تتحوّل أحياء غزة إلى ميادين تجارب لأسلحة غير مسبوقة، حين أطلق الاحتلال العنان لروبوتات متفجّرة تحوّلت إلى وحوش صامتة تتقدّم بين الركام وتنفجر وسط البيوت. أطنان من المتفجرات تجرّها آليات مدرّعة عن بُعد، فتُسقط الحجر والبشر معاً، وتزرع رعباً يتجاوز أثر القنابل الجوية، لتكتب مشهداً جديداً في سجل المجازر التي لم تعرف المدينة مثلها من قبل. هذه التقنية التي يروّج لها الاحتلال كـ”ابتكار عسكري” لا تحمل سوى توقيع الموت، وتكشف عن عجزه عن مواجهة المقاتلين مباشرة.
المشهد لا يتوقف عند حدود الدمار المادي، بل يمتد إلى البعد القانوني والأخلاقي. بيانات المؤسسات الحقوقية في غزة تصف استخدام الروبوتات المتفجّرة بجريمة حرب مكتملة الأركان، فيما شهادات الأطباء والناجين تكشف عن استهداف مباشر للمستشفيات والأحياء المأهولة، كما حدث في محيط مستشفى كمال عدوان حيث اخترقت شظايا الانفجارات جدران غرف المرضى. ما بين هدم الحجر وانتهاك البشر، تترسخ حقيقة أنّ الاحتلال يكتب فصلاً جديداً من الحرب “الذكية” في ظاهرها، الإجرامية في جوهرها.
تكتيك الروبوتات الجديد
قال العميد المتقاعد في الجيش اللبناني شارل أبي نادر،إن جيش الاحتلال بدأ يعتمد أسلوباً جديداً وغريباً في حربه على غزة، عبر استخدام الروبوتات المفخخة لتدمير المباني والأحياء السكنية. واعتبر أن هذه التقنية ليست مجرد أداة قتالية بل انعكاس لعجز الاحتلال عن التقدم الميداني في مناطق تشكّل خطراً على قواته.
وأكد العميد أن أنواع هذه الروبوتات كانت في السابق صغيرة الحجم، تُستخدم للاستطلاع داخل الشوارع الضيقة التي يصعب على جنود الاحتلال دخولها، موضحاً أنها كانت في أحيان كثيرة تُفخخ وتُفجر في المكان والتوقيت اللذين يراهما الاحتلال مناسبين.
وأوضح أبي نادر أن الاحتلال لجأ مؤخراً إلى استخدام آليات أكبر حجماً مثل ناقلات الجنود المدرعة من طراز “M113” أو “زيلدا”، وهي آليات قديمة لم تعد قادرة على مواجهة عبوات المقاومة الفعّالة مثل “شواظ” وعبوات العمل الفدائي. وبيّن أن جيش الاحتلال عمد إلى تفخيخ هذه الناقلات بكميات هائلة من المتفجرات الشديدة الانفجار، ليطلقها نحو الأحياء بهدف إحداث أكبر قدر من التدمير وفتح محاور التقدم استعداداً لأي عملية هجومية على مدينة غزة.
وأشار إلى أن الاحتلال يستخدم هذه الروبوتات لأهداف متعددة، منها الاستعاضة بها عن زجّ وحداته داخل الشوارع والمباني الخطرة، والكشف عن عبوات المقاومة المزروعة مسبقاً، بالإضافة إلى استدراج المقاتلين الفلسطينيين لاستهداف تلك الآليات، فينكشف موقعهم بينما تبقى وحدات الاحتلال محمية وبعيدة عن الخطر.
وأضاف أن هذا النمط من القتال يؤكد سعي الاحتلال إلى تقليل خسائره البشرية عبر تحويل الآليات إلى أدوات تفجير ضخمة، مؤكداً في الوقت نفسه أن خطورة هذا الأسلوب تكمن في استخدامه وسط بيئة مكتظة بالمدنيين، ما يجعله جريمة حرب مكتملة الأركان.
وكان قد بدأ الاحتلال باستخدام الروبوتات المفخخة في نيسان/أبريل وأيار/مايو من العام الماضي، كجزء من استراتيجيته لتوسيع مساحة الدمار وتسطيح الأرض، بهدف تسهيل تقدم قواته وتقليل الخسائر البشرية. وتعد هذه الروبوتات ناقلات جند أميركية الصنع من طراز “M113″، أعيد تصميمها وإفراغها من المقاعد لإدخال كميات كبيرة من المتفجرات، ويتم التحكم بها عن بعد. وينقسم مداها التدميري إلى نطاقين: تدمير كامل وحرق ضمن دائرة 50 متراً، وأضرار جزئية ضمن نطاق يصل إلى 150 متراً.
