تُعد السينما عالماً تخيلياً ساحراً يتيح للجمهور الهروب المؤقت من تحديات الحياة اليومية، وقد حظيت هذه الصناعة الفنية بمكانة رفيعة جعلت لها يوماً وطنياً وعالمياً للاحتفاء بها. في إيران، صادف أمس الجمعة 12 سبتمبر «يوم السينما الوطني»، وهو مناسبة تستحضر دخول السينما إلى البلاد قبل أكثر من قرن، وتُكرّم إنجازات الإيرانيين في هذا الفن العالمي. وهو أكثر من مجرد مناسبة فنية؛ إنه لحظة تأمل في مسيرة سينما بدأت بكاميرا جُلبت من أوروبا قبل أكثر من قرن، وتحولت إلى مرآة للهوية الثقافية الإيرانية، ومنصة عالمية لسرد الحكايات الإنسانية، والاجتماعية، والسياسية.
تحتفل إيران بيوم السينما الوطني، مناسبة لا تستحضر فقط بدايات الفن السابع في البلاد، بل تُسلّط الضوء على تحولات السينما الإيرانية من التعبير الفني إلى المقاومة الثقافية.
بدايات السينما في إيران
دخلت السينما إلى إيران عام 1900 ميلادي، حينما جلب مظفر الدين شاه أول كاميرا تصوير إلى البلاد، وكان إبراهيم خان عکاسباشي أول مصور سينمائي إيراني. في العام نفسه، تأسست أول صالة عرض سينمائي تحت اسم «سينما سولي» في مدينة تبريز.
ومن أول فيلم صامت «آبي ورابي» عام 1309، إلى أول فيلم ناطق دختر لر عام 1312، ومن مدرسة التمثيل التي أسسها أوانس أوغانيانس، إلى مهرجانات دولية حصدت فيها السينما الإيرانية جوائز مرموقة، كانت الكاميرا الإيرانية دائماً أداة تعبير، مقاومة، وتوثيق حتى اليوم.
السينما بعد الثورة.. بين القيود والانطلاق
بعد الثورة الإسلامية عام 1979، واجهت السينما تحديات كبيرة، لكن دعم السلطات لفيلم كاو لداريوش مهرجوي شكّل نقطة تحول. في الثمانينات، بدأت مرحلة «سينما المقاومة»، حيث ظهرت أعمال تتناول الحرب، الهوية، والعدالة الاجتماعية. وفي التسعينات، ومع تحرير سوق الفيديو، دخلت السينما مرحلة جديدة من الحوار بين التقليد والحداثة، لتصبح أكثر تنوعاً وجرأة.
السينما الإيرانية اليوم.. توثيق الحرب والعدوان
السينما الإيرانية لا تزال نابضة بالحياة، حيث يُعد كل مشهد فيها رحلة إلى أعماق النفس الإنسانية. إنها فن يتجاوز اللغة، ويُجسّد الحب، والتعاطف، والإنسانية، والمسؤولية الاجتماعية.
ورغم القيود، يواصل صانعو الأفلام الإيرانيون تقديم أعمال تُفتخر بها، وتحظى باعتراف عالمي، وفي ظل التصعيد والعدوان الصهيوني الأخير ضد إيران، تحوّلت السينما إلى جبهة ثقافية توثّق الأحداث الأمنية والسياسية، وتُقدّم الرواية الإيرانية بلغة الفن.
«حادث منتصف الليل»
الفيلم من إخراج محمدحسين مهدويان، ويروي واقعة حقيقية خلال الحرب الصهيونية المفروضة الأخيرة التي استمرت 12 يوماً، حيث تم العثور على قنبلة غير منفجرة أمام مستشفى السيدة فاطمة (ع) في شارع يوسف آباد بطهران. الفيلم يُسلّط الضوء على التهديدات غير المتكافئة، ويُقدّم سرداً إنسانياً وسط أجواء الحرب، ضمن مشروع «سينما الأمن الوطني» الذي يُعرف به مهدويان.
