120 عاماً من الإبداع.. ومؤتمر دولي في تبريز يحتفي برمز الأدب الإيراني

شهريار.. نغمة الخلود في سماء الشعر الفارسي ومرايا الهوية الإيرانية

في زمنٍ تتنازع فيه الأمم على النفوذ، يظل الشعر الفارسي قوة ناعمة تُعزز مكانة إيران في العالم، و"شهريار"، بهذا الإرث المتعدد، يُجسّد قدرة الشعر على تجاوز الحدود.

في زمن تتسارع فيه التحولات الثقافية، وتُختزل فيه الهويات في شعارات عابرة، يبقى الشعر الفارسي أحد أعمدة الوجدان الإيراني، ليس بوصفه فناً لغوياً فحسب، بل كقوة ناعمة تُعبّر عن الإنسان، وتُجسّد تاريخه، وتُحاكي روحه. ومن بين أعلام هذا الفن، يبرز اسم الأستاذ “محمد حسين شهريار”، الذي تحوّل من شاعر محلي إلى رمز أدبي عالمي، تُحتفى به اليوم في مؤتمر دولي بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاده.

 

يوم الشعر والأدب الفارسي.. تكريمٌ سنوي

 

يصادف غداً الخميس 18 سبتمبر اليوم الوطني للشعر والأدب الفارسي، الذي أقرّ به المجلس الأعلى للثورة الثقافية في عام 1988، تزامناً مع وفاة الاستاذ شهريار. ويُراد لهذا اليوم أن يتحوّل إلى مناسبة سنوية للاحتفاء بالأدب الإيراني، وتكريم رموزه، وتعزيز حضور الشعر في الحياة العامة.

 

الشعر والأدب في الثقافة الفارسية

في ثقافتنا، تبدأ الحياة بالشعر وتُودّع به. فالطفل يسمع التهويدة في مهده، ويألف الشعر منذ نعومة أظافره، وحتى بعد الموت، يُزيّن قبره ببيت من الشعر يُنشد له، وقد يكتب هو بنفسه شعراً لنفسه قبل رحيله. هذا التماهي العميق بيننا وبين الشعر، وتأثيره في ثقافتنا ووجداننا وسلوكنا، يُبرز الحاجة إلى الاهتمام به، وصون حرمته كعنصرٍ مدهشٍ ومُعجز.

 

مكانة اللغة والأدب الفارسي

 

تُعدّ اللغة والأدب الفارسي ثاني لغة في العالم الإسلامي، ولغة الحقل الثقافي والحضاري الإيراني، وتحمل إرثاً غنياً من آلاف الأعمال الأدبية، الصوفية، الفلسفية، الكلامية، التاريخية، الفنية والدينية. ورغم ما مرّ به من أحداث مضطربة وأحياناً مؤلمة، لا يزال هذا اللسان العذب حاضراً ومؤثراً في أقصى بقاع العالم.

 

هذا الحضور العالمي يدلّ على أن في عمق اللغة والأدب الفارسي معاني سامية ومضامين علمية وأخلاقية وإنسانية آسرة، تجعل كل إنسان سليم الطبع ينجذب إليها بمجرد أن يتعرّف عليها. ولولا ذلك، لما أقدم آلاف الباحثين الأجانب على ترجمة وتأليف كتب ومقالات حول روائع الأدب الفارسي مثل: الشاهنامة لفردوسي، الخمسة لنظامي، غلستان وبوستان لسعدي، المثنوي لجلال الدين الرومي، الغزليات لحافظ، والرباعيات لعمر الخيام. ولما كرّس آلاف المستشرقين حياتهم لفهم وتفسير هذه الكنوز الأدبية.

 

شهريار.. شاعر يتجاوز الجغرافيا

 

ولد شهريار في تبريز، لكنه لم يبقَ حبيس حدودها. كتب بالفارسية والتركية، وامتلك قدرة نادرة على المزج بين الرقة والعمق، بين اللغة الأدبية والتعبير الشعبي. في قصائده، نجد الغزل الصوفي، والوجد الإنساني، والحنين إلى الوطن، والاحتفاء بالهوية، والتمرد على الزمان، وقد تُرجمت أعماله إلى أكثر من 90 لغة، ما جعله رمزاً عالمياً للتعدد الثقافي والتواصل الأدبي.

 

وقد وصفه الدكتور علي أصغر شعر دوست، الأمين العام للمؤتمر العالمي لتكريم شهريار، بقوله: «الأستاذ سيد محمد حسين شهريار يُعدّ بحقّ أكبر وارثٍ للشعراء الكبار في إيران خلال العقود الأخيرة. لقد تميّز بشمولية وتفرّد في مجالات متعددة من الشعر، سواء بالفارسية أو بالتركية الأذربيجانية، إلى جانب فضائله الأخلاقية، وحياته النشطة التي امتدت لعقدٍ من الزمن في ظل الثورة الإسلامية، والتي وصفها بنفسه بـ”الجهاد القلمي”».

 

وأضاف شعر دوست في تصريح آخر: «الأستاذ شهريار هو أحد أغلى الكنوز الثقافية في إيران، وقد ساهم في تعزيز مكانة البلاد في المنافسة الثقافية العابرة للحدود».

 

الشعر والموسيقى.. لقاء الأرواح

 

لم يكن شهريار شاعراً فحسب، بل كان فناناً متعدد المواهب. أتقن الخطوط الفارسية، عزف على آلة “سه تار” الموسيقية، وكتب القرآن بخطٍ جميل. هذا التداخل بين الشعر والموسيقى والخط جعل من تجربته نموذجاً فنياً متكاملاً، حيث تتلاقى الحواس في خدمة المعنى.