تفجيرات يومية متواصلة
وكشف المدير العام لوزارة الصحة في غزة، منير البرش، أن الاحتلال الإسرائيلي بات يواظب على استخدام الروبوتات المفخخة داخل مدينة غزة بشكل يومي، محذراً من أن هذا التكتيك يحوّل الأحياء السكنية إلى ساحات تفجير مفتوحة ويضع حياة المدنيين في دائرة الخطر المباشر، ما يفاقم الكارثة الإنسانية المتصاعدة في القطاع.
وأشار البرش في تصريحاته إلى أن كل روبوت محمّل بكميات ضخمة من المتفجرات قد تصل إلى سبعة أطنان، موضحاً أن الاحتلال يدفع يومياً بما يتراوح بين سبعة وعشرة من هذه الآليات في مناطق مختلفة، الأمر الذي أدى إلى تدمير واسع ونزوح آلاف العائلات من بيوتها.
وتسبّبت الروبوتات المفخخة التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي في دمار واسع بالمربعات السكنية، حيث تمتد قوة الانفجار لمئات الأمتار، مسببة أضراراً كبيرة في المباني وإصابات بين المدنيين.
وخلال الأشهر الأخيرة، لجأ الاحتلال إلى تفجير عشرات الروبوتات بهدف مسح الأحياء السكنية بالكامل، وتحويل بعض المناطق إلى مناطق خالية من المباني، تمهيداً لعمليات تقدم قواته.
الدمار الهائل للروبوتات
ووصف محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة، تأثير الروبوتات المفخخة بأنه “مخيف”، مشيراً إلى الدمار الهائل الذي تسببه في المربعات السكنية، مع انفجارات صاخبة وألسنة لهب كثيفة. وأضاف أن الاحتلال استخدم هذه الروبوتات خلال عملياته في أحياء الشجاعية، الزيتون، التفاح، وبلدة جباليا، حيث أدى تفجيرها اليومي إلى تحويل آلاف المباني إلى ركام وإحداث أضرار واسعة في المناطق المحيطة.
وأوضح بصل أن كل روبوت يتسبب في تدمير كامل ضمن نطاق يصل إلى 100 متر، وأضرار جزئية حتى 300 متر، مع ذوبان أجساد من يقع ضمن دائرة الانفجار المصحوبة بحرائق هائلة، وتحويل المباني إلى رماد وحرق طبقة من التربة بسمك يزيد عن 3 سنتيمترات. وشدد على أن هذه العمليات الأخيرة تكشف استراتيجية الاحتلال في تسريع التدمير ضمن الأحياء المكتظة بالمدنيين.
تحويل المخلفات إلى أسلحة
ومن جهة أخرى يشار إلى أن المقاومة الفلسطينية نجحت في تحويل مخلفات الاحتلال إلى أدوات فعّالة، إذ أعادت تدوير روبوتات مفخخة معطلة واستخراج المتفجرات منها لاستخدامها في كمائن محكمة ضد القوات والآليات الإسرائيلية.
وقد ساهمت هذه التكتيكات في تعطيل تقدم الاحتلال وتقليل فعالية هجماته، كما فرضت على قواته الحذر الشديد عند الدفع بالآليات أو دخول الأحياء المكتظة.
وتشير تقارير ميدانية إلى أن بعض الروبوتات المعطلة التي لم تنفجر أعيد استخدامها مرات متعددة، ما يعكس قدرة المقاومة على التكيف السريع واستغلال الموارد المحدودة بفعالية عالية.
قوة تفجيرية مضاعفة
من جانبه قال سامي العجرمي، أحد الذين صمدوا في معسكر جباليا خلال الحصار الأخير في تشرين الأول/أكتوبر 2024، إن قوة الانفجارات التي خلفتها الروبوتات المفخخة كانت هائلة تفوق أي صاروخ اعتيادي. وأضاف في حديثه للميادين نت أن العمليات جرت بالقرب من المستشفى الإندونيسي، في أحياء تل الزعتر ومدينة الشيخ زايد، حيث كانت قوة التفجيرات أكبر بثلاث أو أربع مرات من صواريخ F16.
وأكد العجرمي أن الجيش الإسرائيلي لم يكتفِ بالقصف التقليدي، بل اعتمد على روبوتات مفخخة قادرة على تدمير أربعة إلى خمسة منازل كاملة في المرة الواحدة، مشيراً إلى أن معظم معسكر جباليا وأحياء الزعتر والشيخ زايد والفالوجا تعرضت لهذا النمط من التدمير خلال ثلاثة أشهر فقط. وبيّن أن صوت الانفجار وقوته كانا هائلين لدرجة أنه شعر أن عقله وجسده قد ينفجران مع كل تفجير.
ومن الجدير ذكره أن طواقم الدفاع المدني سجلت استخدام الاحتلال للروبوتات في الآونة الأخيرة بشكل مكثف، وفي تسريع وتيرة عمليات الهدم والنسف في أحياء جباليا البلد والنزلة وأبو إسكندر والزيتون ومحاور التقدم نحو مركز مدينة غزة.