في عالم يتجه نحو مزيد من الاستقطاب، لم تعد التحالفات التقليدية كافية لضمان الاستقرار أو تحقيق المصالح الوطنية. فمع تصاعد التوترات بين القوى الكبرى، وتراجع الثقة في المؤسسات الدولية، تتجه الدول إلى بناء شراكات استراتيجية قائمة على المصالح المشتركة والرؤى المتقاربة. في هذا السياق، يبرز التحالف بين الصين وكوريا الشمالية كواحد من أكثر التحالفات إثارة للانتباه، ليس فقط بسبب طبيعته الأيديولوجية، بل لأنه يمثل تحديًا مباشرًا للهيمنة الأمريكية على النظام الدولي.
جذور العلاقة بين بكين وبيونغ يانغ
العلاقة بين الصين وكوريا الشمالية تعود إلى منتصف القرن العشرين، حين شاركت الصين في الحرب الكورية إلى جانب بيونغ يانغ ضد القوات الأمريكية والكورية الجنوبية. هذا التدخل العسكري لم يكن مجرد دعم لحليف، بل كان إعلانًا صريحًا عن رفض الهيمنة الغربية على شبه الجزيرة الكورية.
كِلا البلدين يتبنيان نموذجًا اشتراكيًا للحكم، تقوده أحزاب شيوعية ذات طابع مركزي. هذا التقارب الأيديولوجي ساهم في بناء علاقة تتجاوز المصالح الاقتصادية أو الأمنية، لتصبح علاقة قائمة على «رؤية مشتركة للعالم»، كما وصفها وزير الخارجية الصيني «وانغ يي».
وقد نُقل عن الزعيم الكوري السابق «كيم جونغ إيل» قوله: «أحب التردد على الصين مع أعضاء القيادة، وأدعو الأمين العام «هو جنتاو» إلى زيارة كوريا الشمالية مجددًا في الوقت الذي يناسبه»، ما يعكس عمق العلاقات الشخصية والمؤسسية بين القيادتين. كما أشار إلى ضرورة «تكثيف المبادلات مع الرفقاء الصينيين والاستفادة من التجربة الصينية»، في إشارة إلى رغبة بيونغ يانغ في التعلم من النموذج التنموي الصيني.
رسائل استراتيجية في لحظة حرجة
الاجتماع بين وزيري خارجية الصين وكوريا الشمالية جاء في وقت يشهد فيه العالم اضطرابات متزايدة: الحرب في أوكرانيا، التوترات في بحر الصين الجنوبي، تصاعد المواجهة بين واشنطن وبكين، والعقوبات الغربية على بيونغ يانغ. كل هذه العوامل جعلت من اللقاء مناسبة لإعادة تأكيد التحالف، وتوجيه رسائل واضحة للولايات المتحدة.
الوزير الصيني شدد على أن العلاقات الثنائية تمثل «كنزًا مشتركًا»، وأن الحفاظ عليها وتطويرها هو «سياسة استراتيجية ثابتة» لدى الحزب والحكومة في الصين. أما الوزيرة الكورية الشمالية، فقد أكدت أن «المشاعر الودية بين البلدين لن تتغير مهما تغيّر العالم»، في رسالة تحدٍ واضحة للضغوط الغربية.
وقد نُقل عن مساعد وزير الخارجية الصيني «هونغ لي» أن الزعيم الكوري «كيم جونغ أون» سيحضر العرض العسكري في بكين إلى جانب 26 رئيس دولة وحكومة، من بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في إشارة واضحة إلى تشكّل محور مضاد للهيمنة الغربية. هذا الحضور لم يكن مجرد مشاركة رمزية، بل حمل دلالات استراتيجية، خاصةً أن الصين نظّمت هذا العرض العسكري الضخم إحياءً للذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، مستعرضة أحدث أعتدتها ومعدّاتها العسكرية.
الأحادية الأمريكية… بين الهيمنة والتنمر
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، هيمنت الولايات المتحدة على النظام الدولي، وفرضت رؤيتها للعالم من خلال المؤسسات الدولية، والعقوبات، والتدخلات العسكرية. هذا النموذج، الذي يُعرف بـ«الأحادية القطبية»، أصبح محل انتقاد متزايد من قبل دول مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية.
اللقاء الأخير بين وزيري الخارجية حمل انتقادات واضحة للسياسات الأمريكية، واصفًا إياها بـ«التنمر الدولي». هذا التوصيف يعكس شعورًا مشتركًا لدى بكين وبيونغ يانغ بأن واشنطن تستخدم قوتها لفرض إرادتها، دون اعتبار لمصالح الدول الأخرى أو خصوصياتها الثقافية والسياسية.
المبادرات الصينية… نحو عالم متعدد الأقطاب
الرئيس الصيني شي جين بينغ أطلق عدة مبادرات تهدف إلى إعادة تشكيل النظام العالمي، أبرزها مبادرة «مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية»، التي تدعو إلى التعاون الدولي، واحترام السيادة، ورفض الهيمنة.