 

وفي تكريمٍ رمزي لهذا البُعد الفني، أعلنت بلدية تبريز عن أول عرض رسمي لأوركسترا تبريز ، بمشاركة أكثر من 50 موسيقياً، أدّوا مقطوعات مستوحاة من أعمال شهريار، في افتتاحية المؤتمر الدولي، ما يُجسّد صلةً ثمينة بين الإرث الأدبي والطاقات الموسيقية للمدينة.

 

خصائص شعر شهريار

 

يتسم شعر شهريار بلغة رقيقة، بسيطة، سلسة وجذابة. ولم يكن يخشى استخدام التعابير العامية أو إدخال الجمل المحكية في قصائده، رغم احتمال أن يعتبره بعض الأدباء شعراً “متدنّياً”. هذا المزج بين الرقي والبساطة هو من سمات شعره الفريدة. كان يؤمن بتجديد الشعر الأدبي، وتظهر آثار هذا التوجه في معظم أعماله، حيث لم يتردد في استخدام مضامين جديدة وابتكار صور شعرية غير مألوفة.

 

تنوّع أشكال شعره

 

برع شهريار في كتابة مختلف أنواع الشعر الفارسي: القصيدة، المثنوي، الغزل، القطعة، الرباعية، وحتى الشعر النيمائي الحديث. لكنه اشتهر بالغزل أكثر من غيره، ومن أشهر غزلياته: «علي أي هماي رحمت» التي ليست مجرد قصيدة مدحية، بل هي مناجاة عميقة تُعبر عن حب شهريار للإمام علي(ع)، وتُبرز رؤيته العرفانية التي ترى في الإمام علي(ع) تجلياً للرحمة الإلهية، ومصدراً للبقاء الروحي في عالمٍ يتهدده الفناء.

 

في هذه القصيدة، يدمج شهريار بين اللغة الأدبية الراقية والتعبير العاطفي الصادق، ويُظهر شجاعة شعرية في مخاطبة الإمام بلغة المحبة والدهشة، حتى إنه يقول: «لا أستطيع أن أصفه إلهاً، ولا أقدر أن أعدّه بشراً… فأنا في حيرة، ماذا أسمي هذا الملك الفريد؟».

 

مؤتمر “شهريار” الدولي.. احتفاء بالهوية الشعرية

 

بمناسبة الذكرى الـ120 لميلاد شهريار، تُنظّم مدينة تبريز مؤتمراً دولياً يومي 17 و 18 سبتمبر، بمشاركة ضيوف من الهند، تركيا، جمهورية أذربيجان، ودول أخرى. ويستمر المؤتمر على مدار عام كامل داخل إيران وخارجها، بدعم من رئاسة الجمهورية وموافقة مجلس الوزراء.

 

وقد أكد مرتضى محمدزاده، معاون الشؤون السياسية والاجتماعية لمحافظة آذربايجان الشرقية، أن شهريار ليس شاعراً محلياً فحسب، بل هو “وجهٌ أدبي عالمي”، مشيراً إلى أن مراسم الختام ستُقام في السنة القادمة، بعد سلسلة من الفعاليات الثقافية والإعلامية.

 

أبرز محاور المؤتمر: الرؤية العرفانية والكونية في شعر شهريار، الشعر كأداة للوحدة الوطنية والتعايش بين القوميات، العلاقة بين اللغة الوطنية واللغة الأم، دراسة جماليات وبلاغة شعره، موقعه في الشعر الفارسي الكلاسيكي والمعاصر، تأثيره في تطور الشعر التركي، الشعر الديني والاجتماعي في أعماله، صورة تبريز في قصائده، الأبعاد المسرحية والموسيقية في شعره، نقد الدراسات السابقة حول “شهرياريات”.

 

كما يشمل البرنامج أمسيات شعرية، أفلاماً وثائقية، وتغطية إعلامية دولية، بهدف ترسيخ مكانة تبريز كعاصمة للثقافة والأدب التركي- الفارسي.

 

إرثٌ حيّ… ومقترحات للتوثيق

 

شهد اجتماع اللجنة العلمية للمؤتمر حضور نخبة من الأساتذة والباحثين من جامعات ومؤسسات ثقافية مختلفة، حيث طُرحت عدة مقترحات، منها: إعادة تحقيق وطباعة ديوان شهريار، تطوير بيت المتحف ومقبرة الشعراء في تبريز، تنظيم فعاليات ثقافية في مدن مختلفة.

 

وأكد شعر دوست أن هذا الحدث لا يقتصر على تكريم إرث شهريار، بل يُعدّ فرصة لتعزيز الروابط الثقافية والأدبية على المستوى الوطني، والسعي للحفاظ على أعمال هذا الشاعر الكبير وتقديمها بأفضل صورة ممكنة.

 

الشعر كقوة ناعمة وهوية متجددة

 

في زمنٍ تتنازع فيه الأمم على النفوذ، يظل الشعر الفارسي قوة ناعمة تُعزز مكانة إيران في العالم. وشهريار، بهذا الإرث المتعدد، يُجسّد قدرة الشعر على تجاوز الحدود، واحتضان الإنسان، أياً كان موطنه أو لغته.

 

إن تكريم شهريار ليس مجرد احتفاء بشاعر، بل هو احتفاء بالروح الإيرانية، وباللغة التي استطاعت أن تحافظ على نفسها، وتُعبّر عن الإنسان، وتُخاطب العالم.

 

 

 

المصدر: الوفاق