كريمة سید شهداء الأمة في حوار خاص مع الوفاق :

الشهيد السيد حسن نصر الله .. نموذجٌ فريدٌ في العائلة والمقاومة والأمّة

خاص الوفاق: كان الوالد يذهب إلى ابعد الحدود ليحتوي الجميع ويعمل لما فيه خير لبنان وكان يؤمن أن احترام الآخر لا يعني التماشي معه بل التعامل معه بديننا وبأخلاقنا

عبير شمص 

 

في الذكرى الأولى لاستشهاد سید شهداء الأمة، لا نكتب رثاءً، بل نفتح نافذة على حياةٍ لم تكن عادية، وعلى رجلٍ لم يكن مجرد قائدٍ في الميدان، بل إنسانًا عاش الإيمان كتكليف، وغرس القيم في بيته قبل منبره، هذه المقابلة مع كريمته السيدة زينب نصر الله تقترب من السيد الشهيد كما عرفته أسرته، لا كما عرفه الناس من بعيد. تكشف جوانب لم تُروَ من قبل عن علاقته بعائلته وتربية أبنائه، وكيف كانت علاقته بالجمهورية الإسلامية؟ ماذا كان موقفه من علامات الظهور؟ كيف تلقّت عائلته نبأ استشهاده؟ وما هي أهم وصاياه؟ نقترب فيها من السيد الإنسان كما عرفته أسرته، في صمته الذي كان أبلغ من الخطابة، في مواقفه التي لم تُعلن، في دعائه الذي لم يُسمع إلا همسًا، وفي تفاصيل حياته اليومية التي جسّدت الإيمان العملي، والتربية بالقدوة، لا بالكلام. ليست هذه شهادة تأريخ، بل شهادة حبّ ووفاء، من ابنةٍ إلى والدها، ومن قلبٍ تربّى على يديه، إلى كل من أحبّه وافتقده، ووجد في سيرته ما يُلهم ويُربّي ويُقوّي.

 

التربية بالقدوة

 

في زمنٍ تتكاثر فيه الصور وتبهت فيه المعاني، تحكي كريمته عنه كما عرفته عن قرب، لا كما رآه الناس من بعيد. لا تتحدث عن الأمين العام لحزب الله، بل عن الأب، الزوج، والمربّي، الذي بنى نموذجًا أسريًا فريدًا، قائمًا على الإيمان والبساطة والتكليف، لا على المظاهر ولا الألقاب.

 

 

وهو منذ اختياره لشريكة حياته، كانت النظرة أخروية، إيمانية، يبحث عمّن يُكمل معه طريق الله. والوالدة، من أسرة تضم علماء دين، كانت النموذج الذي يليق بهذا البناء. تقول كريمته: “أنا لم أسأل والدتي عن أسس حياتهم المشتركة، لكني متأكدة أنهم وضعوا مبادئ واضحة: ماذا يريدون من هذه الأسرة، وكيف سيربّون أولادهم”.

 

 

في التربية، كانت الخطوط الحمراء واضحة: الحلال والحرام، وبينهما مساحة من الحوار والتساهل المدروس. لم يكن يفرض، بل يرشد، يقدّم الخيارات، ويصوّب المسار إن وجد خللًا. “منذ صغرنا، كان هذا نهجه معنا: إرشاد وتوجيه، بكل محبة وإقناع”، تقول كريمته.

 

 

البساطة كانت عنوانًا دائمًا لحياتهم، من مدينة بعلبك إلى منطقة بئر العبد في الضاحية الجنوبية، ومنزلهم ظل كما هو، خاليًا من مظاهر البذخ، حتى بعد تولّيه منصب الأمانة العامة. “فعندما تعيشين مع إنسان لا تعني له المظاهر شيئاً، تصبحين مثله” حتى في التفاصيل الدقيقة، كان حاضرًا؛ نوع السيارة، شكل اللباس، كل ما قد يُلفت نظر الناس كان يُحسب له حساب. “لماذا يجب أن يكون في منزلكم شيء لا يستطيع الآخرون اقتناءه؟”، كان يسأل، حرصًا على مشاعر الناس، ورفضًا لأي تميّز مظهري.

 

 

السيد كان قدوة عملية، لا نظرية. لم يكن يقول “افعلوا”، بل يُرى وهو يفعل، فيُقتدى به. “أنتِ ترين النموذج أمامك، والقدوة العملية تؤثّر أكثر”، تقول، مشيرةً إلى أن العائلة كانت انعكاسًا حيًّا لمبادئه، لا مجرد متلقٍّ لكلماته.

