في قلب أوروبا الشرقية، وعلى تخوم التاريخ والجغرافيا، تتصاعد أزمة جديدة تهدد بإعادة تشكيل موازين القوى العالمية. فبينما تتواصل الحرب الروسية الأوكرانية منذ عام 2022، برزت خطوة مثيرة للجدل: إعلان دول غربية نيتها نشر قوات عسكرية على الأراضي الأوكرانية، في إطار ما يُسمى بـ”تحالف الراغبين” لدعم كييف. خطوةٌ اعتبرها الغرب ضرورية لتعزيز الأمن الأوروبي، بينما وصفتها موسكو بأنها استفزاز مباشر، وتدخل غير مقبول في منطقة تعتبرها جزءاً من مجالها الحيوي.
نغوص في عمق هذه الأزمة من منظور روسي لفهم أسباب الرفض القاطع الذي تبديه موسكو تجاه هذه الخطوة، وما تحمله فعلياً من مخاطر وتداعيات محتملة، إلى جانب الأهداف الكامنة خلفها، وما إذا كانت تمهيداً لحل سياسي أم بداية لمسار تصعيدي جديد يعيد رسم ملامح الصراع في المنطقة..
من الدفاع إلى التهديد
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، سعت الدول الغربية إلى دعم كييف عسكرياً واقتصادياً وسياسياً. لكن إعلان 26 دولة أوروبية استعدادها لنشر قوات على الأراضي الأوكرانية، سواء للتدريب أو للدعم اللوجستي أو حتى للانتشار المباشر، شكّل تحولاً نوعياً في طبيعة هذا الدعم.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصف هذه القوات بأنها “قوة طمأنة”، تهدف إلى حماية أوكرانيا في حال التوصل إلى وقف إطلاق نار. لكن روسيا ترى في ذلك تهديداً مباشراً لأمنها القومي، وتدخلاً في منطقة تعتبرها جزءاً من مجالها الاستراتيجي منذ عقود.
حين يُعاد تعريف السيادة على حدود النار
لم تكن تصريحات الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، مجرد كلمات عابرة في مؤتمر دفاعي في براغ. حين قال: “لماذا نكترث لموقف روسيا من مسألة القوات في أوكرانيا؟ هذا بلد مستقل، القرار بذلك لا يعود لهم”، كان يعيد صياغة مفهوم السيادة بطريقة تتجاهل عمق التداخل الجيوسياسي والتاريخي بين روسيا وأوكرانيا.
من وجهة نظر موسكو، فإن أوكرانيا ليست مجرد دولة مستقلة، بل هي جزء من المجال الحيوي الروسي، وامتداد تاريخي وثقافي لا يمكن فصله عن الأمن القومي الروسي. لذلك، فإن أي وجود عسكري غربي على أراضيها يُعد تجاوزاً للخطوط الحمراء، وتهديداً مباشراً لا يمكن القبول به.
الموقف الروسي.. رفض قاطع وتحذير صارم
المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، عبّرت عن موقف موسكو بوضوح: “روسيا ليست لديها أيّ نيّة لمناقشة تدخّل أجنبي في أوكرانيا… أيّاً كان شكله أو صيغته، سيكون غير مقبول بتاتاً وسيقوّض أيّ شكل من أشكال الأمن”.
الرئيس فلاديمير بوتين نفسه شدد على أن أي تسوية للنزاع يجب ألا تأتي على حساب أمن روسيا، مؤكداً أن “أمن أوكرانيا لا يمكن أن يُضمن عبر تهديد أمن روسيا .
وفي كلمته في الجلسة العامة لمنتدى الشرق الاقتصادي بمدينة فلاديفوستوك أمس الجمعة ، شدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن وجود قوات أجنبية على الأراضي الأوكرانية بعد التوصل إلى اتفاق سلام شامل سيكون غير مبرر، بل عديم الجدوى. وأكد أن روسيا ستلتزم بشكل كامل بأي اتفاقيات وضمانات أمنية يتم التوصل إليها، بشرط أن تكون هذه الضمانات متبادلة وتشمل كلا الطرفين، روسيا وأوكرانيا.
بوتين أشار إلى أن أي قوات أجنبية تظهر في أوكرانيا ستُعتبر أهدافًا مشروعة في حال استمرار النزاع، محذرًا من أن تجاهل المخاوف الروسية الأمنية سيؤدي إلى نتائج خطيرة. كما انتقد غياب الجدية في مناقشة الضمانات الأمنية مع موسكو، رغم أن كييف، التي كانت قد استبعدت التواصل مع روسيا، بدأت مؤخرًا تطلب فتح قنوات الحوار.
وفي سياق حديثه عن مستقبل أوكرانيا، اعتبر بوتين أن انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي خيار مشروع، لكنه شدد على أن الانضمام إلى حلف الناتو يمس بشكل مباشر المصالح الأمنية الروسية. وأوضح أن لكل دولة الحق في تحديد توجهاتها الأمنية، ولكن ليس على حساب أمن الدول الأخرى، مشيرًا إلى أن قرار أوكرانيا بشأن الناتو لا يمكن أن يُتخذ دون مراعاة مصالح روسيا.
أوكرانيا أرض صراع بين القوى
من منظور روسي، فإن نشر قوات غربية في أوكرانيا ليس مجرد دعم لحليف، بل هو محاولة لتوسيع نفوذ الناتو على حدود روسيا. فالتاريخ الروسي مليء بالحساسيات تجاه التوسع الغربي، منذ غزو نابليون إلى الحرب الباردة.
