لطالما كانت الولايات المتحدة الأميركية تُقدَّم للعالم بوصفها أرض الفرص، وملاذ الحريات، وموطن الديمقراطية الحديثة. لكن في عام 2025، ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بدأت ملامح جديدة تتشكّل في الداخل الأميركي، ملامح أقل إشراقاً، وأكثر قسوة، دفعت مئات المواطنين الأميركيين إلى اتخاذ قرار غير مألوف: طلب اللجوء إلى كندا.
أن يطلب مواطن أميركي اللجوء في بلد مجاور، فهذا ليس مجرد حدث قانوني، بل هو إعلان صريح بأن وطنه لم يعد آمناً له. أن ترتفع طلبات اللجوء من الولايات المتحدة إلى كندا بنسبة غير مسبوقة في النصف الأول من عام 2025، فهذا يعني أن هناك خللاً عميقاً في البنية السياسية والاجتماعية الأميركية، خللاً لا يمكن تجاهله أو تبريره.
هذه الظاهرة تطرح أسئلة وجودية حول معنى المواطنة، وحدود الحرية، ومفهوم الأمان. هل يمكن أن يشعر المواطن الأميركي، الذي يعيش في واحدة من أغنى دول العالم، بأنه مهدد؟ وهل يمكن أن تتحوّل كندا،، إلى ملاذ سياسي؟
السؤال هنا ما الذي يدفع المواطن الأميركي إلى أن يطرق أبواب اللجوء، وكأنّه يهرب من حرب أو اضطهاد.
من واشنطن إلى أوتاوا..أرقام اللجوء تتحدث
وفق بيانات رسمية صادرة عن مجلس الهجرة واللاجئين في كندا، فإن عدد الأميركيين الذين تقدموا بطلبات لجوء خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2025 بلغ 245 شخصاً، متجاوزاً بذلك مجموع الطلبات المقدمة طوال عام 2024، والتي لم تتعدَّ 204 طلبات. هذه الأرقام تمثل أعلى مستوى يُسجَّل منذ عام 2019، وتعيد إلى الأذهان موجة اللجوء التي شهدتها كندا خلال فترة رئاسة ترامب الأولى بين عامي 2017 و2021، حين قفز عدد الطلبات إلى أكثر من 2,500 في عام واحد.
ورغم أن هذه الأرقام لا تزال صغيرة مقارنةً بإجمالي طلبات اللجوء إلى كندا، والتي تجاوزت 55,000 طلب في النصف الأول من 2025، إلا أن دلالتها السياسية والاجتماعية كبيرة. فالمواطن الأميركي، الذي يُفترض أنه يعيش في بلد ديمقراطي متقدم، لا يطلب اللجوء إلا إذا شعر بأن حياته أو كرامته أو حريته مهددة.
كندا؛ ملاذ آمن أم خيار رمزي؟
كندا، بجغرافيتها الهادئة، وسياساتها الليبرالية، ونظامها الصحي والاجتماعي المتقدم، لطالما كانت وجهة مفضلة للمهاجرين واللاجئين من مختلف أنحاء العالم. لكنها لم تكن، تاريخياً، وجهة لجوء للمواطنين الأميركيين. فالقانون الكندي يشترط أن يُثبت طالب اللجوء أنه لا توجد منطقة داخل بلده الأصلي يمكن أن توفر له الحماية، وهو شرط يصعب تحقيقه بالنسبة للأميركيين، نظراً لتعدد الولايات وتنوع السياسات المحلية.
ومع ذلك، فإن ارتفاع الطلبات يعكس رغبة متزايدة في الهروب من مناخ سياسي واجتماعي بات خانقاً للبعض. ورغم أن معدلات قبول طلبات اللجوء من الأميركيين لا تزال منخفضة، إلا أن مجرد تقديم الطلب هو فعل احتجاجي، ورسالة سياسية، وصرخة في وجه النظام الذي لم يعد يوفر الأمان لمواطنيه.
ترامب يعود… والمخاوف تتصاعد
عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة في بداية عام 2025 شكّلت نقطة تحول في المشهد السياسي الأميركي. فالرجل الذي أثار الجدل في ولايته الأولى، عاد هذه المرة وسط انقسامات أعمق، واستقطاب أشد، ومجتمع أكثر هشاشة. سياساته الصدامية، وخطابه الشعبوي، وقراراته التنفيذية المثيرة للجدل، أعادت إلى السطح مخاوف كانت قد هدأت نسبياً في عهد جو بايدن.