 

 

وفي كل قرار، كانت التربية حاضرة: الحلال والحرام خط أحمر، وما بينهما مساحة من الثقة والحوار. لم يكن يقول “افعلوا”، بل “فكّروا”. وحين يُسأل عن الدراسة أو الزواج، كان يقدّم الخيارات، لا الأوامر. حتى في مشاركتها بالمؤتمرات، كان يسأل أولًا: “هل سألتِ زوجك؟”، ثم يناقش الجدوى، لا الشكل.

 

 

الوصال رغم البُعد.. دفء اللقاءات في زمن الغياب

 

 

قبل حرب تموز2006، كانت اللقاءات مع الوالد أكثر سهولة؛ رغم الظروف الأمنية، كان حضوره ملموسًا. لكن بعد عام 2006، تغيّر كل شيء؛ اللقاءات أصبحت محدودة، لا تتعدى أربع مرات في السنة، إذ لم يعد له منزل خاص نستطيع زيارته فيه، بل صار هو من يزورنا في منزلنا. اللقاء الثابت كان في شهر رمضان المبارك، يجمعنا جميعًا، ثم أصبح لكل واحد منا يوم خاص يفطر فيه معه، يوم عندي، ويوم عند شقيقي، لكي نرتاح معه أكثر ، فالعائلة كبرت، والوقت يمضي قبل أن نستأنس بحضوره.

 

 

ورغم هذا الغياب، كان التواصل معه عبر الهاتف مفتوحًا، في أي ساعة أرغب بها مما يُخفّف من وطأة البُعد. في الحرب الأخيرة، ظل الهاتف وسيلة الوصال الوحيدة، أما آخر لقاء مباشر، فكان قبل استشهاده بسنة وشهرين، وكان التواصل حينها عبر الهاتف فقط. هكذا ظلّ الحضور قائمًا رغم الغياب، والوصال دافئًا رغم المسافات، والإبنة تنتظر اللقاء، ولو كان مؤجلًا، لتستأنس بظلّ والدها الذي لا يُنسى.

 

 

حاضراً رغم الغياب 

 

 

كانت العلاقة بيني وبين والدي عميقة وخاصة، امتزج فيها الحنان بالحوار الصادق، تخبرنا زينب، وبعد زواجي، كنت ألجأ إليه في المواقف التي تزعجني فكان يستمع، يهدّئ، ويحلّ الأمور بحكمة دون أن يحمل على أحد، لقد كان ملاذًا هادئًا في لحظات الضيق، وأبًا حاضرًا رغم الغياب.

 

 

غضب نادر وصبر كبير

 

 

أما عن غضبه، فلم أره يومًا غاضبًا إلا على شاشة التلفاز. حتى من يقول إنه رآه غاضبًا في العمل، فإن ذلك يكون بسبب خطأ مؤثر جدًا. الوالد شخص مهذّب النفس، صبور، قويّ التحمّل، لا شيء يستفزّه. وإن غضب، فذلك لأن أمرًا لا يُحتمل وقع في سياق العمل، ويؤثر على مفصل من مفاصل المقاومة. ومع ذلك، لا يكون غضبه جارحًا، لا يخرج منه كلام قاسٍ أو مؤذٍ.

 

 

تتحدث عن الأخبار التي كانت تُحزنه، فتقول إن شهادة الحاج عماد والحاج قاسم سليماني والشهداء  وآلام الجرحى كانت من أشد ما آلمه، وتقول: “”كنت ألاحظ تأثره حين يتحدث في يوم الجرحى، ومدى ألمه… وقت تفجير البايجر، خطر في بالي: إذا كنّا نحن تأذينا إلى هذا الحد، فكيف هو؟ فاتصلت بالوالدة وسألتها عن حاله، فأخبرتني إنه بكى”. 

 

 

تواضع القيادة وسمو الأخلاق

 

 

لم يكن السيد يسمح لأفراد العائلة بالتدخل في الشأن السياسي، وكان يرفض مبدأ التوريث. “كان دائمًا يقول: “لا جدي كان بيَّك، ولا أبي كان بيّك، ولا أنا بيّك، ولا إبني سيكون بيَّك”. بعد استشهاده، حين عُمّم شقيقي مهدي، أنكر أن يكون خلفًا له، وأعلن رغبته في دراسة الدين فقط.

