ذاكرة المقاومة.. بين التاريخ والفن

رئيسعلي دلواري.. أيقونة المقاومة ضدّ الإستعمار البريطاني

الوفاق: دُفن جثمانه أولاً في قرية «كله‌بند»، ثم نُقل لاحقاً بناءً على وصيته إلى النجف الأشرف، حيث وُري الثرى في مقبرة «وادي السلام».

شكّل الاستعمار البريطاني أحد أكثر الفصول ظلمة في تاريخ إيران الحديث، حيث لم تقتصر تدخّلاته على الهيمنة السياسية والاقتصادية، بل امتدت إلى تقويض السيادة الوطنية، ونهب الموارد، وإشعال الفتن الداخلية، وصولاً إلى دعم الانقلابات والحروب. من الجنوب الإيراني وتحديداً من مدينة بوشهر انطلقت شرارة المقاومة الشعبية بقيادة الشهيد رئيسعلي دلواري، الذي تحوّل إلى رمز خالد في مواجهة «الاستعمار العجوز»، بعد أن قاد أبناء تنكستان في معارك بطولية ضد القوات البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى.

 

 

يوم مكافحة الإستعمار البريطاني

 

في الثالث من سبتمبر، تحيي إيران ذكرى يوم مكافحة الاستعمار البريطاني، وهو اليوم الذي يصادف أيضاً استشهاد أحد أبرز رموز المقاومة الشعبية في تاريخها الحديث وهو الشهيد رئيسعلي دلواري. هذا اليوم لا يُعد مجرد مناسبة وطنية، بل هو تذكير حيّ بتاريخ من النضال، والشجاعة، والتضحية في وجه الاحتلال.

 

بسبب بطولاته وتضحياته، أقرّ المجلس الأعلى للثورة الثقافية في إيران عام 2010 م، تسمية يوم 3 سبتمبر بـ«اليوم الوطني لمكافحة الاستعمار البريطاني»، تخليداً لذكرى استشهاد رئيسعلي دلواري.

 

في هذا المقال، نسلّط الضوء على هذه المرحلة المفصلية من تاريخ إيران، من خلال قراءة تحليلية تجمع بين الوقائع التاريخية والتجليات الثقافية، حيث نتناول أبرز الأعمال السينمائية التي وثّقت هذه الحقبة، إلى جانب بعض الكتب والدراسات التي أرّخت لسياسات بريطانيا في إيران، وكتب عن الشهيد رئيسعلي دلواري.

 

 

رئيسعلي دلواري.. صوت الشعب وسيف الكرامة

 

ولد دلواري في مدينة دلوار بمحافظة بوشهر، ونشأ في بيئة عشائرية محافظة، حيث تعلّم الفروسية والقيادة. لم يكن من النخبة السياسية، بل من عامة الناس الذين رفضوا الذل، وقادوا المقاومة من داخل قلعة مدمّرة، وألحقوا خسائر فادحة بالقوات البريطانية. استُشهد وهو يدافع عن أرضه، ليُخلّد اسمه في ذاكرة الإيرانيين كرمز للبطولة والتضحية.

 

 

المواجهة مع البريطانيين

 

عقب إعلان الجهاد من قبل العلماء والمجتهدين، قاد رئيسعلي دلواري ومعه المجاهدون من منطقتي تنكستان ودشتي هجوماً على القوات البريطانية المتمركزة في بوشهر. وفي خطوة غير مسبوقة وغير قانونية، قامت الاستخبارات البريطانية باعتقال القنصل الألماني في بوشهر، إلى جانب اثنين من موظفي شركة ألمانية تجارية، بتهمة التجسس، ثم نُفوا إلى الهند. هذا الانتهاك الصارخ لحياد إيران وسيادتها أثار غضب العلماء والوجهاء، وعلى رأسهم رئيسعلي، الذي قرر تصعيد المقاومة ضد الاحتلال.

