في زمن تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية، وتتشابك فيه المصالح الدولية، لم يعد البحر الكاريبي مجرد ممر تجاري أو وجهة سياحية، بل بات ساحة مواجهة مفتوحة بين إرادة الشعوب في تقرير مصيرها، وبين قوة عظمى تسعى إلى فرض سيطرتها تحت ذرائع متعددة. ما يحدث اليوم بين الولايات المتحدة وفنزويلا، وامتداده إلى كوبا وبورتوريكو ليس مجرد خلاف دبلوماسي أو مناوشة عابرة، بل هو فصل جديد من صراع طويل بين الاستقلال الوطني والهيمنة الخارجية. في قلب هذا المشهد، يبرز ترامب كمحرك رئيسي للتصعيد، عبر تعزيز الوجود العسكري الأميركي في البحر الكاريبي، ونشر طائرات مقاتلة من طراز F-35 في بورتوريكو، وتحريك مدمرات وغواصات نووية في المياه الإقليمية. هذه التحركات، التي تروّج لها واشنطن تحت شعار “مكافحة الجريمة”، تثير قلقًا إقليميًا واسعًا، وتُقابل بردود فعل غاضبة من دول المنطقة وخاصة فنزويلا وكوبا اللتين تريان فيها محاولة جديدة لإخضاع إرادة الشعوب.
طائرات وصواريخ في وجه السيادة
بحلول الأسبوع الأول من سبتمبر / أيلول 2025، وصلت عشر طائرات مقاتلة أميركية إلى بورتوريكو، في خطوة اعتبرها مراقبون تصعيدًا غير مسبوق في الوجود العسكري الأميركي جنوب البحر الكاريبي. هذه التعزيزات جاءت بعد أيام من تنفيذ ضربة بحرية أميركية استهدفت سفينة فنزويلية في المياه الدولية، ما أسفر عن مقتل 11 شخصًا. ورغم أن واشنطن برّرت العملية بأنها “استهداف لعناصر إجرامية”، فإن حجم القوة المستخدمة، وموقع العملية، يثيران تساؤلات عميقة حول الأهداف الحقيقية.
فنزويلا، التي لم تتأخر في الرد، اعتبرت هذه التحركات «استفزازًا مباشرًا»، وأطلقت حملة تعبئة وطنية ضخمة شملت أكثر من 8 ملايين مواطن ضمن «الميليشيا البوليفارية الوطنية»، وهي قوات احتياط مدنية أنشأها الرئيس الراحل هوغو شافيز. هذه التعبئة لم تكن مجرد رد فعل، بل إعلان واضح بأن الشعب الفنزويلي لن يقبل أن يُدار من الخارج، وأنه مستعد للدفاع عن سيادته بكل الوسائل.
كوبا.. صوت الحكمة والمقاومة
كوبا، التي خبرت لعقود طويلة سياسات الحصار والضغط الأميركي، لم تتأخر في إعلان موقفها. فقد وصفت الحكومة الكوبية التعزيزات الأميركية بأنها «استعراض عدواني للقوة ضد سيادة شعوب القارة»، مؤكدة أن ربط واشنطن الحكومة الفنزويلية بمنظمات إجرامية هو «ذريعة سخيفة لا أساس لها».
هذا الموقف الكوبي لا ينبع فقط من تضامن سياسي، بل من تجربة تاريخية عميقة في مقاومة التدخلات الخارجية. كوبا تعرف جيدًا أن ما يحدث في الكاريبي اليوم هو محاولة لإعادة إنتاج نماذج الهيمنة القديمة، تحت شعارات جديدة. وهي، كما كانت دائمًا، تقف إلى جانب الشعوب التي تقاوم، وتدافع عن حقها في تقرير مصيرها.
الشعوب اللاتينية.. ذاكرة المقاومة لا تموت
ما يحدث في الكاريبي يمسّ كل شعوب أميركا اللاتينية التي عانت لعقود من التدخلات الأميركية. من تشيلي إلى نيكاراغوا، ومن غواتيمالا إلى بوليفيا، هناك ذاكرة جماعية حافلة بالانقلابات المدعومة من واشنطن، وبالأنظمة الديكتاتورية التي جرى تثبيتها لحماية المصالح الأميركية.