 

 

وصاياه في التعامل مع الناس كانت قائمة على احترام الآخر واحتوائه، حتى الخصوم. وتشرح كريمته زينب:”كان مستعدًا دائمًا للمسامحة، ويذهب إلى أبعد الحدود ليحتوي الجميع ويعمل لما فيه خير البلد”. وكان يؤمن أن احترام الآخر لا يعني التماشي معه، بل التعامل معه بأخلاقنا وديننا.

 

 

الدرع الذي نحميه لا الذي يحمينا

 

 

تروي زينب أن والدها كان يؤكّد دائمًا، في العلن وفي الجلسات الخاصة، على العلاقة المتينة مع الجمهورية الإسلامية. وتوضح أنه حين كان البعض يطرح تساؤلات مثل: لماذا لم تردّ الجمهورية عند استشهاده؟ ولماذا لم تدخل في الحرب؟ كانت هذه الأفكار تُزرع في أذهان الناس لتوحي بأن الجمهورية قد تخلّت عن المقاومة. لكنها تحرص على إيصال نظرة والدها الحقيقية، فتقول: “كان دائمًا يقول: نحن يجب أن نكون درعًا للجمهورية، لا أن نطلب منها أن تكون هي درعنا”.

 

 

وتضيف أن الجمهورية الاسلامية هي الدولة الوحيدة القائمة والممهّدة لدولة الإمام المهدي (عج)، وأنه يجب الحفاظ عليها حتى لو كان الثمن أن نصاب ونتأذى ونستشهد جميعًا، مقابل أن تبقى الجمهورية واقفة وصامدة. 

 

 

وتشرح أن الناس تطلب موقفًا على مستوى شخصي وعاطفي، لكن القائد يفكّر بأمة إسلامية كاملة. وتقول: “لا يمكن أن تُجرّ الجمهورية إلى حرب، خصوصًا وأنتِ لا تزالين قادرة على الصمود بنفسك”. فالجمهورية تتدخل فقط حين يكون هناك خطر حقيقي على حزب الله والمقاومة، أما إذا كانت المقاومة لا تزال قادرة على الاستمرار، فلن يكون من الحكمة أن تُسحب الجمهورية إلى حرب قد تمحوها، وحينها تكون قد محيت نفسها معها، ولم يعد هناك ظهر تستند إليه. كما تشير زينب إلى أهمية النظر إلى مصلحة الأمة الإسلامية ككل، لا إلى المواقف من زاوية عاطفية أو فردية. 

 

 

علاقته بالسيد القائد.. محبة تتجاوز الولاية

 

 

تصف كريمة السيد حسن نصر الله العلاقة التي جمعت والدها بسماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي بأنها علاقة مميزة للغاية، قائمة على محبة شخصية عميقة، وفهم حقيقي لمعنى الولاية. فالسيد القائد بالنسبة لوالدها كان القدوة والنموذج، حتى إنه كان يردد دائمًا في دعائه: “خذ كل عمري وزد بعمره “، لأنه كان يرى أن وجود سماحته أهم وأكثر تأثيراً من وجوده هو شخصياً.

 

وتصف اللقاءات التي جمعت السيد حسن بالسيد القائد بأنها لقاءات تنطق بالسرور والمحبة، وتقول: “عندما ترين لقاءاتهما معًا، تشاهدين السرور المرتسم على وجهيهما، فالعلاقة بينهما علاقة حب متبادلة، وهذا الشعور كان واضحًا”.

 

 

وتروي أنها نالت شرف لقاء السيد القائد قبل حرب تموز/ يوليو ، حين عُرّفت إليه بأنها “ابنة السيد حسن نصر الله”. قال مبتسماً:” نحن نعتز ونفتخر بوجود السيد. وكنت على وشك البكاء حين سمعت السيد القائد يتحدث عن والدي بهذه الطريقة”.

 

 

تتابع حديثها عن لقاءاتها بالسيد القائد، فتقول إنها التقت به مرة أخرى قبل استشهاد والدها، لكن اللقاء كان قصيرًا كالمعتاد، وتضيف: “وكان كلما عرّفوني عليه، يبدأ بالدعاء له، ويقول: الله يحفظه ويطوّل بعمره، ويمدحه كثيرًا”.

 

 

لكنها تصف اللحظة المؤثرة التي عاشتها بعد استشهاد والدها، حين التقت بالسيد القائد في المرة الأخيرة، وكان الدعاء مختلفاً فقال لي : الله يرفع درجاته”، وتختم بالقول: “تأثرت جدًا، لأن الدعاء تغيّر”.