العديد من الأميركيين شعروا بأن عودة ترامب تعني عودة التهديدات التي طالت الحقوق المدنية، والحريات الفردية، والتنوع الثقافي. البعض رأى في هذه العودة انحداراً نحو السلطوية، والبعض الآخر اعتبرها انتصاراً للتيارات المتطرفة. وفي هذا المناخ، بدأ المواطن الأميركي يبحث عن ملاذ، حتى لو كان ذلك الملاذ في بلد مجاور.
من الهروب إلى الاحتجاج
طلب اللجوء ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو في كثير من الأحيان فعل سياسي. حين يقرر المواطن الأميركي أن يطلب الحماية من دولة أخرى، فهو لا يقول فقط “أنا خائف”، بل يقول أيضاً “أنا أرفض”. يرفض السياسات التي تهدد حقوقه، يرفض الخطاب الذي يهمّشه، يرفض النظام الذي لم يعد يمثله.
في هذا السياق، يمكن قراءة موجة اللجوء إلى كندا على أنها شكل من أشكال المقاومة المدنية، والاحتجاج الرمزي، والبحث عن فضاء أكثر اتساعاً للحرية. إنها ليست فقط هروباً من الواقع، بل محاولة لإعادة تعريف الذات، والانتماء، والمواطنة.
هل اللجوء الأميركي إلى كندا ظاهرة جديدة؟
رغم أن طلبات اللجوء من الأميركيين إلى كندا ليست جديدة تماماً، إلا أن وتيرتها ارتفعت بشكل ملحوظ في فترات التوتر السياسي. ففي عام 2017، مع بداية ولاية ترامب الأولى، قفز عدد الطلبات إلى أكثر من 2,500، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين. هذا الارتفاع كان مرتبطاً مباشرةً بالقرارات التنفيذية التي اتخذها ترامب، والتي أثارت جدلاً واسعاً داخل الولايات المتحدة وخارجها.
لكن ما يميز موجة 2025 هو أنها جاءت بعد عودة ترامب إلى السلطة، وليس في بداية عهد جديد. وهذا يعني أن المواطن الأميركي لم يعد يكتفي بالانتظار أو الأمل في التغيير، بل بات يتخذ خطوات عملية للهروب من واقع سياسي لا يراه قابلاً للإصلاح.
هل تهدد هذه التحولات مستقبل الانتخابات؟
التحولات في الرأي العام الأميركي لا تبقى حبيسة الأرقام، بل تتسرّب إلى الحملات الانتخابية، وتؤثر في شعبية المرشحين، خصوصاً في ظل الاستقطاب الحاد داخل الحزب الديمقراطي. جو بايدن، الذي لطالما تبنّى موقفاً داعماً لـكيان العدو الصهيوني، يواجه اليوم انتقادات متزايدة من داخل حزبه، ومن قواعده الشبابية والتقدمية، بسبب موقفه من الحرب على غزة، ومن السياسات الداخلية التي لم تُرضِ شرائح واسعة من الناخبين.
شعبية بايدن تراجعت بشكل ملحوظ في أوساط الناخبين الديمقراطيين، خصوصاً الشباب والأقليات العرقية، بسبب دعمه غير المشروط لبعض السياسات المثيرة للجدل. هذا التراجع قد يهدد فرصه في الفوز بولاية ثانية في انتخابات نوفمبر 2028، خصوصاً إذا استمرت موجة الهجرة الرمزية، أو إذا فشل في تقديم موقف أكثر توازناً.
التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي، الذي يضم شخصيات مثل بيرني ساندرز ورشيدة طليب وألكساندريا أوكاسيو كورتيز، بات أكثر جرأة في انتقاد السياسات الداخلية والخارجية، ويطالب بإصلاحات جذرية. هذا التيار لا يزال أقلية داخل الكونغرس، لكنه يحظى بدعم شعبي متزايد، خصوصاً بين الشباب.
