الريشة التي تجاوزت الحدود وأدهشت العالم

تشييع الأستاذ فرشجيان.. وداع شمس فنّ المنمنمات الإيرانية في أصفهان

رحل الأستاذ محمود فرشجيان عن عمر ناهز 95 عاماً، لكنّه لم يغادر الذاكرة. لقد ترك جزءاً من روحه في كل لوحة، وكل خط، وكل لون.

في قلب محافظة أصفهان، المدينة التي تنبض بتاريخ الفن والروح، ودّعت إيران أحد أعظم أبنائها في عالم المنمنمات، الأستاذ محمود فرشجيان. لم يكن هذا الوداع مجرد مراسم جنائزية، بل لحظة ثقافية فارقة، حيث امتزج الحزن بالفخر، والدموع بالامتنان، في حضرة فنانٍ جعل من الريشة منبراً للهوية، ومن اللون صلاةً للجمال.
تشييع يليق بجلال الفن
تم تشييع جثمان الأستاذ محمود فرشجيان، الفنان البارز في فنّ المنمنمات الإيرانية، يوم الإثنين 19 أغسطس/آب، بمشاركة واسعة من أهالي أصفهان المحبين للفن، إلى جانب عدد من المسؤولين المحليين والوطنيين، حيث وُوري الثرى في حديقة مقبرة صائب التبريزي.
شهدت أصفهان يوماً استثنائياً غمر المدينة بالحزن العميق والفخر الأبدي، حيث مرّ جثمان الأستاذ محمود فرشجيان، الفنان الشهير في إيران، على أكتاف شعبٍ عاش سنواتٍ مع لوحاته ورأى العالم من خلال فنه، بهدوء عبر قلب المدينة ليستقر في مثواه الأخير بجوار مقبرة صائب التبريزي.
أيادٍ وعيونٌ، خاصةً من عشاق الفن والثقافة الإيرانية، ودّعت جثمانه أمام مدرسة الفنون الجميلة في أصفهان – المكان الذي خطا فيه الأستاذ أولى خطواته في عالم المنمنمات.
شوارع الشهيد مطهري، الشهيد بهشتي، وصولاً إلى الطريق المؤدي إلى مقبرة صائب التبريزي، شهدت حضوراً شعبياً واسعاً، حيث حمل الناس على اكتافهم ليس فناناً فقط، بل راوٍ لهوية وثقافة هذه الأرض.
امتزجت أنفاس المدينة المختنقة بالبكاء مع خطوات المشيعين؛ وكأن كل شجرة عتيقة وكل بلاطة فيروزية في أصفهان قد انحنت حزناً. ومع ذلك، كان هذا الحزن ممزوجاً بالفخر، والاعتزاز بامتلاك جوهرة فنية كهذه، نشأت من هذه الأرض وعادت إليها بعد سنوات.
في هذا الوداع، وقف وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي سيد عباس صالحي، ومسؤولون محليون، ومديرو الأكاديميات، وأساتذة الجامعات، وتلامذة الأستاذ فرشجيان، وعدد من الشخصيات الثقافية والفنية البارزة في إيران، جنباً إلى جنب مع الشعب.
جاؤوا ليطووا الصفحة الأخيرة من حياة الأستاذ باحترام، ويسلمونه إلى أحضان أصفهان؛ المدينة التي كانت مصدر إلهامه لسنوات في خلق روائع لا مثيل لها. في وصيته، اختار الأستاذ فرشجيان، بدقة وذوق فني يليق بفنان منمنمات مثله، مقبرة صائب مثواه الأخير، وكان اختياراً يليق بفنانٍ امتزج عالمه بالشعر والصورة والإيمان بالجمال.
قبل مراسم التشييع، تم تنظيف وتزيين بناء وإيوان مقبرة صائب التبريزي بعناية فائقة، لتكون كل التفاصيل، بما فيها الأبيات المنقوشة على القاشاني، في غاية الجمال، استعداداً لاستقبال فنانٍ أدهش عالم الفن بلوحاته. وكأن صائب التبريزي، من الجانب الآخر من الحديقة، كان ينتظر لقاءً مع فنانٍ خلّد الخيال الإيراني على القماش.
وداع بين الحزن والعظمة
كان جوّ المراسم مزيجاً من الحزن والفرح؛ حزن على وداع الأستاذ، وفرح بأن أصفهان تحتضن من جديد جوهرةً خالدة في ترابها. أولئك الذين رأوا الشاهنامة، ورباعيات الخيام، وسرديات الثقافة الإيرانية الخالدة في لوحات فرشجيان، كانوا يودعونه في حديقةٍ تُجسّد الجنة الإيرانية.
لطالما كانت الحديقة الإيرانية مصدر إلهام للفنانين وخاصة فن المنمنمات، وما أجمل أن يرقد خالق أعمال مثل «حديقة عدن» و«رقصة الطبيعة»، التي كانت الحديقة مصدر إلهامها، في مثل هذه المقبرة البديعة.
