منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يشهد قطاع غزة واحدة من أكبر موجات النزوح في تاريخه، بعد حملة تدمير واسعة شنّها الاحتلال الإسرائيلي على شمال القطاع (جباليا، بيت حانون، بيت لاهيا) ثم قلب مدينة غزة وأحيائها التاريخية ضمن ما يعرف بـ”عملية عربات جدعون”، ما أدى إلى نزوح نحو مليون ونصف المليون فلسطيني إلى ربع مساحة القطاع، وسط دمار شامل للمباني والأسواق التاريخية.
غزة، التي كانت نابضة بالحياة والتجارة، تحولت إلى فسيفساء بشرية، حيث أصبحت المدارس والمساجد والحدائق مراكز إيواء مكتظة، فيما يعاني السكان من شح في المياه والطعام والخدمات الصحية، ومع طرح الاحتلال مشروع “المدينة الإنسانية” في رفح كبديل قسري، تزداد المخاوف من أن يتحول النزوح المؤقت إلى تهجير دائم.
نزوح قسري من الأحياء التاريخية
محمد جندية، نازح من حي التفاح في غزة القديمة، يروي أنّه اضطر مع أولاده للفرار والانتقال إلى مركز إيواء وسط المدينة بعد أن دمّر الاحتلال منزله كجزء من عملية “عربات جدعون”، التي استهدفت الأحياء التاريخية في قلب غزة لتفريغ السكان قسراً وإجبارهم على النزوح.
ويصف جندية الأوضاع في مراكز الإيواء بـ”المأساوية”، حيث تعيش العائلات وسط اكتظاظ شديد، مع نقص حاد في الماء والطعام، وغياب كامل للخصوصية، بينما الأطفال والنساء يعانون بشكل مضاعف، إذ حُرموا من اللعب والتعليم، بينما يزداد خطر الأمراض مع امتلاء المستشفيات وعدم توفر الأدوية والمستلزمات الطبية الأساسية.
ويشير جندية إلى أنّ “الاحتلال يعتمد سياسة ممنهجة لتدمير المنازل والبنى التحتية وإجبار السكان على النزوح، ما يجعل المدنيين يعيشون في حالة خوف دائم ومعاناة مستمرة، وسط ظروف معيشية قاسية تهدف إلى تهجيرهم وإضعاف صمودهم”.
تدمير الهوية
ولم تقتصر الكارثة في غزة على النزوح والمعاناة اليومية للسكان، بل امتدت لتطال هوية المدينة نفسها، فقد طالت عمليات القصف والتدمير أحياءً تاريخية مثل التفاح والشجاعية والزيتون، بما تحويه من منازل حجرية عريقة وأسواق تاريخية ومساجد ومدارس تحمل ذكريات أجيال، ما أفقد المدينة جزءًا كبيرًا من هويتها وذاكرتها الثقافية.
المسنة عائشة الكردي من حي الشجاعية، توضج عن حجم الخسائر، قائلةً: “المنازل والأسواق تحولت إلى أطلال، والمساجد والمدارس صارت ملاجئ مؤقتة، والأطفال بلا أماكن للعب أو التعلم، أخشى أن يتحول النزوح إلى دائم ويزيد من معاناة السكان النفسية والاجتماعية”.
وتضيف الكردي، أنّ “فقدان المنازل والذكريات التاريخية يعمّق شعور السكان بالضياع، ويجعل حياتهم اليومية صراعًا دائمًا من أجل البقاء وسط الركام والدمار والظروف القاسية”، موضحةً أنّ هذا التدمير لا يطال فقط البنية المادية للمدينة، بل يهدد أيضًا مستقبل الأجيال القادمة بفقدان جذورها وذاكرتها الثقافية، ما يؤدي إلى تفكك المجتمع وفقدان الانتماء لهويته الأصلية.
وتلفت إلى أنّ ما يجري هو جزء من سياسة ممنهجة للاحتلال الإسرائيلي، تهدف إلى محو غزة عن خارطة العالم، ليس فقط بإزالة الأبنية التاريخية والأسواق والمعالم الثقافية، بل أيضًا بتشويه هوية سكانها وطمس تاريخهم وعنفوانهم، ما يجعل من النزوح القسري والتهجير المستمر جزءًا من استراتيجية لإضعاف صمود المدينة وسكانها وإلغاء أي أثر للوجود الفلسطيني في قلب غزة.
خوف من تهجير دائم
النازحون في غزة يعيشون خوفًا من تحوّل نزوحهم المؤقت إلى تهجير دائم، مع مخططات الاحتلال لإنشاء مدن بديلة مثل “مدينة الخيام” في رفح لإعادة رسم الخريطة السكانية.
المواطن سامر أبو خليل من حي الزيتون يقول، إنّ “الاحتلال دمّر أحياء غزة بالكامل، ومحى تاريخ أجيال، وجعل حياتنا صراعًا يوميًا للبقاء وسط الركام، وكل يوم نواجه الخطر ونتحمل معاناة النزوح وفقدان كل ما نملك”.
ويبين أبو خليل، أنّ “أطماع الاحتلال تتجاوز غزة وتهدف إلى تحقيق ما يسمّى “إسرائيل الكبرى”، وهذا يزيد المخاوف من أن يتحول نزوحنا المؤقت إلى تهجير دائم، ويجعل مستقبلنا ومستقبل أبنائنا في خطر دائم”.
أما النازح محمود الدهدار يعبر عن قلقه من أن يتحول النزوح المؤقت في غزة إلى دائم، مع تدمير الحي الذي نشأ فيه والترويج لمدينة الخيام كبديل في رفح، ما يهدد حياة الأجيال وإعادة رسم الخريطة السكانية، مؤكداً أنّ “تهجير العائلات يعني محو تاريخهم وزيادة معاناتهم”.
