في عالم السياسة الدولية، كثيراً ما تُرفع شعارات حقوق الإنسان، العدالة، وحق الشعوب في تقرير المصير. غير أن الواقع يكشف عن فجوة واسعة بين الخطاب السياسي والممارسات الفعلية، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية. ففي الوقت الذي تعلن فيه دول غربية كبرى اعترافها بدولة فلسطين، تستمر في تصدير الأسلحة إلى كيان العدو المتهم بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة. هذا التناقض الصارخ يثير تساؤلات جوهرية حول مصداقية هذه الدول، ويكشف عن ازدواجية معايير باتت تهدد منظومة العدالة الدولية برمتها.
الاعتراف.. خطوة سياسية أم مناورة دبلوماسية؟
في سبتمبر/ أيلول 2025، أعلنت دول مثل فرنسا، المملكة المتحدة، كندا، أستراليا، ولوكسمبورغ اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، في خطوة اعتبرها البعض انتصاراً دبلوماسياً للفلسطينيين. غير أن هذا الاعتراف جاء في سياق مؤتمر دولي لحل الدولتين، دون أن يصاحبه أي إجراءات عملية لوقف العدوان الصهيوني أو دعم فعلي لحقوق الفلسطينيين.الاعتراف بدولة فلسطين، يفتقد إلى القوة التنفيذية ما لم يُترجم إلى سياسات ملموسة، مثل فرض عقوبات على كيان العدو أو وقف تصدير الأسلحة إليها. كما أن استمرار الدعم العسكري لكيان العدو من قبل هذه الدول يفرغ الاعتراف من مضمونه، ويحوّله إلى مجرد ورقة سياسية تستخدم لتجميل الصورة أمام الرأي العام العالمي.
بين المصالح الاقتصادية والتواطؤ السياسي
رغم إعلان عدد من الدول الغربية اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، فإن هذا الاعتراف لم ينعكس على سياساتها الفعلية، خصوصاً في ما يتعلق بتصدير الأسلحة إلى كيان العدو. ففي تجاهل صارخ لتقارير الأمم المتحدة التي تتهم كيان العدو بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة، استمرت هذه الدول في دعمها العسكري المباشر وغير المباشر لتل أبيب، ما يكشف عن تواطؤ سياسي واضح يتناقض مع الخطاب الحقوقي الذي تروّج له.
المملكة المتحدة، على سبيل المثال، فرضت حظراً جزئياً على بعض تراخيص تصدير الأسلحة في سبتمبر/ أيلول 2024، لكنه اقتصر على ثلاثين ترخيصاً فقط من أصل ثلاثمائة، ما يعني أن الغالبية الساحقة من التراخيص ظلت سارية. وبالرغم من تعهدها بعدم إرسال قطع غيار لطائرات “إف-35” بشكلٍ مباشر، فإن التقارير الحقوقية كشفت عن استمرار شحن آلاف القنابل والصواريخ والدبابات ومكونات الأسلحة النارية إلى كيان العدو، في تجاهل تام للتحذيرات الدولية.
كندا بدورها أعلنت في مطلع عام 2024 وقف منح تراخيص جديدة لشركات السلاح، لكنها واصلت التصدير عبر تراخيص سابقة تجاوزت قيمتها أربعة وتسعين مليون دولار. كما كشفت تقارير عن وصول أكثر من أربعمئة ألف رصاصة وقطع طائرات “إف-35” إلى كيان العدو في الفترة الممتدة بين أكتوبر/ تشرين الثاني 2023 ويوليو/ تموز 2025، بعضها تم تمريره عبر صفقات مشتركة مع الحكومة الأميركية.
أما فرنسا، فقد سلّمت معدات عسكرية بقيمة عشرة ملايين دولار في عام ونصف، تضمنت قنابل وطوربيدات وقاذفات صواريخ، في وقت كان فيه كيان العدو يشن أعنف حملاته العسكرية على غزة. لوكسمبورغ، التي انضمت مؤخراً إلى قائمة الدول المعترفة بفلسطين، برّرت استمرار صادراتها العسكرية بأنها “دفاعية فقط”، في محاولة لتفادي الانتقادات، رغم أن طبيعة هذه المعدات تثير شكوكاً حول استخدامها الفعلي.
أستراليا من جهتها نفت إرسال أسلحة مباشرة إلى كيان العدو، لكنها تظل جزءاً من سلسلة توريد مكونات طائرات “إف-35″، وهي الطائرات التي تُستخدم بشكل مكثف في عمليات القصف الجوي على القطاع.
كل هذه المعطيات تشير إلى وجود تواطؤ سياسي ممنهج، تُغلّف فيه المصالح الاقتصادية والاستراتيجية بغلاف من الخطاب الحقوقي الزائف. فالدول التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان وتتبنى مواقف أخلاقية في المحافل الدولية، تواصل عملياً دعم آلة الحرب الصهيونية، ما يجعل اعترافها بفلسطين أقرب إلى المناورة الدبلوماسية منه إلى الموقف المبدئي.
الخطاب الحقوقي والممارسة الواقعية
المديرة التنفيذية لمركز السياسة الدولية، نانسي عقيل، وصفت هذا التناقض بأنه “فجوة مساءلة” بين الخطاب السياسي والممارسات الفعلية. فالدول التي تعترف بفلسطين وتدين العدوان الصهيوني، تواصل في الوقت ذاته دعم آلة حرب الكيان الغاصب، ما يجعلها شريكة غير مباشرة في الجرائم المرتكبة.
