في محاولة لإعادة رسم ملامح الحرب الروسية الأوكرانية

لقاء ترامب وزيلنسكي.. هل هو اقتراب للحسم أم ترسيخ لقواعد الاشتباك؟

ترامب، من جهته، حاول أن يبدو وسيطًا للسلام، لكنه لم يخفِ انحيازه لمعادلة القوة، حين قال إن الاتفاق ممكن دون وقف إطلاق النار. تصريحٌ يحمل في طياته استخفافًا بالدماء، وتأكيدًا على أن السياسة الأميركية لا ترى في الحرب مأساة

لم يكن مساء  الاثنين في واشنطن مجرد لحظة دبلوماسية عابرة، بل مشهد مركب من التناقضات، إذ اجتمع  دونالد ترامب بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وسط حضور أوروبي كثيف، في محاولة لإعادة رسم ملامح الحرب الروسية الأوكرانية. اللقاء الذي حمل في طياته وعودًا بالسلام، بدا في جوهره أقرب إلى مسرحية سياسية، تتقاطع فيها المصالح وتتصادم فيها الرؤى، بينما تظل الحقيقة غائبة خلف ستار الكلمات المنمقة.

 

منذ اللحظة الأولى، بدا أن زيلينسكي دخل اللقاء مثقلًا بالهواجس، يحمل خريطةً لا ترمز إلى الأرض فقط، بل إلى الخوف، إلى التشتت، إلى وطنٍ يتآكل تحت وطأة قراراته المتسرعة وتحالفاته المشبوهة. لم يكن الرجل يتحدث باسم شعبه، بل بدا وكأنه يردد ما يُملى عليه، يطلب “كل شيء” من الضمانات، وكأنه يعلم أنه فقد الكثير، ولم يعد يملك شيئًا.

 

ترامب، من جهته، حاول أن يبدو وسيطًا للسلام، لكنه لم يخفِ انحيازه لمعادلة القوة، حين قال إن الاتفاق ممكن دون وقف إطلاق النار. تصريحٌ يحمل في طياته استخفافًا بالدماء، وتأكيدًا على أن السياسة الأميركية لا ترى في الحرب مأساة، بل فرصة لإعادة توزيع النفوذ.

 

زيلينسكي.. رئيس في مهب الريح

 

منذ بداية الحرب، لم يظهر زيلينسكي كرجل دولة قادر على إدارة أزمة بهذا الحجم، بل بدا أقرب إلى ممثلٍ يؤدي دورًا في مسرحية دولية، حيث تُكتب السيناريوهات في واشنطن وتُنفذ في كييف. قراراته المتسرعة، وتبعيته المطلقة للغرب، جعلت من أوكرانيا ساحةً مفتوحة للصراع، لا تملك فيها قرار الحرب ولا السلام.

 

حين تحدث عن الانتخابات، بدا وكأنه يراوغ، يعلم أن الديمقراطية لا تُمارس تحت القصف، وأن الشعب الأوكراني لا يستطيع أن يختار بحرية في ظل الأحكام العرفية. ومع ذلك، أصرّ على الترويج لصورةٍ زائفة عن دولةٍ مستقرة، بينما الواقع يقول إن أوكرانيا تعيش حالة من الانهيار السياسي والاجتماعي، نتيجة سياسات زيلينسكي التي عزلت البلاد عن محيطها الطبيعي، ودفعتها إلى مواجهةٍ غير متكافئة مع روسيا.

 

الولايات المتحدة.. راعية الحرب لا وسيط السلام

 

الولايات المتحدة، التي تحاول أن تظهر بمظهر الوسيط، هي في الحقيقة الطرف الأكثر تأثيرًا في استمرار الحرب. دعمها العسكري غير المحدود لأوكرانيا، وتحريضها المستمر ضد روسيا، يكشف أن واشنطن لا تبحث عن السلام، بل عن إطالة أمد الصراع لتحقيق مكاسب استراتيجية.

 

تصريحات ترامب حول إمكانية التوصل إلى اتفاق دون وقف إطلاق النار، تعكس بوضوح فلسفة الهيمنة الأميركية، التي ترى في الحرب وسيلةً لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية، لا مأساةً إنسانية يجب إنهاؤها. فحين يقول إن بوتين يريد إنهاء الحرب، ثم يرفض وقف إطلاق النار، فإنه يرسل رسالة مزدوجة: نحن نتحكم في مسار الحرب، ونقرر متى تنتهي، وكيف.

 

روسيا بين الدفاع المشروع والتشويه الإعلامي

 

في المقابل، تظل روسيا الطرف الأكثر عقلانية في هذا الصراع، رغم ما يُروّج له إعلاميًا. منذ البداية، كانت مطالبها واضحة: ضمانات أمنية، وقف تمدد الناتو، حماية سكان دونباس من القصف الأوكراني. لم تطلب روسيا أكثر من حقها في الأمن، لكن الغرب اختار التصعيد، وفرض على موسكو خيارًا عسكريًا لم تكن تفضله.