“المدينة الإنسانية”: سجن كبير للفلسطينيين
وفي الإطار، يقول الكاتب والباحث في الشأن السياسي ومدير مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي أحمد الطناني، إنّ العملية العسكرية تهدف لنقل سكان شمال غزة إلى الوسط وخانيونس ثم رفح، حيث تخطط “إسرائيل” لإنشاء “المدينة الإنسانية” كسجن كبير لتجميع الفلسطينيين تحت مسؤولية المجتمع الدولي.
ويضيف الطناني ، أنّ “الهدف الاستراتيجي للاحتلال يتمثل في تفريغ غزة من السكان عبر تدمير شامل يجعلها غير صالحة للسكن”، مشيراً إلى أنّ “الخطة بدأت شمال غزة واستُكملت في إطار ما يسمى “عملية عربات جدعون”، حيث دُمّرت نحو 70% من مساحة القطاع بالكامل، مع استمرار استهداف مدينة غزة ومخيمات الوسطى لتفريغها من السكان”.
ويؤكد مدير عروبة، أنّ تصريحات قادة الاحتلال تكشف جوهر الخطة، لافتاً إلى أنّ نتنياهو الذي وصف العملية بأنها “تدمير شامل يمنع عودة السكان”، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي تحدث عن “تفكيك غزة حجرًا حجرًا لجعلها
غير قابلة للحياة”، إلى جانب تصريحات ترامب التي اعتبرت أن غزة غير قابلة لإعادة الإعمار، ما يبرر خيار التهجير.
وحول سبل مواجهة هذا المخطط، يشدد الطناني على ضرورة صمود السكان ورفض النزوح، مع تنسيق موقف فلسطيني جامع بين الشعب والفصائل والسلطة والدول لمنع التهجير، وضمان عودة النازحين وتدفق المساعدات بدون سيطرة “إسرائيلية” أو أميركية، مع تفعيل الحراك الدبلوماسي وملاحقة قادة الاحتلال ووضع ترتيبات لليوم التالي.
الكثافة السكانية وتحديات الحسم العسكري
بدوره، يؤكد المختص في الشأن الإسرائيلي، سليمان بشارات، أنّ الكثافة السكانية في غزة تشكل تحديًا استراتيجيًا للاحتلال، إذ تصعّب إحساس الفلسطينيين بالهزيمة وتزيد فرص المواجهة، كما تفرض قيودًا على “إسرائيل” وتعرضها لانتقادات دولية وتضغط لتوفير ممرات آمنة ومساعدات إنسانية، ما يحد من سيطرتها الكاملة على القطاع.
ويقول بشارات في حديثه إلى الميادين نت، إنّ “الكثافة السكانية تعرقل الحسم العسكري، فتستخدم إسرائيل الأحزمة النارية والدعاية النفسية لدفع السكان للنزوح، بينما تتحول الكثافة نفسها إلى بيئة حاضنة للمقاومة، ما يصعّب الوصول إلى المقاومين”.
التهجير وإعادة رسم الخارطة الديمغرافية
ويلفت بشارات إلى أنّ الاحتلال يسعى لاستثمار أحداث 7 أكتوبر لإعادة ترميم صورته داخلياً وشرعنة عملياته العسكرية، ويخطط لسياسات نزوح وتهجير دائمة تهدف إلى “التطهير الكامل” لغزة عبر تدمير البنية التحتية والمناطق السكنية للحد من قدرات المقاومة، برغم استنزاف جيش الاحتلال وخسائره البشرية والنفسية ومعالجة نحو 27 ألف جندي، مع حفاظه على قدراته العسكرية بدعم أميركي كامل.
ويبيّن بشارات أنّ انسحاب الاحتلال من الجولة التفاوضية الأخيرة عزّز قناعة المقاومة بأن “إسرائيل” والولايات المتحدة هما المعرقلان لأي اتفاق، بينما تحد الضغوط الدولية من حرية الاحتلال في تنفيذ استراتيجيته العسكرية.
الحرب وخطة “هانيبال”: استغلال الأسرى لأهداف سياسية
من جهته، يرى رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني صلاح عبد العاطي، أنّ خطة الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة جزء من مخطط أوسع لتصفية القضية الفلسطينية وتهجير السكان وإقامة “إسرائيل الكبرى”.
ويلفت عبد العاطي للميادين نت، إلى أن استمرار الحرب يخدم بقاء نتنياهو في السلطة عبر ما يسميه “خطة هانيبال”، التي تضحي بالأسرى لتحقيق أهداف سياسية، برغم أن إمكانية التوصل إلى صفقة تبادل كانت متاحة منذ البداية.
وانتقد عبد العاطي الدور الأميركي، واصفًا واشنطن بالشريك الكامل في الجرائم الإسرائيلية، لافتًا إلى أن غياب الضغط الدولي منح “إسرائيل” الضوء الأخضر لمواصلة هجومها على غزة.
ودعا عبد العاطي الدول العربية والمجتمع الدولي للتحرك فورًا للضغط على “إسرائيل”، ومساءلة قادتها، وإحالة جرائم الحرب المرتكبة إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وفي السياق عينه، حذّر المرصد الأورومتوسطي من أن أي تصعيد إسرائيلي في غزة، خصوصًا الهجمات البرية، قد يؤدي إلى مذابح جماعية وتدمير البنى التحتية، داعيًا المجتمع الدولي لرفع الحصار وتأمين المساعدات ومساءلة “إسرائيل” وفرض عقوبات عليها.