هذه الفجوة لا تقتصر على الجانب السياسي، بل تمتد إلى الإعلام والدبلوماسية، حيث يُصوَّر المقاوم الفلسطيني على أنه “إرهابي”، بينما يُبرَّر العدوان الصهيوني بأنه “دفاع عن النفس”. هذا التحيز الإعلامي والدبلوماسي يعزز من حالة الإحباط لدى الفلسطينيين، ويزيد من عزلة القضية الفلسطينية في المحافل الدولية.
ازدواجية المعايير في القانون الدولي
ازدواجية المعايير ليست جديدة في السياسة الدولية، لكنها تتجلى بوضوح في القضية الفلسطينية. فبينما تُفرض عقوبات صارمة على دول مثل روسيا بسبب أوكرانيا، يتم التغاضي عن كيان الاحتلال للأراضي الفلسطينية، رغم أنه مستمر منذ أكثر من سبعة عقود.
القانون الدولي يكفل للشعوب الواقعة تحت الاحتلال حق المقاومة، بما في ذلك المقاومة المسلحة، كما نص القرار الأممي رقم 3236. غير أن هذا الحق يُحرَم منه الفلسطينيون، وتُصنَّف فصائل المقاومة كجماعات إرهابية، في تجاهل تام للسياق التاريخي والسياسي للصراع.
بداية لتفكيك التواطؤ الرسمي
في مواجهة التواطؤ الغربي المستمر مع كيان العدو، برزت بعض الدول الأوروبية بمواقف أكثر جرأة، محاولة كسر الحلقة المفرغة من الدعم العسكري غير المشروط. إسبانيا وبلجيكا، على سبيل المثال، اتخذتا قراراً حاسماً بفرض حظر شامل على تصدير الأسلحة إلى كيان العدو، في خطوة تعكس رفضاً واضحاً للانخراط في أي شكل من أشكال التواطؤ مع الجرائم المرتكبة في غزة. أما النرويج، فقد اختارت مساراً اقتصادياً مختلفاً، إذ سحبت استثماراتها من إحدى عشرة شركة للكيان مرتبطة ببرنامج الطائرات المقاتلة، في إشارة إلى رفضها المشاركة غير المباشرة في تمويل آلة الحرب الصهيونية.
ورغم أن هذه الإجراءات لا تزال محدودة من حيث التأثير الفوري، فإنها تحمل دلالات سياسية عميقة، وتكشف عن تحوّل تدريجي في الرأي العام الأوروبي. هذا التحوّل لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة لتصاعد الاحتجاجات الشعبية المؤيدة لفلسطين في العواصم الغربية، حيث باتت الأصوات المطالبة بالعدالة والمساءلة أكثر حضوراً وتأثيراً. في هذا السياق، تبدو هذه الخطوات الأوروبية وكأنها بداية لتفكيك التواطؤ الرسمي، وفتح الباب أمام سياسات أكثر اتزاناً وإنصافاً في التعامل مع القضية الفلسطينية.
دور الشعوب في كسر التواطؤ
الاحتجاجات الشعبية المتواصلة في الغرب، من مظاهرات أمام مقرات الأمم المتحدة إلى حملات المقاطعة، بدأت تؤثر فعلياً على الرأي العام وتزيد من عزلة كيان العدو. هذه التحركات، التي يقودها نشطاء حقوق الإنسان، طلاب الجامعات، ومنظمات المجتمع المدني، تُعد رافعة حقيقية لكسر جدار الصمت، وتُجبر الحكومات على إعادة النظر في سياساتها. فكلما اتسعت رقعة التضامن الشعبي، ضاقت مساحة المناورة السياسية، وارتفعت كلفة التواطؤ.
وفي ظل هيمنة الإعلام التقليدي على سردية الصراع، برزت منصات إعلامية بديلة مثل “ذا إنترسبت”، لتكشف الحقائق المغيّبة وتفضح ازدواجية المعايير الغربية. هذه المنصات لعبت دوراً محورياً في توثيق الجرائم، فضح التواطؤ، ونقل صوت الضحايا إلى العالم. الإعلام البديل لا يكتفي بالتغطية، بل يُمارس دوراً تحررياً، يُعيد تشكيل الوعي، ويُحفّز على الفعل السياسي والميداني.
إن الاعتراف بدولة فلسطين يجب أن يكون خطوة أولى نحو إنهاء الاحتلال، وليس مجرد ورقة سياسية تُستخدم لتخفيف الضغط الشعبي. فاستمرار تسليح كيان العدو، رغم الاتهامات بارتكاب جرائم حرب، يُعد تواطؤاً واضحاً، ويكشف عن خلل عميق في النظام الدولي.
لكي يكون الاعتراف حقيقياً، يجب أن يُقترن بإجراءات عملية، مثل وقف تصدير الأسلحة، فرض عقوبات، ودعم حقوق الفلسطينيين في المحافل الدولية. كما أن إنهاء ازدواجية المعايير هو شرط أساسي لتحقيق السلام العادل، وإعادة الثقة في منظومة العدالة الدولية.
فالعالم لا يحتاج إلى المزيد من الشعارات، بل إلى سياسات عادلة تُطبَّق على الجميع دون تمييز. حينها فقط، يمكن أن نأمل في مستقبل تُحترم فيه حقوق الشعوب، وتُحاسب فيه الدول على جرائمها، مهما كانت قوتها أو تحالفاتها.