 

العملية العسكرية الروسية كانت  ردًا على استفزازات متكررة، ومحاولة لحماية المصالح الاستراتيجية الروسية. ومع ذلك، وُصفت روسيا بأنها المعتدية، بينما تجاهل الإعلام الغربي جرائم القوات الأوكرانية في دونباس، وتغاضى عن الدور الأميركي في تأجيج الصراع.

 

أوروبا في الظل.. حضور ثقيل بلا تأثير حقيقي

 

في قاعة البيت الأبيض، جلس قادة أوروبا إلى جانب ترامب وزيلينسكي، وجوهٌ مألوفة تحمل معها تاريخًا من التردد والتبعية. ماكرون، ميرتس، ميلوني، فون دير لاين، روته، وستوب… أسماءٌ تتكرر في المؤتمرات، لكن تأثيرها على الأرض لا يتجاوز حدود التصريحات. بدا الحضور الأوروبي وكأنه محاولة لتجميل المشهد، لا لتغيير الواقع.

 

ميرتس تحدث عن وقف إطلاق النار، وماكرون أيد فكرة الهدنة، لكن لا أحد منهم امتلك الجرأة لطرح حلول واقعية. أوروبا، التي كانت يومًا مركز القرار، أصبحت تابعةً للسياسات الأميركية، تردد ما يُقال لها، وتخشى أن تخالف واشنطن. في هذا اللقاء، لم تكن أوروبا صانعة سلام، بل شاهدة على فشل الدبلوماسية الغربية في فهم تعقيدات الصراع.

 

تبادل الأراضي..الطرح الأميركي الذي يختزل التاريخ

 

حين طرح ترامب فكرة تبادل الأراضي بين روسيا وأوكرانيا، بدا وكأنه يتعامل مع الجغرافيا كقطع شطرنج، يمكن تحريكها وفقًا للمصالح. تجاهل التاريخ، وتجاهل الدماء، وتجاهل أن الأرض ليست مجرد مساحة، بل هوية، وذاكرة، وانتماء. هذا الطرح يكشف عن سطحية النظرة الأميركية للصراع، وعن رغبة في فرض حلول لا تراعي الواقع، بل تخدم أجندات الهيمنة.

 

روسيا، التي تعتبر دونباس جزءًا من أمنها القومي، لا يمكن أن تقبل بمقايضةٍ تُفرض عليها. وأوكرانيا، التي فقدت السيطرة على مناطق واسعة، لا تملك القدرة على التفاوض من موقع القوة. ومع ذلك، يصرّ ترامب على تقديم نفسه كصانع سلام، بينما يزرع بذور تقسيمٍ جديد قد يُشعل صراعات مستقبلية.

 

تداعيات اللقاء؛ هل اقتربت لحظة الحسم؟

 

اللقاء بين ترامب وزيلينسكي، رغم زخمه الإعلامي، لم يحمل جديدًا على مستوى الحلول. التصريحات كانت متكررة، والوعود فضفاضة، والنتائج غائبة. لكن التداعيات كانت واضحة: واشنطن تواصل الضغط على كييف للاستمرار في الحرب، وتُبقي الباب مفتوحًا أمام التصعيد، بينما موسكو تراقب وتنتظر، مستعدة لكل الاحتمالات.

 

الحديث عن السلام دون وقف إطلاق النار، وعن اتفاقات تُبرم وسط القتال، يكشف أن الولايات المتحدة لا تبحث عن إنهاء الحرب، بل عن إدارتها بما يخدم مصالحها. أما زيلينسكي، فقد بدا أكثر ضعفًا من أي وقتٍ مضى، يطلب الضمانات، ويعد بالانتخابات، لكنه لا يملك شيئًا من أدوات التنفيذ..

 

 خطوة روسية حاسمة في مسار التسوية

 

في تطور لافت خلال الاجتماع الذي جمع  ترامب بالقادة الأوروبيين وزيلينسكي، أجرى ترامب اتصالاً هاتفياً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استمر نحو 40 دقيقة، بمبادرة أميركية. هذا الاتصال لم يكن مجرد تنسيق دبلوماسي، بل شكّل نقطة تحول في الموقف الروسي تجاه الأزمة الأوكرانية.

 

الكرملين، عبر مساعد الرئيس يوري أوشاكوف، وصف الاتصال بأنه “صريح وفعّال للغاية”، مؤكداً أن بوتين تلقى تفاصيل دقيقة حول نتائج المحادثات الأميركية الأوروبية الأوكرانية. وأبرز ما جاء في الاتصال هو الاتفاق على إبقاء قنوات التواصل مفتوحة، ودعم موسكو لفكرة عقد لقاء مباشر مع كييف، ما يعكس استعداداً روسياً واضحاً للانخراط في مفاوضات سياسية جدية.