هذه الشعوب، التي بدأت تستعيد زمام المبادرة عبر حكومات تقدمية وانتخابات ديمقراطية، ترى في ما يحدث اليوم تهديدًا مباشرًا لمكتسباتها، ومحاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ولذلك، فإن التضامن مع البلدان المستهدفة بالعدوان الأمريكي ليس مجرد موقف سياسي، بل هو تعبير عن إرادة جماعية في الدفاع عن الاستقلال والكرامة.
واشنطن في مأزق.. القوة لا تصنع الشرعية
رغم كل ما تملكه الولايات المتحدة من أدوات ضغط، فإنها تواجه اليوم مأزقًا حقيقيًا. فسياساتها لم تُثمر سوى مزيد من العزلة، ومزيد من التوترات. حتى داخل أميركا نفسها، بدأت الأصوات المعارضة لهذه السياسات تتصاعد، من أكاديميين إلى مشرّعين، ومن منظمات حقوقية إلى ناشطين.
الرهان على القوة العسكرية لإسقاط الأنظمة السياسية لم يعد مجديًا، خصوصًا في ظل عالم متعدد الأقطاب، حيث بدأت دول مثل الصين وروسيا والهند تلعب أدوارًا متزايدة في دعم السيادة الوطنية للدول المستهدفة. كما أن الشعوب باتت أكثر وعيًا، وأكثر قدرة على التمييز بين التدخلات “الإنسانية” وبين محاولات الهيمنة المقنّعة.
التاريخ يعيد نفسه..من بنما إلى كاراكاس
الذاكرة اللاتينية لا تنسى. ففي عام 1989، غزت الولايات المتحدة بنما بزعم جلب رئيسها مانويل نورييغا إلى العدالة، مستخدمة أكثر من 20 ألف جندي. واليوم، يتكرر المشهد، لكن هذه المرة في فنزويلا، وبأدوات أكثر تطورًا، وبذرائع أكثر تعقيدًا.
لكن الفرق أن فنزويلا اليوم ليست وحدها. فإلى جانب كوبا، هناك شعوب وقوى سياسية ترفض هذا النهج، وتدرك أن السيادة لا تُمنح، بل تُنتزع. كما أن فنزويلا، رغم التحديات، تمتلك منظومة دفاعية وشعبًا تعبويًا قادرًا على الصمود، وعلى تحويل أي عدوان إلى فرصة لتعزيز الوحدة الوطنية.
مبادرات تفضح السياسات الامريكية
في ظل هذا التصعيد، برزت مبادرات شعبية ودبلوماسية من داخل فنزويلا وخارجها، تهدف إلى فضح السياسات الأميركية، وتعبئة الرأي العام العالمي ضدها. فنزويلا لم تكتف بالرد العسكري، بل أطلقت حملة إعلامية ودبلوماسية واسعة، شارك فيها مثقفون ونشطاء من مختلف أنحاء أميركا اللاتينية.هذه المقاومة الشعبية، التي تتجاوز الجيوش والسلاح، تعكس وعيًا متقدمًا بأن المعركة الحقيقية هي معركة سرديات، ومعركة كرامة، ومعركة حق في تقرير المصير.
السيادة لا تُستورد والشعوب لا تهزم
من خلال هذا التصعيد، يمكن استخلاص درس جوهري: السيادة لا تُمنح من الخارج، ولا تُستورد عبر الاتفاقيات، بل تُبنى من الداخل، عبر إرادة شعبية حرة، ومؤسسات وطنية قوية، ومشروع سياسي واضح. فنزويلا وكوبا، رغم كل التحديات، تقدمان نموذجًا في هذا السياق، نموذجًا قد لا يكون مثاليًا، لكنه حقيقي، وصادق، ومبني على تضحيات شعبية لا تُقدّر بثمن.
وهكذا في لحظة تاريخية فارقة، يقف البحر الكاريبي شاهدًا على صراع الإرادات. من جهة، قوة عظمى تسعى إلى فرض إرادتها بالقوة، ومن جهة أخرى، شعوب قررت أن تقول «لا»، وأن تدافع عن حقها في تقرير مصيرها. فنزويلا وكوبا و رغم الحصار والتهديدات، ترفضان الخضوع، وتؤكدان أن الكرامة الوطنية لا تُقصف بالصواريخ، ولا تُغرق في المياه الدولية.
هذا الصراع، الذي يتجاوز الجغرافيا، هو صراع بين من يؤمن بأن العالم يجب أن لا يُدار من غرفة في واشنطن وأن لكل شعب الحق في أن يختار طريقه، وأن يكتب تاريخه بيده.