حين تصبح الأكاديميا أداة للعدالة في الدفاع عن غزة

مقاطعة الكيان الصهيوني تتوسع وتعيد تشكيل المشهد العالمي

الحرب على غزة ليست مجرد نزاع عسكري، بل مأساة إنسانية تتكرر، وتثير موجات من الغضب العالمي. ومع كل تصعيد، تتجدد الأسئلة حول دور المؤسسات المختلفة في دعم أو معارضة الاحتلال. الجامعات الصهيونية، التي تدعي انها منارات للبحث العلمي، باتت تواجه اتهامات بالتواطؤ، ليس فقط من خلال  الصمت، بل عبر المشاركة الفعلية في مشاريع بحثية تخدم الجيش الصهيوني، أو تبرر سياساته.

في عالمٍ باتت فيه المعرفة أكثر من مجرد تراكم معلومات، وأصبحت الجامعات منصات لصياغة المواقف الأخلاقية، تبرز ظاهرة المقاطعة الأكاديمية لكيان العدو كحدث مفصلي في تاريخ التعليم العالي العالمي. لم تعد المؤسسات الأكاديمية تكتفي بالحياد، بل باتت تتفاعل مع القضايا الإنسانية والسياسية، وتعيد تعريف دورها في زمنٍ تتقاطع فيه الأخلاق مع السياسة، والبحث العلمي مع العدالة.

 

منذ اندلاع الحرب الصهيونية على غزة، لم تكن ردود الفعل مقتصرة على الحكومات والمنظمات الحقوقية، بل امتدت إلى الجامعات ومراكز البحث، التي بدأت تقطع علاقاتها مع نظيراتها الإسرائيلية، احتجاجاً على ما وصفته بـ”التواطؤ الأكاديمي” مع جرائم الاحتلال. هذه المقاطعة لم تكن وليدة لحظة، بل نتاج تراكمات من الغضب الأخلاقي، والوعي المتزايد بدور الأكاديميا في تشكيل الرأي العام العالمي.

 

ما هي خلفيات هذه الظاهرة ودوافعها  وما هي آثارها، وكيف تحولت الجامعات من مؤسسات تعليمية إلى فاعلين سياسيين في معركة العدالة.

 

جذور الأزمة.. من غزة إلى قاعات الجامعات

 

الحرب على غزة ليست مجرد نزاع عسكري، بل مأساة إنسانية تتكرر، وتثير موجات من الغضب العالمي. ومع كل تصعيد، تتجدد الأسئلة حول دور المؤسسات المختلفة في دعم أو معارضة الاحتلال. الجامعات الصهيونية، التي تدعي انها منارات للبحث العلمي، باتت تواجه اتهامات بالتواطؤ، ليس فقط من خلال  الصمت، بل عبر المشاركة الفعلية في مشاريع بحثية تخدم الجيش الصهيوني، أو تبرر سياساته.

 

هذه الاتهامات لم تأتِ من فراغ، بل استندت إلى تقارير موثقة، كشفت عن تعاون بين بعض الجامعات الصهيونية والمؤسسات العسكرية، في مجالات تتراوح بين الذكاء الاصطناعي والمراقبة، وحتى تطوير أدوات قتالية. هذا التورط دفع الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لكيان العدو  (PACBI) إلى تصعيد مطالبها، والدعوة إلى إنهاء أي تعاون أكاديمي معه، باعتبار أن الصمت الأكاديمي هو شكل من أشكال التواطؤ.

 

الجامعات ؛ من ردود الفعل إلى القرارات

 

لم تكن الاستجابة الدولية بطيئة. فقد بدأت جامعات ومؤسسات أكاديمية حول العالم باتخاذ خطوات عملية، تعكس رفضها لما يحدث في غزة، وتؤكد التزامها الأخلاقي تجاه حقوق الإنسان.

 

في البرازيل، ألغت الجامعة الفيدرالية في سيارا قمة ابتكار كانت مقررة مع جامعة الكيان، في خطوة رمزية لكنها قوية. وفي أوروبا، أعلنت جامعات في النرويج وبلجيكا وإسبانيا قطع علاقاتها مع مؤسسات لكيان العدو، فيما أنهت كلية ترينيتي في دبلن تعاونها خلال الصيف، استجابة لضغوط طلابية وأكاديمية.

 

جامعة أمستردام بدورها أوقفت برنامج تبادل طلابي مع الجامعة العبرية في  مدينة القدس المحتلة، بينما أعلنت الرابطة الأوروبية لعلماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية أنها لن تتعاون مع المؤسسات الأكاديمية الصهيونية، داعية أعضاءها إلى تبني النهج نفسه.

 

هذه القرارات لم تكن مجرد ردود فعل عاطفية، بل جاءت بعد نقاشات داخلية، ومطالبات من هيئات طلابية وأكاديمية، تؤمن بأن الصمت في وجه الجرائم هو مشاركة غير مباشرة فيها.

 

المقاطعة الأكاديمية؛ بين الأخلاق والسياسة

 

المقاطعة الأكاديمية ليست مجرد قرار إداري، بل هي موقف أخلاقي وسياسي. فهي تعكس قناعة بأن المؤسسات التعليمية لا يمكن أن تبقى محايدة في وجه الظلم، وأن للعلم دوراً في تشكيل عالم أكثر عدالة.