موسكو ترى أن الغرب يستخدم أوكرانيا كأداة لاحتواء روسيا، وتحويلها إلى قاعدة انطلاق للعمليات الاستخباراتية والعسكرية ضدها. وهذا ما عبّرت عنه زاخاروفا حين وصفت الضمانات الأمنية لكييف بأنها “ضمانات خطر للقارة الأوروبية”.
المخاطر والتداعيات
إذا تم نشر قوات غربية في أوكرانيا، فإن ذلك قد يؤدي إلى تصعيد غير مسبوق. روسيا قد تعتبر هذه القوات أهدافاً مشروعة في حال اندلاع أي مواجهة، مما يفتح الباب أمام صدام مباشر بين روسيا والناتو.
كما أن وجود قوات متعددة الجنسيات على الأراضي الأوكرانية قد يخلق حالة من الفوضى العسكرية، ويزيد من تعقيد أي مفاوضات سلام مستقبلية. فبدلاً من أن تكون أوكرانيا طرفاً مستقلاً، ستصبح ساحة لصراع القوى الكبرى.
أهداف الغرب المعلنة والمضمرة
من منظور روسي، لا يُنظر إلى نشر القوات الغربية في أوكرانيا على أنه مجرد خطوة دفاعية أو محاولة لطمأنة كييف، بل يُقرأ كتحرك استراتيجي يحمل في طياته نوايا توسعية واضحة. فموسكو ترى أن هذه الخطوة ليست سوى محاولة لتثبيت النفوذ الغربي في المنطقة، وتكريس واقع جديد على الأرض قبل أي تسوية محتملة، واقع يُقصي روسيا من محيطها التاريخي ويضعها أمام جدار عسكري وسياسي لا يمكن تجاهله.
الخطاب الغربي الذي يتحدث عن الردع والحماية لا يُقنع القيادة الروسية، التي تعتبر أن الهدف الحقيقي هو تقويض قدرتها على التأثير في المنطقة، وإضعاف حضورها الجيوسياسي، وتحويل أوكرانيا إلى منصة متقدمة لحلف الناتو على حدودها المباشرة. هذا التفسير لا ينبع من شكوك عابرة، بل من قراءة عميقة لتاريخ التحركات الغربية، التي غالباً ما تبدأ تحت شعار الأمن وتنتهي بفرض الهيمنة.
لذلك، فإن روسيا لا ترى في هذه القوات ضماناً للاستقرار، بل تهديداً مباشراً لأمنها القومي، ومحاولة لإعادة رسم الخريطة الأوروبية دون مراعاة لتوازنات القوى أو لحقها المشروع في حماية مجالها الحيوي.
التأثير على أوكرانيا.. بين الدعم والتبعية
رغم أن كييف ترحب بهذه الخطوة، إلا أن وجود قوات أجنبية على أراضيها قد يُضعف من استقلالية القرار الأوكراني. فبدلاً من أن تكون أوكرانيا صاحبة القرار، ستصبح رهينة لتوازنات القوى بين واشنطن وبروكسل وموسكو.
كما أن هذا الوجود قد يُغري بعض الأطراف الأوكرانية بالتصعيد، بدلاً من التفاوض، مما يُطيل أمد الحرب ويزيد من معاناة الشعب الأوكراني.
صراع الإرادات
الرد الروسي على خطوة نشر قوات غربية في أوكرانيا لن يقتصر على التصريحات الدبلوماسية، بل من المرجح أن يتخذ طابعاً عملياً متعدد الأوجه. موسكو قد تتجه إلى تعزيز وجودها العسكري على طول المناطق الحدودية، وتكثيف عملياتها في شرق أوكرانيا، في رسالة واضحة بأن أمنها القومي ليس مجالاً للمساومة. إلى جانب ذلك، قد تلجأ إلى استخدام أدوات الضغط الاقتصادي والسياسي، مستهدفة الدول المشاركة في ما يُسمى بـ”قوة الطمأنة”، عبر إعادة تقييم علاقاتها الثنائية معها، أو عبر تصعيد في ملفات حساسة مثل الطاقة والأمن السيبراني، حيث تمتلك روسيا أوراقاً استراتيجية قادرة على قلب المعادلة. هذا الرد، الذي يجمع بين الحزم العسكري والمرونة السياسية، يعكس إصرار موسكو على أن أمنها لا يُناقش، ولا يُهدد، ولا يُفرض عليه واقع جديد دون موافقتها.
بين السلام والتصعيد.. من يملك القرار؟
في النهاية، فإن نشر قوات غربية في أوكرانيا يُعد خطوة محفوفة بالمخاطر، وقد تُقوّض أي فرصة للسلام الحقيقي. من منظور روسي، فإن هذه الخطوة ليست دعماً لأوكرانيا، بل استفزازاً لروسيا، ومحاولة لتغيير قواعد اللعبة بالقوة.
القرار لا يعود فقط للغرب، ولا حتى لأوكرانيا، بل هو جزء من صراع أكبر على مستقبل النظام الدولي. وإذا لم تُؤخذ المخاوف الروسية بجدية، فإن العالم قد يجد نفسه أمام مواجهة لا تُحمد عقباها.
هل نحن أمام بداية لتصعيد جديد؟
الجواب لا يزال معلقاً بين براغ وباريس… وبين موسكو وواشنطن.