لطالما تغنّت بالسيادة المشتركة

هل تملك أوروبا قرارها أم تستعيره من واشنطن؟

حرب أوكرانيا جاءت لتكشف المستور. القرارات تُصاغ في البيت الأبيض، وتُمرّر إلى العواصم الأوروبية كأنها تعليمات لم يكن الأمر مجرد تنسيق، بل خضوع. أوروبا بدت وكأنها فقدت البوصلة، واكتفت بدور المتفرج المنفذ، لا الفاعل المؤثر

منذ أن خرجت أوروبا من رماد الحرب العالمية الثانية، وهي تسعى لتثبيت موقعها كقوة مستقلة، لا تابعة. بنت مؤسساتها، وحدّت عملتها، ونسجت شبكة من التحالفات التي جعلتها تبدو، ولو للحظة، كأنها قادرة على الوقوف في وجه الرياح العاتية. لكن الرياح الأميركية، حين تهب، لا تترك مجالًا للتماسك. ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لم تكن أوروبا أمام اختبار سياسي عابر، بل أمام لحظة وجودية: هل هي شريك أم تابع؟ هل تملك قرارها أم تستعيره من واشنطن؟

 

حرب أوكرانيا جاءت لتكشف المستور. فبينما كانت القذائف تدك المدن الأوكرانية، كانت القرارات تُصاغ في البيت الأبيض، وتُمرّر إلى العواصم الأوروبية كأنها تعليمات. لم يكن الأمر مجرد تنسيق، بل خضوع. أوروبا، التي لطالما تغنّت بالسيادة المشتركة، بدت وكأنها فقدت البوصلة، واكتفت بدور المتفرج المنفذ، لا الفاعل المؤثر.

 

التساؤل هنا كيف ولماذا تخلّت أوروبا عن أدواتها، عن خطابها، وعن كرامتها، في مواجهة إدارة أميركية لا تُخفي عداءها للمؤسسات الدولية، ولا تتردد في فرض رؤيتها الأحادية.  وهل تستطيع  أوروبا أن تكون قوة مستقلة، لا ظلًا لقوة أخرى.

 

أوروبا بعد حرب أوكرانيا

 

حين اندلعت الحرب في أوكرانيا، بدا المشهد الأوروبي وكأنه يستعيد لحظة الحرب الباردة، لكن بوجه جديد. الولايات المتحدة سارعت إلى قيادة التحالف الغربي، بينما اكتفت أوروبا بدور التابع، رغم أن الحرب تدور على حدودها، وتُهدد أمنها المباشر. لم تكن المشكلة في الدعم العسكري أو السياسي لأوكرانيا، بل في غياب المبادرة الأوروبية، وفي الارتهان الكامل للرؤية الأميركية، حتى في التفاصيل الدقيقة.

 

ألمانيا، التي تُعد القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا، تخلّت عن تحفظاتها التاريخية، وبدأت في ضخ الأسلحة، لا استجابة لمصلحة أوروبية خالصة، بل تحت ضغط واشنطن.

 

فرنسا، التي لطالما تباهت باستقلالية قرارها، وجدت نفسها تُساير الموقف الأميركي، حتى في الملفات التي تتعارض مع مصالحها في إفريقيا والشرق الأوسط. أما دول أوروبا الشرقية، فقد تحولت إلى منصات سياسية تُردد خطاب البيت الأبيض دون مراجعة.

 

هذا الانحناء لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات بدأت منذ إدارة ترامب الأولى، حين بدأ الأخير في إعادة تعريف التحالفات الدولية، وفق مبدأ “أميركا أولًا”، وهو مبدأ لا يعترف بالشراكة، بل يُعيد رسم العلاقات على أساس الهيمنة.

 

 لحظة رمزية لانكسار الإرادة الأوروبية

 

في قمة “الاسكا” التي جمعت بين  دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم تكن أوروبا حاضرة بجسدها، بل بغيابها الصارخ. كانت القارة العجوز أشبه بمن يُراقب من خلف الزجاج، عاجزة عن التدخل، مترددة في اتخاذ موقف، وكأنها فقدت حقها في أن تكون طرفًا فاعلًا في معادلة دولية تُرسم على حدودها، وتُهدد أمنها، وتُعيد تشكيل توازنات العالم من دونها.