 

لكن هذا الموقف يثير جدلاً واسعاً. فالمؤيدون يرون أن المقاطعة وسيلة سلمية للضغط على كيان العدو، وأنها تعكس التزاماً أخلاقياً لا يمكن التنازل عنه. أما المعارضون، فيحذرون من تسييس الأكاديميا، ويعتبرون أن المقاطعة تهدد حرية البحث والتبادل العلمي، وقد تؤدي إلى عزلة معرفية.

في المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، لا تزال المقاطعة محدودة، حيث ترفض بعض الجامعات تبنيها، معتبرة أن ذلك يتعارض مع مبادئها الأكاديمية. لكن هذا الرفض لا يمنع تصاعد النقاش، ولا يوقف موجة الغضب التي تتنامى في أوساط الطلاب والأساتذة.

 

تداعيات المقاطعة على كيان العدو الصهيوني

 

المؤسسات الأكاديمية الصهيونية بدأت تشعر بآثار المقاطعة. فوفق تقارير إعلامية، انخفض عدد الطلاب الأجانب بنسبة كبيرة، وتراجعت الشراكات البحثية، فيما يفكر بعض الباحثين في نقل مختبراتهم إلى الخارج.

 

معهد وايزمان للأبحاث، أحد أبرز المؤسسات العلمية في  كيان العدو، أعلن عن تدمير عشرات المختبرات نتيجة ضربات إيرانية، لكنه أشار أيضاً إلى مواجهة مقاطعة متزايدة، تهدد استمراريته البحثية. هذه العزلة الأكاديمية قد تؤثر على الابتكار العلمي، وتضعف مكانة كيان العدو في المجتمع العلمي العالمي.

 

لكن التأثير لا يقتصر على المؤسسات، بل يمتد إلى السياسات. فالمقاطعة الأكاديمية، حين تتسع، تخلق ضغطاً سياسياً، وتدفع الحكومات إلى إعادة النظر في علاقاتها مع كيان العدو الصهيوني، خصوصاً في مجالات البحث والتعليم.

 

المقاطعة في سياق أوسع

 

المقاطعة الأكاديمية ليست منفصلة عن الحملة الفلسطينية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، التي تدعو إلى مقاطعة شاملة لكيان العدو حتى تنهي احتلالها وتلتزم بالقانون الدولي.

 

هذه الحملة ترى في الأكاديميا الصهيونية ا جزءاً من منظومة الاحتلال، وتعتبر أن المقاطعة الأكاديمية واجب أخلاقي وقانوني. وهي لا تستهدف الأفراد، بل المؤسسات المتورطة، وتدعو إلى مقاطعة انتقائية، تميز بين الباحثين المستقلين والمؤسسات الرسمية.

 

المقاطعة امتدت أيضاً إلى المجال الثقافي، حيث ألغى مهرجان بلجيكي دعوة لقائد أوركسترا لكيان الاحتلال بسبب الحرب على غزة، في خطوة تعكس تزايد الوعي العالمي، ورفض التطبيع الثقافي معه.

 

الجامعات كمنصات للعدالة

 

ما يحدث اليوم يعكس تحوّلاً عميقاً في فهم دور الجامعات. فهي لم تعد مجرد مؤسسات تعليمية، بل باتت منصات للعدالة، وأدوات للتغيير. هذا التحوّل يعيد تعريف العلاقة بين الأكاديميا والسياسة، ويؤكد أن للعلم دوراً في بناء عالم أكثر إنصافاً.

 

الجامعات التي تقاطع كيان العدو تفعل ذلك بدافع الالتزام الأخلاقي. وهي تؤمن بأن المعرفة لا يمكن أن تكون محايدة في وجه الجرائم، وأن الصمت هو شكل من أشكال المشاركة.

 

هذا التحوّل قد يفتح الباب أمام نماذج جديدة من التعليم، أكثر ارتباطاً بالقضايا الإنسانية، وأكثر قدرة على التأثير في السياسات العامة.

 

هل المقاطعة فعالة؟

 

الفعالية تقاس بعدة مؤشرات: حجم الجامعات المشاركة، استجابة كيان العدو، تأثير المقاطعة على السياسات، ومدى استمرارها وتوسعها.

 

حتى الآن، يبدو أن المقاطعة أحدثت تأثيراً ملموساً، لكنها لا تزال بحاجة إلى دعم أوسع، واستمرارية لضمان نتائج طويلة الأمد. التحدي الأكبر يكمن في مواجهة الضغوط السياسية، والحفاظ على استقلالية القرار الأكاديمي.

لكن الأمل يكمن في وعي الطلاب، ونشاطهم المتزايد، وإيمانهم بأن الجامعات يمكن أن تكون صوتاً للعدالة، لا مجرد مؤسسات تعليمية.

 

 حين يصبح العلم مقاومة

 

في زمنٍ تتداخل فيه المعرفة بالسياسة، وتتحول الجامعات من أبراج عاجية إلى منصات للتغيير، تبرز المقاطعة الأكاديمية لكيان العدو كأحد أبرز أشكال التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني. إنها ليست مجرد قرار إداري، بل موقف أخلاقي يعكس ضميراً عالمياً بدأ يستيقظ.

 

قد لا تكون المقاطعة الأكاديمية وحدها كافية لوقف العدوان، لكنها ترسل رسالة قوية: أن العالم يراقب، ويحاسب، ويرفض الصمت. وأن العلم، حين يتحرر من التواطؤ،  يصبح أداة للعدالة، لا مجرد وسيلة للمعرفة.

 

 

المصدر: الوفاق