هذا الحدث، الذي يبدو للوهلة الأولى كخلاف تجاري، يكشف عن طبقات أعمق من التوترات بين واشنطن وبروكسل، ويفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية: هل ما نشهده هو بداية فصل جديد من الحرب التجارية؟ أم أنه مجرد حلقة أخرى في مسلسل الهيمنة الأميركية على النظام العالمي؟
خلفية النزاع.. غرامة أوروبية على “غوغل”
في خطوة جريئة، أعلنت المفوضية الأوروبية فرض غرامة قدرها 2.95 مليار يورو (ما يعادل 3.47 مليارات دولار) على شركة “غوغل”، متهمة إياها بإساءة استخدام موقعها المهيمن في سوق الإعلانات الرقمية، ومنح الأفضلية لخدماتها على حساب المنافسين. هذه الغرامة ليست الأولى من نوعها، إذ سبق للاتحاد الأوروبي أن فرض على “غوغل” غرامات تجاوزت 10 مليارات دولار في العقد الماضي.
المفوضية الأوروبية بررت قرارها بأنه يأتي في إطار حماية المنافسة داخل السوق الأوروبية المكونة من 27 دولة، مؤكدة أن “غوغل” شوهت قواعد اللعبة العادلة. أما الشركة، فقد سارعت إلى إعلان نيتها الطعن في القرار، معتبرة أن العقوبة “غير مبررة” و”تستهدف الابتكار الأميركي”.
ترامب؛ من الغضب إلى التهديد
رد ترامب لم يتأخر. ففي منشوره على “تروث سوشال”، وصف الغرامة بأنها “ظالمة”، وهدد بإطلاق آلية رسوم جمركية عقابية إذا لم يتراجع الاتحاد الأوروبي عن قراراته. بل ذهب أبعد من ذلك، ملوّحاً باستخدام المادة 301 من قانون التجارة الأميركي، وهي أداة قانونية تتيح للرئيس فرض عقوبات تجارية إذا ثبت أن دولة ما تمارس سياسات تجارية “غير مبررة” أو “تقيّد التجارة الأميركية”.
ترامب كتب: “لن نسمح لهذه الإجراءات التمييزية أن تستمر… لا يمكن أن يحدث هذا للعبقرية الأميركية غير المسبوقة”، في إشارة إلى شركات التكنولوجيا التي يعتبرها رموزاً للابتكار الأميركي.
“أبل” و”أمازون” أدوات للنفوذ الأميركي
ما يثير الانتباه في هذا النزاع ليس فقط حجم الغرامة أو لهجة التهديد، بل السياق الأوسع الذي يتحرك فيه ترامب. الولايات المتحدة، منذ عقود، تمارس نفوذاً واسعاً على النظام الاقتصادي العالمي، وتستخدم أدواتها التجارية والدبلوماسية لحماية مصالحها، حتى لو كان ذلك على حساب حلفائها التقليديين.
شركات مثل “غوغل” و”أبل” و”أمازون” ليست مجرد كيانات اقتصادية، بل أدوات للنفوذ الأميركي في العالم الرقمي. حين يهدد الاتحاد الأوروبي هذه الشركات، فإن واشنطن ترى في ذلك تهديداً مباشراً لنفوذها، وترد عليه كما لو أنه عدوان سياسي.
أوروبا بين المطرقة والسندان الامريكي
الاتحاد الأوروبي، من جهته، يجد نفسه في موقف معقد. فهو يسعى لحماية سوقه الداخلية من هيمنة الشركات الأميركية، لكنه في الوقت نفسه لا يريد الدخول في مواجهة مباشرة مع واشنطن. الغرامات التي يفرضها على “غوغل” و”أبل” تعكس رغبة أوروبية في فرض قواعد عادلة، لكنها أيضاً تكشف عن ضعف في القدرة على مواجهة الردود الأميركية القاسية.
التهديدات الأميركية بفرض رسوم جمركية قد تؤثر على صادرات أوروبية حيوية، مثل السيارات والمنتجات الصناعية، ما يضع بروكسل أمام معادلة صعبة: هل تستمر في مواجهة الشركات الأميركية؟ أم تتراجع لتجنب التصعيد؟
التكنولوجيا كأداة للنفوذ السياسي
في عالم اليوم، لم تعد التكنولوجيا مجرد صناعة، بل أصبحت ساحة للصراع الجيوسياسي. الشركات الأميركية الكبرى تسيطر على البنية التحتية الرقمية العالمية، من محركات البحث إلى شبكات التواصل الاجتماعي، ومن خدمات الإعلانات إلى الذكاء الاصطناعي.