 

هذه القمة، التي وُصفت بأنها لحظة مفصلية في إعادة ترتيب النفوذ العالمي، لم تكن مجرد لقاء بين قوتين عظميين، بل كانت إعلانًا ضمنيًا عن تراجع الدور الأوروبي، وانكفائه أمام صعود الثنائية الأميركية-الروسية. فبينما كان ترامب يُجاهر برؤيته الأحادية للعالم، وكان بوتين يُعيد تأكيد موقعه كقوة لا تُهمّش، كانت أوروبا تُراكم الحذر، وتُعيد تدوير خطابها التقليدي عن “الواقعية”، دون أن تجرؤ على صياغة موقف مستقل أو تقديم مبادرة بديلة.

 

في تلك اللحظة، لم تكن أوروبا شريكًا في الحوار، بل موضوعًا فيه. كانت القمة تُناقش مستقبل أوكرانيا، أمن الطاقة، ومصير التحالفات، وكلها ملفات أوروبية بامتياز، لكن صوت أوروبا لم يُسمع، ولم يُطلب. كانت الحاضرة الغائبة، تُراقب من بعيد، وتُراهن على أن التفاهم بين واشنطن وموسكو لن يُقصيها تمامًا، رغم أن كل المؤشرات كانت تقول العكس.

 

اللافت أن هذا الغياب لم يكن نتيجة إقصاء أميركي أو روسي، بل نتيجة تراجع داخلي أوروبي، بدأ منذ سنوات، حين اختارت القارة العجوز أن تُساير بدل أن تُبادر، أن تُراهن على التحالف بدل أن تُعيد تعريفه، وأن تُخفي خلافاتها خلف ستار الوحدة، دون أن تُعالجها فعليًا.

 

قمة “الاسكا” لم تُقصِ أوروبا، بل كشفت أنها أقصت نفسها، حين تخلّت عن أدواتها، وعن جرأتها، وعن قدرتها على أن تكون قوة مستقلة في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء.

 

خطاب ترامب.. هيمنة عبر المجاملة

 

حين عاد ترامب إلى البيت الأبيض، لم يُخفِ عداءه للمؤسسات الدولية، ولا رغبته في فرض نموذج سلطوي قائم على الاستعراض الإعلامي وتطويع الحقيقة.

 

أوروبا، بدلًا من أن تُواجه هذا الخطاب، اختارت التكيّف، بل المجاملة. تصريحات القادة الأوروبيين بدأت تُثني على “مهارات ترامب في إبرام الصفقات”، وكأنهم يُحاولون استرضاءه، لا مواجهته.

 

هذا الخطاب المجامل لم يكن مجانيًا، بل كان اعترافًا ضمنيًا بشرعية نموذج سلطوي يُهدد القيم الليبرالية التي تأسس عليها الاتحاد الأوروبي. فحين تُثني أوروبا على ترامب، فإنها تُسهم في شرعنة سياسات حمائية، وعدائية، وتُضعف قدرتها على الدفاع عن مصالحها.

 

مبدأ “الأمة الأكثر تفضيلًا”.. أداة ابتزاز

 

منظمة التجارة العالمية تعتمد على مبدأ “الأمة الأكثر تفضيلًا”، الذي يُلزم الدول بمنح بعضها البعض أفضل شروط تجارية دون تمييز. هذا المبدأ كان أحد أعمدة النظام التجاري الدولي، وأوروبا كانت من أبرز المدافعين عنه.

 

لكن إدارة ترامب، في ولايته الثانية، بدأت في تقويض هذا المبدأ، عبر فرض رسوم جمركية انتقائية، وتهديدات علنية بإلغاء الامتيازات التجارية. أوروبا، بدلًا من أن تُواجه هذا الانتهاك، تخلّت عن أدواتها القانونية، واكتفت بالتصريحات الدبلوماسية، مما أضعف موقعها التفاوضي، وأفقدها القدرة على حماية مصالحها الصناعية والزراعية.

 

هذا التراجع لم يكن تقنيًا، بل سياسيًا، ويُظهر كيف أن أوروبا، في لحظة حرجة، اختارت الانحناء بدلًا من الدفاع عن النظام الذي ساهمت في بنائه.

