أميركا على مفترق طرق..

هل يقود ترامب بلاده نحو الديكتاتورية؟

ما يحدث في الولايات المتحدة يتماشى مع نموذج «الاستبداد التدريجي»، الذي لا يعتمد على انقلاب عسكري أو تعطيل الدستور، بل على سلسلة من الخطوات التي تضعف المؤسسات الديمقراطية تدريجياً.

منذ تأسيس الولايات المتحدة الامريكية، كانت الديمقراطية وفق إدعائهم حجر الزاوية في بنيانها السياسي، والضامن الأساسي لحقوق المواطنين وحرياتهم. لكن في السنوات الأخيرة، بدأت تظهر تصدعات في هذا البناء، خاصةً مع تصاعد الاتهامات الموجهة لرئيسها ترامب باستخدام سلطاته التنفيذية لتصفية خصومه السياسيين. في سبتمبر/ أيلول 2025، تصاعدت هذه المخاوف إلى ذروتها، بعد دعوة ترامب وزارة العدل لاتخاذ إجراءات قانونية ضد شخصيات معارضة له، مما دفع قادة ديمقراطيين إلى التحذير من أن البلاد تسير على «مسار نحو الديكتاتورية».ما أسباب التحول السياسي الخطير، وأبعاده القانونية والمؤسساتية، وتداعياته على مستقبل الديمقراطية الأميركية.
 

 

 الديمقراطية نحو الاستبداد التدريجي

 

 

لم تكن دعوة ترامب الأخيرة لملاحقة خصومه السياسيين حدثاً معزولاً، بل جاءت ضمن سلسلة من الإجراءات التي اتخذها منذ عودته إلى البيت الأبيض. هذه الإجراءات شملت إقالة مسؤولين قضائيين، الضغط على الإعلام، وتوجيه الاتهامات إلى شخصيات بارزة مثل «آدم شيف» و«ليتيشا جيمس»، في محاولة واضحة لتقويض استقلالية القضاء.

 

 

ووفقاً لدراسات أكاديمية حديثة، مثل تلك التي نشرها «دانيال ستوكيمر» من جامعة أوتاوا، فإن ما يحدث في الولايات المتحدة يتماشى مع نموذج «الاستبداد التدريجي»، الذي لا يعتمد على انقلاب عسكري أو تعطيل الدستور، بل على سلسلة من الخطوات التي تضعف المؤسسات الديمقراطية تدريجياً.

 

 

وزارة العدل تحت الضغط

 

 

وزارة العدل الأميركية لطالما اعتُبرت مؤسسة مستقلة، تعمل وفقاً للقانون وليس وفقاً لأهواء السلطة التنفيذية. لكن تصريحات ترامب الأخيرة، التي طالب فيها باتخاذ إجراءات قانونية ضد خصومه، في خطوة أثارت استياء خصومه الذين اعتبروها مساساً باستقلالية القضاء وقد أثارت قلقاً واسعاً بشأن تحول الوزارة إلى أداة سياسية.

 

 

وهاجم ترامب ما اعتبره تأخيراً في الملاحقات القضائية ضد السيناتور الديمقراطي عن كاليفورنيا، آدم شيف، والمدعية العامة في ولاية نيويورك، ليتيشا جيمس، مشيراً إلى اتهامات وُجّهت إليهما من قبل بيل بولت، رئيس وكالة تمويل الإسكان المعيّن من ترامب، تتعلق بتزوير وثائق خاصة بطلبات قروض عقارية.

 

 

وفي السياق نفسه، أعلن ترامب، أنه أقال المدعي العام للمنطقة الشرقية من ولاية فيرجينيا، إيريك سيبرت، بعد أن أفادت تقارير بأنه لم يجد أدلة كافية لتوجيه اتهام إلى ليتيشا جيمس.

 

لكن تقارير إعلامية، بينها «نيويورك تايمز»، أشارت إلى أن سيبرت أبلغ موظفيه بتنحيه، مساء الجمعة، عبر رسالة إلكترونية، وهذا كانت بمثابة رسالة واضحة من ترامب مفادها أن الولاء السياسي بات شرطاً للبقاء في المنصب، وليس الكفاءة أو الالتزام بالقانون.

 

 

وتعيد هذه التطورات إلى الواجهة الاتهامات المتكررة لترامب بتسييس وزارة العدل في ولايته الأولى، حينما قاد النائب الديمقراطي آدم شيف التحقيق البرلماني في أول محاكمة عزل للرئيس السابق. وبعد مغادرة ترامب للبيت الأبيض، تقدمت المدعية العامة «ليتيشا جيمس» بدعوى احتيال مالي ضده، اتهمته فيها بتضخيم ثروته وتلاعبه بقيمة ممتلكاته للحصول على قروض وتأمينات بشروط تفضيلية. وقد أمرت المحكمة ترامب بدفع غرامة بلغت 464 مليون دولار، قبل أن تلغي محكمة أعلى الغرامة وتُبقي على الحكم الأساسي.