وهكذا، وبعد عمرٍ من الخدمة للثقافة والفن الإيراني، وبعد أداء صلاة الجنازة من قبل آية الله السيد أحمد روضاتي، وبمرافقة مجتمع الفن والثقافة في أصفهان، دُفن محمود فرشجيان، الفنان الفريد، بجوار الشاعر الإيراني الكبير صائب التبريزي، في حديقة مقبرة يذكّر بجمال الحديقة الإيرانية الحالمة، ليبقى اسمه وذكراه، كما لوحاته، متألقة في روح أصفهان وذاكرة تاريخ إيران.
وزير الثقافة: فن الأستاذ فرشجيان يعكس الهوية الإيرانية والإسلامية
اعتبر وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي، عباس صالحي فن الفنان الراحل الأستاذ محمود فرشجيان انعكاسا للهوية الإيرانية والإسلامية. وخلال لقاء مع فنانين في أصفهان وعائلة الفنان الراحل محمود فرشجيان قال: «كان الأستاذ فرشجيان فنانا مميزا وفريداً من نوعه وذو مثابرة نموذجية كرس حياته الفنية لخلق أعمال فنية خالدة». وأضاف: «إن دور الأستاذ فرشجيان في الهوية الإيرانية لا يزال باقيا، وكان سفيرا للثقافة والفن الإيراني إلى العالم».
وتابع: أن موهبة ونبوغ الأستاذ فرشجيان ظهرت منذ شبابه، مشيراً إلى أن جلال الدين همايي وصفه في سنواته الأولى بـ«الحكيم» و«وريث كبار فناني إيران»، وهو تعبير يدل على إدراكه العميق لمكانة هذا الأستاذ. واعتبر وزير الثقافة أن من أبرز خصائص فن الأستاذ فرشجيان هو طابعه «المقدّس والروحي»، موضحاً أن الفنان كان على صلة عميقة بعالم الحقيقة والملكوت، ولهذا فإن رسوماته تنسجم مع الفطرة الإنسانية وتلامس القلوب. كما أشار صالحي إلى كلمات قائد الثورة الإسلامية في مدح أعمال الأستاذ فرشجيان، وقال: «لقد ذكر القائد أنه كلما نظر إلى لوحة «عصر عاشوراء» اغرورقت عيناه بالدموع»، وهذا يدل على مدى تأثير فن الأستاذ فرشجيان في النفوس.
شهادات رسمية.. الفن الذي تجاوز الحدود
وفي رسالة تعزية رسمية، عبّر رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان عن حزنه العميق لرحيل الفنان الأستاذ فرشجيان، وكتب: «لقد نفخ روحاً جديدة في هذا الفن العريق، وجعل اسم إيران يتألّق في المحافل العالمية… أعماله كانت مرآةً كاملة تعكس الحب، والإيمان، وعظمة الثقافة الإيرانية الإسلامية.» أما محافظ أصفهان مهدي جمالي نجاد، فقد وصفه بأنه «ثروة تتجاوز حدود المدينة»، مؤكداً أن أعماله ستظل مصدر إلهام للأجيال القادمة، وأنه استطاع أن يدمج الفن التقليدي والمعاصر ليقدّم الرسائل الدينية والوطنية الإيرانية بأرقى صورة إلى العالم.
الفن كصدى للحقيقة الإلهية
في مراسم التأبين التي أُقيمت في مدرسة «جهارباغ» التاريخية، قال محمد شالويي، رئيس جمعية مفاخر إيران، إن فن فرشجيان «ليس مجرد تصوير، بل انعكاسٌ للروحانية والحقيقة الإلهية». وأضاف أن ارتباطه العميق بالمفاهيم العرفانية هو ما بثّ حياةً جديدة في أعماله، وأنه فتح طريقاً يتحدث فيه الفن إلى الناس بلغة القلب والروح.
من جهة أخرى في لقاء جمعه مع فناني أصفهان، قال وزير الخارجية الإيراني الأسبق محمد جواد ظريف: «كان الأستاذ فرشجيان فناناً تزيّنت إنسانيته بجمال الفن. لقد تجلّى حبّه لأهل البيت(ع)، ولإيران، وللإنسانية في كل أعماله وسلوكياته، واليوم فإن جميع عشّاق الفن ينعونه بحزنٍ عميق».
الفن يخلّد الإنسان
رحل الأستاذ محمود فرشجيان عن عمر ناهز 95 عاماً، لكنّه لم يغادر الذاكرة. لقد ترك جزءاً من روحه في كل لوحة، وكل خط، وكل لون. وسيبقى اسمه، كما أعماله، متألّقاً في ذاكرة الفن، وفي وجدان كل من آمن بأن الفن يمكنه أن يخلّد الإنسان، ويجعل من الجمال رسالةً لا تموت.
المصدر: الوفاق