في زمن تتسارع فيه التحولات التكنولوجية وتتعاظم فيه التحديات الثقافية، يبرز صوت الثقافة كنداء إنساني مشترك، يدعو إلى الحوار والتعددية واحترام الآخر. من سانت بطرسبورغ، المدينة التي احتضنت قروناً من الفكر والفن، اجتمع وزراء ومفكرون وفنانون من أكثر من أربعين دولة ليؤكدوا أن الثقافة ليست ترفاً، بل ضرورة حضارية في مواجهة الانغلاق والتعصب.
في لحظة ثقافية عالمية اتسمت بالحوار والتعددية، شارك وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي سيد عباس صالحي، في الدورة الحادية عشرة للمنتدى الدولي للثقافات المتحدة، الذي انعقد في مدينة سانت بطرسبورغ الروسية، بدعوة رسمية من نظيرته الروسية. الزيارة التي امتدت لأربعة أيام، لم تكن مجرد مشاركة دبلوماسية، بل حملت رؤية ثقافية عميقة، ومواقف فكرية واضحة، ومقترحات عملية تعكس مكانة الوزير الفكرية ودوره في صياغة السياسات الثقافية الإيرانية.
حضور فاعل ومقترحات متعددة الأطراف
في جلسات المنتدى التي اختُتمت بكلمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، طرح صالحي مجموعة من المقترحات التي عكست رؤية الجمهورية الإسلامية الإيرانية للتعددية الثقافية، من بينها دعم اقتصاد الثقافة والفنون، وتطوير الصناعات الإبداعية، وتعزيز الدبلوماسية الثقافية عبر الجمعيات والمؤسسات الشعبية.
وفي كلمته، أكد صالحي على أن «جوهر الثقافة هو الاهتمام بالمظلومين»، مشيراً إلى أن غزة تمثل اليوم مركز المظلومية في العالم، داعياً إلى أن تكون الثقافة أداة للإنفتاح والتضامن الإنساني، لا وسيلة للهيمنة أو التسلط.
لقاءات ثنائية.. من روسيا إلى طاجيكستان
على هامش المنتدى، عقد وزير الثقافة لقاءات ثنائية مع نظرائه، أبرزها مع وزيرة الثقافة الطاجيكية، مطلوبة خان أمان زاده، حيث ناقشا أوجه التعاون الثقافي بين البلدين، واتفقا على تنظيم فعاليات مشتركة، من بينها مسابقات في قراءة «الشاهنامة» ورواية القصص الشعبية، إلى جانب اقتراح تنظيم «أسبوع الثقافة الإيرانية» في طاجيكستان.
كما استعرض الوزيران نتائج الاتفاقيات الثقافية التي تم التوصل إليها خلال زيارة الرئيس الإيراني إلى دوشنبه، مؤكدين أهمية البناء على هذه الإنجازات لتحقيق خطوات مستقبلية مشتركة.
الدراسات الإيرانية في روسيا.. فرصة استراتيجية
من أبرز محطات زيارة وزير الثقافة، زيارته لمعهد المخطوطات التابع لأكاديمية العلوم الروسية، حيث التقى بعدد من الباحثين الروس المتخصصين في الدراسات الإيرانية. وأكد أن الدراسات الإيرانية في روسيا تُعد فرصة مهمة لتعزيز التعاون الثقافي والعلمي بين البلدين، مشيراً إلى أن آفاق هذا التعاون يمكن تطويرها من خلال ثلاثة محاور رئيسية: تعزيز المعلومات، توسيع الاتصالات، وتقوية البنية الاقتصادية لهذا المجال.
واقترح صالحي إنشاء شبكة معرفية تربط بين الموسوعات والمجلات العلمية الإيرانية ومراكز الدراسات الروسية، إلى جانب تفعيل الإعلام الثقافي وتبادل الوثائق والمخطوطات، خاصة أن جزءاً كبيراً من التراث الإيراني محفوظ في روسيا.
وخلال الزيارة، اطلع الوزير على مجموعة من المخطوطات المحفوظة في المعهد، والتي تشمل أكثر من 165 لغة، كما عقد لقاءً ودياً مع عدد من الباحثين الروس المتخصصين في الدراسات الإيرانية.