 

 مقارنة تاريخية.. من كينيدي إلى ترامب

 

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، شكّلت العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة حجر الزاوية في النظام الدولي. لكن هذه العلاقة لم تكن دائمًا متوازنة. ففي عهد الرئيس الأميركي جون كينيدي، كانت أوروبا تُعامل كشريك استراتيجي، بينما في عهد جورج بوش الابن، بدأت ملامح التبعية تظهر بوضوح، خاصة بعد غزو العراق عام 2003، حين انقسمت أوروبا بين مؤيد ومعارض، لكنها في النهاية لم تستطع فرض موقف موحد.

 

في عهد باراك أوباما، حاولت أوروبا استعادة بعض استقلاليتها، خاصة في ملفات المناخ وملفات أخرى، لكن هذه الاستقلالية كانت محدودة، وغالبًا ما خضعت لإيقاع البيت الأبيض.

 

أما في عهد ترامب، فقد بلغت التبعية ذروتها. فهذا الأخير لم يُخفِ عداءه للمؤسسات الدولية، وفرض سياسات حمائية، وانسحب من اتفاقيات دولية، دون أن يجد ردًا أوروبيًا حازمًا. أوروبا، بدلًا من أن تُواجه، اختارت التكيّف، بل المجاملة، كما أوردت صحيفة  “فايننشال تايمز”.

 

 أثر الخضوع على الداخل الأوروبي

 

هذا الخضوع لم يكن بلا ثمن داخلي. ففي السنوات الأخيرة، بدأت القوى الشعبوية واليمينية المتطرفة في أوروبا تُوظّف هذا الانحناء لتقويض شرعية الاتحاد الأوروبي. الأحزاب المناهضة للعولمة، من فرنسا إلى إيطاليا إلى المجر، بدأت تُشكّك في جدوى الاتحاد، وتُقدّم نفسها كبديل سيادي في مواجهة التبعية لواشنطن.

 

الخطاب السياسي الأوروبي، الذي يُبرّر التكيّف مع ترامب بالواقعية، يُفقد المواطن الأوروبي الثقة في مؤسساته. فحين يرى المواطن أن قادته يُسايرون إدارة أميركية تُهدد مصالحه، فإنه يُعيد النظر في جدوى الاتحاد، ويبحث عن بدائل أكثر “وطنية”، حتى لو كانت متطرفة.

 

اقتصاديًا، أدّى هذا الخضوع إلى تبعية في السياسات التجارية، خاصة بعد انسحاب ترامب من اتفاقيات التجارة الحرة.

 

بين استعادة الوجود أو الانزلاق نحو التلاشي

 

الحفاظ على الوجود أمام الهيمنة الأمريكية  ليس شعارًا يُرفع في المؤتمرات، بل ممارسة يومية تُترجم في القرارات، في المواقف، وفي القدرة على قول “لا” حين يكون ذلك ضروريًا.

 

أوروبا، في السنوات الأخيرة، لم تقل “لا”. بل قالت “نعم” بصوت خافت، ثم بصوت واضح، ثم بصمتٍ مُطبق. هذا الصمت هو ما يُهدد اليوم جوهر المشروع الأوروبي، ويُضعف ثقة الشعوب في مؤسساتها، ويُغري القوى المناهضة للاتحاد بالتمدد.

 

لكن لا يزال هناك وقت. وأوروبا، إن أرادت، تستطيع أن تُعيد بناء استقلاليتها، أن تُفعّل أدواتها القانونية، أن تُعيد صياغة خطابها السياسي، وأن تُواجه حتى أقرب حلفائها حين تمس مصالحها. ليس المطلوب القطيعة، بل التوازن. ليس المطلوب العداء، بل الندية.

 

ربما تكون “قمة الاسكا” لحظة انكسار، بل يمكن أن تكون لحظة تُدرك فيها أوروبا أن التكيّف ليس دائمًا واقعية، وأن المجاملة ليست دائمًا دبلوماسية، وأن الشراكة لا تعني التبعية. فهل تملك أوروبا الشجاعة لتعيد تعريف نفسها؟ أم أن زمن الانحناء قد أصبح جزءًا من هويتها السياسية الجديدة؟

 

الجواب لا يوجد في البيت الأبيض، بل في بروكسل، في باريس، في برلين، وفي كل عاصمة أوروبية تُريد أن تستعيد صوتها، قبل أن يُصبح مجرد صدى.

 

 

المصدر: الوفاق