في المقابل، يواصل الحزب الجمهوري دعم سياسات ترامب بقوة، مدفوعاً بنفوذ التيار المحافظ، الذي يمثل نسبة كبيرة من القاعدة الانتخابية. هذا التيار يرى في عودة ترامب تصحيحاً لمسار أميركا، ويعارض بشدة أي محاولة لتقييد سلطاته أو سياساته.
ظاهرة تعتبر مؤشراً على أزمة داخلية
لطالما كانت الولايات المتحدة تُقدَّم للعالم بوصفها نموذجاً للديمقراطية، وملاذاً للحريات، ومنارة للحقوق. لكن حين يبدأ مواطنوها بطلب اللجوء في دول أخرى، فإن هذه الصورة تتصدّع. العالم ينظر إلى هذه الظاهرة بوصفها مؤشراً على أزمة داخلية، وانهيار في النموذج، وتراجع في القيم التي لطالما تباهت بها واشنطن.
كندا، من جهتها، تجد نفسها في موقف دقيق. فهي لا تسعى إلى توتير علاقاتها مع جارتها الكبرى، لكنها أيضاً لا تستطيع تجاهل الطلبات التي تصلها من مواطنين أميركيين يشعرون بالتهديد أو بالاغتراب. قبول هذه الطلبات، أو حتى مجرد النظر فيها، يحمل في طياته رسالة أخلاقية وسياسية: أن كندا لا ترى في الولايات المتحدة وطناً آمناً للجميع، وأنها مستعدة لأن تكون البديل، ولو بشكل رمزي، لمن فقدوا الثقة في وطنهم الأصلي.
هذا التحول في النظرة إلى الولايات المتحدة لا يقتصر على كندا وحدها. بل إن العديد من الدول باتت تراقب عن كثب ما يجري داخل المجتمع الأميركي، وتعيد تقييم علاقتها بالنموذج الأميركي، ليس فقط على مستوى السياسات، بل على مستوى القيم. فحين تتآكل الأسطورة من الداخل، لا يعود بالإمكان تصديرها إلى الخارج بنفس القوة أو الإقناع.
انكسار في سردية “الحلم الأميركي”
في النهاية، فإن ظاهرة اللجوء من الولايات المتحدة إلى كندا لم تعد مجرد استثناء قانوني أو حالة فردية، بل تحوّلت إلى مرآة تعكس أزمة هوية وطنية، وتآكل في الثقة، وانكسار في سردية “الحلم الأميركي” التي لطالما تغنّى بها العالم. المواطن الأميركي، الذي نشأ على فكرة أن بلاده هي منبع الحرية، يجد نفسه اليوم مضطراً إلى البحث عن ملاذ في بلد مجاور، لا هرباً من الفقر أو الحرب، بل من السياسات التي باتت تهدد قيمه الأساسية.
هذه الظاهرة لا يمكن فصلها عن السياق السياسي العام، ولا عن عودة الخطاب الشعبوي، ولا عن الانقسامات الحادة التي باتت تفتك بالنسيج الاجتماعي الأميركي. إنها ليست فقط أزمة قيادة، بل أزمة رؤية، وأزمة ضمير، وأزمة مستقبل. حين يشعر المواطن بأن وطنه لم يعد يحميه، فإن كل ما تبقى من مؤسسات وقوانين يصبح هشاً، وكل ما تبقى من رموز وطنية يصبح قابلاً للتشكيك.
كندا، في هذا المشهد، لا تمثل فقط وجهة جغرافية، بل تمثل رمزاً لبديل أخلاقي، لفضاء أكثر اتساعاً، لفرصة ثانية في حياة يشعر فيها الإنسان بأنه مرئي، ومحترم، ومصان. لكن السؤال الأعمق يبقى: هل يمكن أن تُصلح هذه الهجرة الرمزية ما أفسدته السياسات؟ وهل يمكن أن تعيد هذه الخطوة الفردية تشكيل الوعي الجماعي الأميركي؟
ربما لا تكون الإجابة سهلة، وربما لا تأتي قريباً. لكن ما هو مؤكد أن أميركا، كما عرفها العالم، لم تعد كما كانت. وأن المواطن الأميركي، الذي يطرق أبواب اللجوء، لا يهرب فقط من رئيس أو قانون، بل من وطنٍ بات غريباً عليه. وفي هذا الهروب، تكمن كل الحكاية.