كما دعا إلى دعم الجيل الجديد من الباحثين الروس في مجال الدراسات الإيرانية، من خلال برامج تدريبية ومشاريع مشتركة، أبرزها إعداد فهرس شامل للمخطوطات الفارسية المحفوظة في روسيا.
في اللقاء، أعربت السيدة بابوفا، رئيسة المعهد منذ عشرين عاماً، عن رغبتها في تعزيز التعاون مع الجامعات والمؤسسات البحثية الإيرانية، مشيرة إلى أن المعهد يحتفظ بثلاثة آلاف مخطوطة فارسية قديمة.
من جانبه، أشار صالحي إلى وجود إمكانيات متبادلة في الجامعات والمؤسسات العلمية في كلا البلدين لتطوير الدراسات الإيرانية، مؤكداً أن مدينة سانت بطرسبورغ تُعد مركزاً مهماً للدراسات الإيرانية، حيث نشأ منها مئات الباحثين خلال القرنين الماضيين، وأسهموا في بناء قاعدة معرفية قوية في هذا المجال.
تعاون متحفي وفني.. الإرميتاج نموذجاً
في زيارته الثانية لمتحف الإرميتاج، بحث الوزير صالحي سبل التعاون في المجالات المعرضية وغير المعرضية، خاصة مع قسم الفن المعاصر، إلى جانب مشاريع بحثية مشتركة تعتمد على مقتنيات المتحف. وأكد أن هذه اللقاءات أرست أساساً متيناً للتعاون المتحفي بين الجانبين.
بوتين: لا ازدهار ثقافي دون انفتاح
دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال الجلسة العامة للمنتدى الدولي للثقافات المتحدة، إلى إنهاء استخدام المعايير المزدوجة في العالم، ووقف محاولات بعض الدول لتهديد ثقافات الدول المستقلة.
جاءت تصريحات بوتين مساء الجمعة في قصر يكاتيرين، بقرية القياصرة في سانت بطرسبورغ، بحضور وزراء ومسؤولين ثقافيين رفيعي المستوى وفنانين من أكثر من 40 دولة، إلى جانب أربع منظمات دولية.
وقد شارك في هذا الحدث وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي سيد عباس صالحي، ممثلاً عن إيران.
وأكد بوتين أن الحفاظ على الهوية الثقافية والتنوع والتقاليد بات ضرورة عالمية، مشدداً على أهمية دعم الابتكار والإبداع الفني بمشاركة المجتمعات المختلفة، لما له من دور في تنمية أفضل الصفات الإنسانية.
كما اعتبر أن مواجهة خطر اندثار الثقافات الفرعية أمر ملح، داعياً إلى تحرير العالم من التعصب والمعايير المزدوجة، ومن محاولات الهيمنة الثقافية التي تمارسها بعض الدول.
وقال الرئيس الروسي: يجب أن نسعى للانفتاح والاحترام المتبادل، وأن نكون مستعدين لتعلم الجديد، والمشاركة في تطوير الفضاء الثقافي العالمي، من أجل مستقبل كريم وسلمي ومزدهر لشعوبنا. وفي حديثه عن الذكاء الاصطناعي، أكد بوتين على أن الاكتشافات الحقيقية لا تأتي إلا من الإلهام والعبقرية الفردية، داعياً إلى حوار ثقافي يحترم القيم الإنسانية ويواجه التحديات الأخلاقية والاجتماعية.
صالحي المثقف يضع الروح في صميم السياسة الثقافية
لا يمكن قراءة هذه الزيارة دون التوقف عند شخصية الوزير سيد عباس صالحي، الذي لا يكتفي بأداء دور إداري، بل يقدّم نفسه كمثقف فاعل، يحمل حساً نقدياً وروحياً، ويضع القيم الجمالية والإنسانية في قلب العمل الثقافي. منذ توليه وزارة الثقافة، عُرف صالحي بدعمه للمبادرات الفكرية، وحرصه على توسيع فضاء النشر والترجمة، وتوثيق التحولات الثقافية، خاصة في إيران، مع اهتمام خاص بدور المؤسسات الثقافية في تعزيز الهوية والمقاومة.
في سانت بطرسبورغ، لم يكن مجرد مشارك في منتدى دولي، بل كان صوتاً لإيران الثقافية، الحريصة على الحوار، وعلى بناء جسور معرفية مع الآخر، بعيداً عن الصور النمطية أو الخطاب الدعائي.