 

 

 رؤية السيد الشهيد في زمن الانتظار

 

 

كان والدي يرفض إسقاط الأحداث على علامات الظهور، ويقول: “ليست مهمتي أن أضع كتابًا في الغيبيات”. كان يعمل بتكليفه، لا بنتائج الأمور. وكان يؤمن أن التمهيد للظهور لا يكون بالانشغال بالعلامات، بل بتقوية العلاقة مع الإمام المهدي (عج)، وبالصدق في أداء الواجب. وكان يحذّر من الانتظار السلبي، ومن التعلّق بأشخاص على أنهم رموز حتمية، لأن ذلك قد يؤدي إلى الإحباط.

 

 

وداع يليق بالعظماء

 

 

كان استشهاد السيد نصر الله في المكان الذي يليق بمقامه، كما أن المجاهد يخوض معركته في الجنوب، فإن معركته كانت هناك في الميدان في الضاحية الجنوبية. الزمان والمكان ونوعية الحرب والقضية، جميعها منحت شهادته قيمة لا تُضاهى، لا سيّما أن القضية فلسطينية  جامعة للأمة الإسلامية، واستشهاده وقع في قلب الضاحية، حيث لم يتراجع، بل ثبت حتى الرمق الأخير، فارتفعت بذلك منزلة شهادته.

 

 

أما كيف علمت بشهادته فتقول أنهم سمعوا الضربة دون أن يعلموا بوجوده هناك، لم يعرفوا باستشهاده إلا بعد صدور الإعلان الرسمي. وتقول: “جاء أحدهم عقب الضربة مباشرة وقال: لا تخافوا، السيد بخير”. تلك الكلمات بثّت في قلبها الطمأنينة، وجعلتها تصدّق أنه لم يُستشهد، وربما كانت رحمة من الله كي لا تعيش تلك الليلة في قلقٍ وألم.

 

 

وفي اليوم التالي، بينما كانوا يتابعون التلفاز، صدر بيان النعي، فكانت الصدمة عظيمة. تقول: “بالأمس طمأننا شخص موثوق بأنه حي، واليوم نراه يُنعى على الشاشة!” وتشعر بالحزن لأن الخبر جاءها بهذه الطريقة، دون أن يُبلغها أحد، وتقول بأسى: “لو أن أحدًا أخبرنا، لكان وقع الخبر أخفّ من أن نراه فجأة يُذاع على التلفاز”.

 

 

رسائل الشهادة.. بين الإحساس والدعاء

 

 

وعن حديث السيد الشهيد عن الشهادة، تقول زينب: “بالنسبة لي، لا. فقد مضى عام منذ آخر مرة رآ يته فيها”. لكنها علمت لاحقًا أنه ودّع والدتها يوم الاثنين، وقال لها: “هذه آخر مرة أراكِ فيها”، فردّت عليه: “الله يحفظك، وإن شاء الله تعود منتصرًا كعادتك”. لم يخطر ببالها أن ذلك اللقاء سيكون الأخير، إذ كانوا يظنون أن عمره طويل، وأن دوره لم ينتهِ بعد.

 

 

الوداع الأخير 

 

 

تختم زينب حديثها بوصف اللحظة التي رأت فيها والدها بعد استشهاده. تقول أصررت على رؤيته  قائلة “لقد مضى عام وشهران منذ رأيته، وهذه آخر مرة سأراه فيها، لذا يجب أن أذهب”. كانت اللحظة عصيبة، وعندما رأيته كان جسده كاملًا، غير مخدوش، وقد استُشهد من أثر الانفجار دون أن يُصاب بأي جرح، وتصفه “كأنه نائم، بهيبته نفسها، رأيناه جميعًا، قبّلناه، وودّعناه”.

 

 

وهكذا رحل شهيدنا الأقدس في المكان الذي اختاره عن وعي، وفي الزمان الذي حمل فيه القضية حتى النهاية. لم يتراجع، ولم يتردد، ولم يترك موقعه. شهادته لم تكن مفاجئة لمن عرفه، بل كانت نتيجة طبيعية لمسار طويل من الالتزام، القيادة، والوفاء. بقي ثابتًا حتى اللحظة الأخيرة، وترك خلفه أثرًا لا يُمحى في الوجدان، والميدان، والتاريخ.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص