمراره في نهج الثورة البوليفارية، واجه تحديات أكبر، أبرزها العقوبات الأميركية التي بدأت عام 2015، واستهدفت قطاع النفط الحيوي.

 

في عام 2019، دعمت واشنطن زعيم المعارضة خوان غوايدو، واعترفت به رئيساً مؤقتاً، وقطعت العلاقات الدبلوماسية مع حكومة مادورو. كما ضاعفت المكافأة المخصصة لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقاله، متهمةً إياه بالضلوع في شبكات تهريب المخدرات، في إعادة توظيف لسردية «مكافحة المخدرات” لحماية الأمن القومي الأميركي.

 

ورغم هذه الضغوط، حافظ مادورو على دعم الجيش وتحالفات دولية مع روسيا، الصين، وكوبا، ما ساعده على الصمود في وجه العقوبات، وإن كان بثمن اقتصادي واجتماعي باهظ.

 

هذا ولطالما استخدمت واشنطن تهمة «المخدرات” كأداة سياسية لتبرير تدخلاتها، بزعم تهديد الأمن القومي..

 

في هذا السياق، يبدو أن استهداف مادورو لا يتعلق فعلياً بالمخدرات أو الإرهاب، بل بموقفه المناهض للهيمنة الأميركية وسعيه لتعزيز السيادة الوطنية عبر تحالفات دولية مضادة لمصالح واشنطن. الخطوة الأخيرة ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من محاولات السيطرة على فنزويلا وثرواتها، خصوصاً النفط.

 

 بين الجغرافيا السياسية والاقتصاد النفطي

 

العلاقة بين واشنطن وكراكاس ليست مجرد خلاف سياسي، بل هي انعكاس لصراع أوسع على النفوذ في أميركا اللاتينية. النفط كان دائماً في قلب هذا الصراع، سواء كمصدر للطاقة أو كأداة للتمويل السياسي. ومع صعود حكومات يسارية في المنطقة، أصبحت فنزويلا رمزاً للمقاومة، ما دفع واشنطن إلى استخدام العقوبات كوسيلة لإعادة تشكيل المشهد السياسي.

 

لكن هذه العقوبات، رغم تأثيرها الاقتصادي، لم تنجح في إسقاط النظام، بل عززت من خطاب المقاومة، ودفعت فنزويلا نحو مزيد من التحالفات المناهضة للغرب. وهنا يبرز سؤال جوهري: هل يمكن للعقوبات أن تكون بديلاً عن الحوار السياسي؟ وهل تخدم فعلاً مصالح الشعوب، أم أنها مجرد أدوات لإعادة رسم خرائط النفوذ؟

 

فنزويلا بين المطرقة الأميركية وسندان السيادة الوطنية

 

قصة العلاقات الأميركية–الفنزويلية هي قصة صراع طويل بين الهيمنة والمقاومة، بين المصالح الاقتصادية والسيادة الوطنية. من حقل «لا روسا” إلى العقوبات على مادورو، مرّت هذه العلاقة بتحولات عميقة، كشفت عن تعقيدات الجغرافيا السياسية في أميركا اللاتينية، وعن حدود القوة الأميركية في مواجهة إرادة الشعوب.

 

ورغم كل الضغوط، لا تزال فنزويلا تحاول رسم مسارها الخاص، بين تحديات الداخل وضغوط الخارج. أما واشنطن، فهي أمام خيارين: إما الاستمرار في سياسة العقوبات التي أثبتت محدوديتها، أو الانفتاح على حوار جديد يعيد الاعتبار للدبلوماسية، ويمنح الشعوب حق تقرير مصيرها بعيداً عن الإملاءات الخارجية.

 

في النهاية، تبقى فنزويلا مرآة تعكس صراعاً أكبر على مستقبل أميركا اللاتينية، حيث لا تزال الأسئلة مفتوحة، والإجابات معلقة بين التاريخ والجغرافيا، وبين النفط والسياسة، وبين واشنطن وكراكاس.

 

 

المصدر: الوفاق