 

 

الإعلام في مرمى النيران

 

 

لم تقتصر الضغوط على القضاء، بل امتدت إلى الإعلام أيضاً. تقارير متعددة أشارت إلى تهديدات وجهها ترامب إلى شبكات إعلامية مثل ABC، وصلت إلى حد إيقاف برنامج «جيمي كيميل لايف» بعد انتقادات وجهها المذيع للرئيس.

 

 

هذه الإجراءات أثارت مخاوف من تراجع حرية التعبير في الولايات المتحدة، خاصةً مع تصاعد الهجمات على الصحفيين والمؤسسات الإعلامية التي تنتقد الإدارة. وهو ما دفع مراقبين إلى التحذير من أن البلاد تقترب من نموذج «الحكم الفردي» الذي يقمع الأصوات المعارضة.

 

 

ردود الفعل الديمقراطية

 

 

قادة ديمقراطيون مثل تشاك شومر وهيلاري كلينتون وكريس مورفي لم يترددوا في وصف ما يحدث بأنه تهديد مباشر للديمقراطية. شومر اعتبر أن استخدام وزارة العدل لملاحقة الخصوم هو «مسار نحو الديكتاتورية»، مضيفًا: «ما يفعله ترامب ليس خلافًا سياسياً عادياً… بل تهديد حقيقي لطبيعة النظام الديمقراطي الأميركي». بينما وصفت كلينتون الوضع بأنه «انجراف خطير»، وأكد مورفي أن البلاد تمر «بواحدة من أكثر اللحظات خطورة في تاريخها».

 

 

هذه التصريحات لم تكن مجرد تحذيرات، بل جاءت ضمن دعوات واضحة للمقاومة السياسية والقانونية، من خلال الضغط على الكونغرس، وتفعيل دور المجتمع المدني، وإعادة التأكيد على أهمية الفصل بين السلطات.

 

 

دور المؤسسات الرقابية والكونغرس

 

 

في ظل تصاعد النزعة السلطوية، يبرز دور المؤسسات الرقابية والكونغرس كخط الدفاع الأخير أمام أي محاولة لتقويض الديمقراطية. الكونغرس الأميركي، رغم انقسامه الحزبي، يمتلك صلاحيات رقابية واسعة، من بينها مساءلة الرئيس، والتحقيق في تجاوزات السلطة، وحتى تفعيل إجراءات العزل إذا اقتضى الأمر. لكن فعالية هذه المؤسسات تعتمد على إرادة سياسية حقيقية، واستقلالية في اتخاذ القرار، بعيداً عن الحسابات الحزبية الضيقة. وإذا ما فشل الكونغرس في أداء دوره، فإن ذلك سيعني عملياً تفريغ النظام الديمقراطي من جوهره، وتحويله إلى واجهة شكلية لحكم فردي.

 

 

المجتمع المدني كقوة مضادة

 

 

لا يمكن الحديث عن مقاومة الاستبداد دون الإشارة إلى دور المجتمع المدني، الذي يشمل النقابات، الجمعيات الحقوقية، الجامعات، والمواطنين الناشطين. هذا المجتمع، رغم الضغوط، لا يزال قادراً على إحداث تأثير حقيقي، عبر تنظيم الاحتجاجات، رفع الدعاوى القضائية، وتشكيل رأي عام مضاد للنزعة السلطوية. في التاريخ الأميركي، لعب المجتمع المدني دوراً محورياً في إنهاء التمييز العنصري، والدفاع عن حقوق المرأة، ومواجهة الحروب غير العادلة. واليوم، يعود هذا الدور إلى الواجهة، كضرورة ملحة لحماية الديمقراطية من الانهيار، وإعادة التوازن إلى المشهد السياسي الأميركي.

 

 

بين اليقظة والانحدار

 

 

ما يحدث اليوم في الولايات المتحدة ليس مجرد خلاف سياسي، بل هو اختبار حقيقي لقدرة «الديمقراطية الأميركية» على الصمود في وجه الضغوط السلطوية. استخدام الرئيس لوزارة العدل كأداة لتصفية الحسابات، وإقالة المسؤولين الرافضين للانصياع، وتكميم الإعلام، كلها مؤشرات على تحول خطير. لكن التاريخ يعلمنا أن الديمقراطية لا تنهار فجأة، بل تتآكل تدريجياً. والمقاومة تبدأ بالوعي، ثم بالتحرك. على الأميركيين أن يدركوا أن الحفاظ على الديمقراطية لا يتم فقط عبر صناديق الاقتراع، بل أيضاً عبر الدفاع عن المؤسسات، ورفض تحويل الدولة إلى أداة في يد شخص واحد. في النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً: هل تستيقظ أميركا قبل فوات الأوان؟ أم أن المسار نحو الديكتاتورية قد أصبح واقعاً لا رجعة فيه؟

 

 

 

المصدر: الوفاق