 

 

وكان دلواري قد علم مسبقاً بخطة الهجوم على دلوار، فقام بإخلاء القرية وانسحب تكتيكياً إلى جبال منطقة تُعرف بـ«كُلات بوجير». وعندما دخل الجنود البريطانيون والهنود إلى دلوار، وجدوها شبه خالية، فبدأوا بقصف المنازل وقطع أشجار النخيل.

 

 

وفي تلك الليلة، شنّ رئيسعلي دلواري هجوماً مباغتاً بـ400 من رجاله، أسفر عن مقتل 60 جندياً من القوات المعتدية، بينهم جنرال رفيع المستوى، مما أدى إلى انتصار حاسم في تلك المعركة.

 

 

بعد هذا الانتصار، كثّف دلواري هجماته الليلية على بوشهر ومعسكرات البريطانيين، وبتنسيق مع وجهاء المنطقة، وضع خطة للهجوم الشامل على المدينة وتحريرها. وأثناء التحضير لهذا الهجوم، وفي عام 1954 م، وبينما كان يستعد لشنّ غارة على «العمارة البيضاء» في منطقة سبزآباد، تعرّض للخيانة من أحد مرافقيه، وأُطلق عليه النار من الخلف في منطقة تُعرف بـ«تنغك صفر»، واستُشهد عن عمر ناهز 34 عاماً.
وقد دُفن جثمانه أولاً في قرية «كله‌بند»، ثم نُقل لاحقاً بناءً على وصيته إلى النجف الأشرف، حيث وُري الثرى في مقبرة «وادي السلام».

 

 

فيلم «دار الأيتام الإيرانية» 

 

الفيلم السينمائي «دار الأيتام الإيرانية» من إخراج أبوالقاسم طالبي، يُسلّط الضوء على واحدة من أكثر الفترات مأساوية في تاريخ إيران الحديث، وهي المجاعة الكبرى التي ضربت البلاد خلال الحرب العالمية الأولى.

 

تدور أحداث الفيلم في بدايات الحرب، حين أعلنت إيران حيادها في ظل صراع عالمي دموي، لكن رغم ذلك، دخلت القوات البريطانية الأراضي الإيرانية، مما أدى إلى أزمة غذائية خانقة استمرت ثلاث سنوات بدءاً من عام 1916م، وأدت إلى وفاة ملايين الإيرانيين بسبب الجوع والمرض.

 

في خضم هذه الكارثة، يقوم رجل يُدعى الحاج أبو الفضل بتأسيس دار للأيتام لرعاية الأطفال الذين فقدوا ذويهم. وبعد وفاته، يتولى ابنه محمد جواد إدارة الدار، ويصبح رمزاً للمقاومة في وجه الاحتلال الأجنبي.

 

ويُبرز الفيلم كيف أن الاستعمار البريطاني، رغم حياد إيران، تسبب في كارثة إنسانية هائلة، حيث تشير بعض الروايات إلى أن أكثر من 9 ملايين إيراني من أصل 18 مليون نسمة لقوا حتفهم نتيجة هذه المجاعة، ما جعل البعض يصفها بأنها من أكبر «الهولوكوستات» في التاريخ.

 

 

مسلسل «أبطال تنكستان»

 

يُعد مسلسل «دليران تنكستان» أي «أبطال تنكستان» ملحمة تلفزيونية تُجسّد مقاومة الجنوب الإيراني ضد الاستعمار البريطاني، وهو من أبرز الأعمال التلفزيونية الإيرانية التي تناولت نضال أبناء الجنوب الإيراني ضد الاحتلال البريطاني، وقد أخرجه الفنان الراحل همايون شهنواز، وبدأ عرضه في أوائل سبعينيات القرن الماضي، ليحظى بإعادة بث ناجحة في الثمانينيات، حيث لاقى ترحيباً واسعاً من الجمهور الإيراني.

 

يركّز المسلسل على بطولات أبناء مدينة بوشهر بقيادة الشهيد رئيسعلي دلواري، الذي يُعد من أبرز رموز المقاومة الشعبية ضد الاستعمار البريطاني. وقد جسّد الفنان الراحل محمود جوهري شخصية دلواري ببراعة، مما أضفى على العمل طابعاً تاريخياً وإنسانياً مؤثراً.