«بابا»
الفيلم من إخراج هادي محمدبور وحصل على ترخيص الإنتاج، ومن المقرر بدء تصويره منتصف سبتمبر. يركّز الفيلم على دور الدفاع الجوي للجيش والحرس الثوري، إلى جانب المشاركة الشعبية في مواجهة العدوان الصهيوني الأخير. يسعى الفيلم إلى تقديم صورة واقعية ومؤثرة عن الوحدة الوطنية والقدرات الدفاعية، ويُوجّه رسالته إلى الجمهور المحلي والدولي.
ومن جهة أخرى بعد غياب عن الساحة السينمائية، يُحتمل أن يعود المخرج عليرضا نجفزاده بفيلم جديد يتناول الحرب الصهيونية المفروضة الأخيرة، وقد يُعرض ضمن فعاليات مهرجان فجر السينمائي لهذا العام، ليكون أحد أبرز الإنتاجات المرتقبة التي توثق العدوان الصهيوني الأخير على إيران.
«أطفال الحرب»
بدأت مجموعة «مهوا» في إنتاج أول فيلم أنيميشن سينمائي طويل بعنوان «أطفال الحرب»، يُقدّم سرداً إنسانياً من منظور الأطفال الذين عاشوا أجواء الحرب الصهيونية المفروضة. يسعى الفيلم إلى مخاطبة الجمهور العالمي بلغة البراءة والمقاومة، ويُعد خطوة جديدة في مجال الرسوم المتحركة الإيرانية، ضمن رؤية فنية تجمع بين التكنولوجيا الحديثة والسرد المحلي.
السينما كأداة دبلوماسية وثقافية
لم تعد السينما الإيرانية مجرد فن، بل أصبحت جزءاً من الدبلوماسية الثقافية، تُستخدم لبناء الجسور، وتقديم الرواية الإيرانية في المحافل الدولية. وقد أعلنت منظمة السينما الإيرانية أن مهرجانات هذا العام، بما فيها مهرجان فجر ومهرجان أفلام الأطفال، ستخصص أقساماً خاصة لعرض الأعمال المرتبطة بالحرب الصهيونية المفروضة، في خطوة لدعم الإنتاجات الوطنية التي تُجسّد الواقع السياسي والأمني.
السينما والدبلوماسية الثقافية
من جهة أخرى وفي سياق تعزيز العلاقات الثقافية، التقى رئيس مؤسسة السينما الإيرانية، رائد فريد زادة، بنظيره الأرمني دافيت بانوكيان، في أول زيارة رسمية له إلى إيران. اللقاء الذي عُقد في متحف السينما، جاء عقب توقيع مذكرة تفاهم سينمائية بين البلدين خلال زيارة الرئيس الإيراني إلى يريفان. وأكد فريد زادة أهمية الاستفادة من هذه الاتفاقية في مجالات التعليم، الإنتاج، وتبادل الأعمال السينمائية، مشيراً إلى مشروع مدرسة صيفية سينمائية في أرمينيا.
من جانبه، دعا بانوكيان المنتجين الإيرانيين للمشاركة في مهرجان يركّز على الأفلام الكلاسيكية، مؤكداً أهمية العولمة الثقافية مع الحفاظ على الهوية الوطنية، ومعبّراً عن أمله في أن تسهم المشاريع المشتركة في تعريف العالم بالثقافتين الإيرانية والأرمنية.
الكاميرا الإيرانية.. مقاومة متعددة الأبعاد
في يومها الوطني، تُثبت السينما الإيرانية أنها ليست فقط مرآة للمجتمع، بل صوتاً عالمياً للعدالة، والكرامة، والمقاومة. ورغم القيود، يواصل صانعو الأفلام الإيرانيون تقديم أعمال تُفتخر بها، تُعرض في مهرجانات العالم، وتُترجم إلى لغات متعددة، لتُثبت أن السينما الإيرانية لا تزال نابضة بالحياة، وقادرة على التعبير عن الإنسان، الوطن، والحق.