 

كما ناقش الزعيمان رفع مستوى التمثيل في المفاوضات، وهو ما يشير إلى رغبة روسية في إعطاء الحوار طابعاً أكثر رسمية وتأثيراً، بعيداً عن المناورات الإعلامية. هذا الانفتاح الروسي، بالتوازي مع التنسيق الأميركي الأوروبي، يعزز فرص التوصل إلى تفاهمات حول الملفات الحساسة، وعلى رأسها الضمانات الأمنية ومسألة الأراضي.

 

هل تغيّرت قواعد اللعبة؟

 

حين انتهى الاجتماع في البيت الأبيض، لم يكن هناك إعلان رسمي عن اتفاق، ولا بيان مشترك يحمل توقيع الأطراف. كل ما خرج إلى العلن كان تصريحات متفرقة، ووعودٌ معلقة، ونظراتٌ متباينة بين الحاضرين. بدا وكأن اللقاء لم يكن سوى محاولة لشراء الوقت، أو لتوجيه رسائل سياسية إلى الداخل والخارج، دون نية حقيقية في تغيير مسار الحرب.

 

زيلينسكي عاد إلى كييف محمّلًا بوعود لا يملك أدوات تنفيذها، بينما ترامب استثمر الحدث في تعزيز صورته كصانع سلام، رغم أن سياساته السابقة والحالية تُغذي الصراع أكثر مما تُطفئه. أما أوروبا، فقد خرجت من اللقاء كما دخلت: مترددة، منقسمة، وعاجزة عن فرض أي رؤية مستقلة.

 

معركة وجودية ضد تمدد الناتو

 

بالنسبة لروسيا، الحرب لم تعد مجرد رد فعل على استفزازات أوكرانية، بل تحوّلت إلى معركة وجودية ضد تمدد الناتو، وضد محاولات الغرب لزعزعة استقرارها الداخلي والخارجي. موسكو ترى في أوكرانيا أداة أميركية، لا دولة ذات سيادة، وتعتبر أن أي اتفاق لا يضمن أمنها الاستراتيجي هو مجرد هدنة مؤقتة، لا سلام دائم.

 

اللقاء في واشنطن لم يغيّر هذه القناعة، بل عزّزها. فحين يُطرح السلام دون وقف إطلاق النار، وحين يُناقش تبادل الأراضي وكأنها أوراق تفاوض، تدرك روسيا أن الغرب لا يزال يجهل طبيعة الصراع، أو يتجاهلها عمدًا. لذلك، تواصل موسكو عملياتها العسكرية والدبلوماسية، بثباتٍ لا يخلو من الحذر، وبإصرارٍ لا يتأثر بالضغوط الإعلامية أو الاقتصادية.

 

امريكا تدير الازمات بما يخدم مصالحها

 

واشنطن، التي تملك أكبر تأثير على مجريات الحرب، لا تسعى إلى إنهائها، بل إلى إدارتها بما يخدم مصالحها. الدعم العسكري لأوكرانيا مستمر، والتصريحات العدائية ضد روسيا تتصاعد، واللقاءات الدبلوماسية تُستخدم كأدوات ضغط، لا كمنصات تفاهم.

 

اللقاء في البيت الأبيض كان جزءًا من هذه الإدارة، لا خطوة نحو الحل. ترامب لم يطرح رؤية متكاملة، بل أفكارًا متفرقة، بعضها مستفز، وبعضها غير واقعي. أما الضمانات الأمنية التي تحدث عنها، فهي مجرد عناوين، لا تحمل مضمونًا حقيقيًا، ولا تضمن لأوكرانيا شيئًا سوى استمرار الحرب.

 

حين يصبح السلام رهينة المصالح

 

في النهاية، اللقاء بين ترامب وزيلينسكي محطة جديدة في مسار صراعٍ طويل ومعقد. الكلمات كانت كثيرة، والوعود أكثر، لكن الحقيقة بقيت غائبة. أوكرانيا لا تملك قرارها، وزيلينسكي لا يملك أدواته، وأوروبا لا تملك شجاعتها، وأميركا لا تملك نيتها.

 

أما روسيا، فهي تواصل طريقها، بثباتٍ لا يخلو من الحذر، وبإدراكٍ عميق لطبيعة المعركة. تدرك أن السلام لا يُصنع في البيت الأبيض، بل في الميدان، وفي العقول، وفي الإرادات الحرة. لذلك، تظل الحرب مستمرة، وتظل الحقيقة معلقة، وتظل أوكرانيا رهينة قراراتٍ لا تُتخذ في كييف، بل في واشنطن.

 

 

 

المصدر: الوفاق