 

 

وثائقيات عن رئيسعلي دلواري

 

تم إنتاج عدة أفلام وثائقية حول الشهيد رئيسعلي دلواري، منها: «بطل من دلوار»، «ملحمة رئيسعلي دلواري»، و«الخيّر»، و«صانع الملحمة في بوشهر»، وكلها تسلّط الضوء على نضاله البطولي ضد الاحتلال البريطاني في جنوب إيران.

 

 

كتب خالدة في رثاء رئيسعلي دلواري

 

تناولت العديد من الكتب سيرة هذا القائد المجاهد، منها: «معركة رئيسعلي» بقلم بهمن بكاه ‌راد، «فخ للصياد» من تأليف مهدي ميركيائي، «بطل دلوار» من تأليف علي باباجاني، «فارس دلوار الوحيد» للكاتبة نيلوفر مالك، «الشهيد رئيسعلي دلواري، رمز الغيرة الدينية» للمؤلف حسين نامور، وغيرها من الكتب.

 

تُعد هذه المؤلفات مصادر قيّمة لفهم أبعاد النضال الشعبي الإيراني ضد الاستعمار، وتوثيق سيرة أحد أبرز أبطال الثورة الدستورية.

 

 

كُتُبٌ عن إيران والاستعمار البريطاني

 

في إطار سلسلة الإصدارات التي أطلقتها مؤسسة الدراسات والبحوث السياسية حول التاريخ الأسود للاستعمار البريطاني في إيران، صدر مؤخراً الجزء الثالث من كتاب «إيران والاستعمار البريطاني»، وذلك بالتزامن مع انعقاد الدورة السابعة والعشرين من معرض طهران الدولي للكتاب.

 

 

يتضمن هذا الجزء خلاصة 23 مقالاً مختاراً من بين مجموعة من الأبحاث التي قُدّمت خلال فعاليات الندوة الثالثة حول إيران والاستعمار البريطاني، والتي أُقيمت في سبتمبر 2013 في المجمع الثقافي «نهم دي» بمدينة بوشهر.

 

 

يُعد هذا الكتاب مرجعاً مهماً للمهتمين بتاريخ نضال الشعب الإيراني ضد الاستعمار البريطاني، حيث يُسلّط الضوء على جوانب متعددة من التضحيات والبطولات التي سطّرها الإيرانيون في مواجهة الهيمنة الأجنبية، ويُبرز كيف شكّلت هذه المقاومة جزءاً أساسياً من الهوية الوطنية الإيرانية.

 

 

وكذلك كتاب «إيران في السياسة البريطانية 1896–1921» للدكتور خضير البديري، يتناول هذا الكتاب بعمق السياسات البريطانية تجاه إيران خلال فترة حساسة من تاريخها، ويشرح كيف تحولت المصالح البريطانية من تجارية إلى سياسية واستعمارية، خاصة في ظل ضعف الدولة القاجارية.

 

 

رئيسعلي دلواري.. من رمز محلي إلى أيقونة وطنية

 

لم يكن رئيسعلي دلواري مجرد قائد محلي، بل تحوّل إلى رمز وطني للمقاومة. لقد جسّد روح التضحية، والكرامة، والرفض المطلق للهيمنة الأجنبية. واليوم، يُخلّد اسمه في المتاحف، مثل متحف رئيسعلي دلواري في بوشهر، وفي الأعمال الفنية، وفي وجدان كل من يؤمن بحرية الشعوب واستقلالها.

 

 

إن الفن، والكتاب، والندوة، والمقال، كلها أدوات لإحياء الذاكرة، وتحصين الوعي، وتأكيد أن مقاومة الاستعمار ليست حدثاً من الماضي، بل موقفاً مستمراً في وجه كل أشكال الهيمنة.

 

 

 

المصدر: الوفاق