هذا النفوذ يمنح واشنطن قدرة غير مسبوقة على التأثير في السياسات العالمية، ويجعل أي محاولة لتنظيم هذه الشركات بمثابة تحدٍ للهيمنة الأميركية. أوروبا، رغم قوتها الاقتصادية، لا تملك شركات تكنولوجية تضاهي “غوغل” أو “فيسبوك”، ما يجعلها في موقع الطرف المنظم لا الطرف المسيطر.
هل نحن أمام حرب تجارية رقمية؟
التهديدات الأميركية، والغرامات الأوروبية، والتوترات المتصاعدة… كلها مؤشرات على أن العالم يدخل مرحلة جديدة من الصراع التجاري، لكن هذه المرة في الفضاء الرقمي. لم تعد الحروب التجارية تقتصر على الصلب والألومنيوم، بل أصبحت تشمل البيانات والإعلانات والخوارزميات.
ترامب، الذي سبق أن استخدم المادة 301 ضد الصين في 2018، يبدو مستعداً لتكرار السيناريو مع أوروبا. وإذا ما أطلق فعلاً تحقيقاً تجارياً ضد الاتحاد الأوروبي، فقد نشهد موجة جديدة من الرسوم الجمركية، وردود فعل أوروبية، وربما حتى إعادة النظر في الاتفاقيات التجارية القائمة.
التداعيات المحتملة من الاقتصاد إلى السياسة
إذا ما تصاعد النزاع، فإن التداعيات ستكون واسعة. على الصعيد الاقتصادي، قد تتأثر الشركات الأوروبية والأميركية على حد سواء، وتتعطل سلاسل التوريد، وتزداد تكلفة المنتجات. أما على الصعيد السياسي، فقد يتوتر التحالف الغربي، ويضعف التنسيق بين واشنطن وبروكسل في ملفات حساسة مثل الأمن والدفاع والطاقة.
كما أن هذا النزاع قد يدفع دولاً أخرى، مثل الصين والهند، إلى استغلال الفرصة لتعزيز نفوذها في السوق الرقمية، مستفيدة من الانقسام بين القطبين الغربيين.
صراع يمتد إلى الدول النامية
النزاع بين أميركا وأوروبا لا يؤثر فقط على الطرفين، بل يمتد إلى الدول النامية التي تعتمد على التكنولوجيا الأميركية، وتطمح إلى دخول السوق الأوروبية. هذه الدول تجد نفسها في موقف صعب: هل تنحاز إلى واشنطن أم بروكسل؟ وهل يمكنها تطوير بدائل محلية؟
الواقع أن الهيمنة الأميركية تجعل من الصعب على الدول النامية بناء منظومات رقمية مستقلة. أما أوروبا، فهي تقدم نموذجاً أكثر تنظيماً، لكنه أقل جاذبية من حيث الابتكار والتمويل. وبينما تتصارع القوى الكبرى على من يضع قواعد اللعبة، تبقى الدول النامية في موقع المتفرج، أو في أفضل الأحوال، اللاعب الثانوي الذي يُطلب منه الامتثال لا المشاركة.
لكن هذا الواقع قد يتغير. فمع صعود قوى جديدة مثل الهند والبرازيل، وظهور شركات تكنولوجية محلية في أفريقيا وجنوب شرق آسيا، بدأت ملامح عالم رقمي متعدد الأقطاب تتشكل. وإذا استمرت أوروبا في مواجهة الهيمنة الأميركية، فقد تجد حلفاء جدد في هذه الدول، مما يعيد رسم خريطة النفوذ الرقمي العالمي.
بين الهيمنة والعدالة
في نهاية المطاف، فإن ما نشهده ليس مجرد خلاف تجاري، بل صراع بين نموذجين: النموذج الأميركي الذي يقدّس حرية السوق ويمنح الشركات الكبرى نفوذاً هائلاً، والنموذج الأوروبي الذي يسعى لتنظيم السوق وحماية المنافسة.
ترامب، في تهديده، لا يدافع فقط عن “غوغل”، بل عن فكرة أن الابتكار الأميركي يجب أن يبقى فوق المساءلة. أما أوروبا، فهي تحاول أن تقول إن القواعد يجب أن تطبق على الجميع، مهما كان حجمهم أو جنسيتهم.
السؤال الذي يبقى: هل يمكن للعالم أن يجد توازناً بين الابتكار والعدالة؟ بين الهيمنة والتنظيم؟ أم أن الصراع سيستمر، وتبقى التكنولوجيا ساحة مفتوحة للنفوذ السياسي والاقتصادي؟