كوريا الشمالية، رغم عزلتها، أعلنت دعمها لهذه المبادرات، معتبرة أنها «مساهمات مهمة من الصين لبناء عالم أكثر عدالة». هذا الدعم يعكس رغبة بيونغ يانغ في أن تكون جزءًا من المشروع الصيني، وأن تخرج من دائرة العزلة الغربية.
شرق آسيا بين التوتر والتحالف
التحالف بين الصين وكوريا الشمالية له انعكاسات مباشرة على التوازنات العسكرية في شرق آسيا. في ظل وجود قواعد أمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية، فإن التنسيق بين بكين وبيونغ يانغ يمثل تحديًا مباشرًا لهذا الوجود.
كوريا الشمالية تمتلك برنامجًا نوويًا مثيرًا للجدل، والصين تعتبره جزءًا من معادلة الأمن الإقليمي. التنسيق بين البلدين في هذا الملف يعزز من قدرة بيونغ يانغ على التفاوض، ويمنح الصين ورقة ضغط إضافية في مواجهة واشنطن.
أشار يانغ مو جين، من قسم الدراسات الكورية الشمالية في جامعة سيول، إلى أن «كيم سيعبر على الأرجح عن التزامه بالعودة إلى المحادثات السداسية مع ترك الصين تقرر الموعد»، ما يعكس الدور المحوري لبكين كوسيط إقليمي وصاحب نفوذ في الملف النووي الكوري.
الإعلام الغربي… قراءة مشوشة أم تحذير مبكر؟
الصحافة الغربية، وعلى رأسها «نيويورك تايمز»، وصفت زيارة «كيم جونغ أون» الأخيرة إلى الصين بأنها «انتصار دبلوماسي»، ما يعكس قلقًا متزايدًا من تنامي هذا التحالف. لكن هذه التغطية غالبًا ما تتجاهل البعد الأيديولوجي، وتختزل العلاقة في مصالح آنية.
الإعلام الغربي يميل إلى قراءة التحالفات من منظور ليبرالي، متجاهلًا السياق الثقافي والسياسي الذي يحكم دول مثل الصين وكوريا الشمالية. هذا التجاهل يؤدي إلى سوء فهم، ويزيد من التوترات بدلًا من تخفيفها.
شراكة تتجاوز الجغرافيا… وتعيد تشكيل المعادلة الدولية
في ظل هذا التقارب المتسارع، يرى مراقبون أن التحالف بين بكين وبيونغ يانغ تجاوز مرحلة التنسيق التكتيكي ليصبح جزءًا من إعادة هندسة التوازنات الدولية. فالصين، التي تسعى إلى كسر احتكار واشنطن للقرار العالمي، تجد في كوريا الشمالية شريكًا صلبًا لا يخضع للابتزاز السياسي، بينما ترى بيونغ يانغ في الصين مظلة استراتيجية تحميها من العزلة وتمنحها هامشًا أكبر للمناورة. هذا التلاقي لا يُبنى فقط على المصالح، بل على شعور مشترك بأن العالم بحاجة إلى نظام أكثر تنوعًا، يُنهي عقودًا من التفرد الأمريكي، ويمنح الدول المستقلة صوتًا أقوى في صياغة المستقبل. ومع تصاعد التوترات في المحيطين الهندي والهادئ، وتنامي التحالفات الغربية، يبدو أن هذا التحالف الآسيوي يكتسب زخمًا جديدًا، ويؤسس لمرحلة أكثر تعقيدًا في العلاقات الدولية، حيث لم تعد الجغرافيا وحدها تحدد التحالفات، بل الرؤية المشتركة لمستقبل العالم.
كما قد يكون التحالف بين الصين وكوريا الشمالية نواة لتحالف آسيوي أوسع، يضم دولًا مثل روسيا، و.. وربما دولًا أخرى تتبنى سياسات مستقلة عن الغرب. هذا التحالف يمكن أن يعيد تشكيل النظام الدولي، ويضع حدًا للأحادية الأمريكية.
ولكن رغم التقارب، يواجه البلدان تحديات داخلية: الصين تسعى إلى الحفاظ على نموها الاقتصادي وسط ضغوط أمريكية، وكوريا الشمالية تواجه عزلة دولية وعقوبات خانقة. نجاح التحالف يعتمد على قدرة البلدين على تجاوز هذه التحديات، وتحويل التعاون إلى مشاريع ملموسة. وهكذا التحالف بين الصين وكوريا الشمالية ليس مجرد تقارب سياسي، بل هو تعبير عن رفض مشترك لنظام دولي يهيمن عليه طرف واحد. في زمن تتسارع فيه التحولات، وتتشابك فيه الأزمات، يبدو أن بكين وبيونغ يانغ اختارتا أن تسيرا معًا، لا كحلفاء ظرفيين، بل كشركاء في مشروع عالمي جديد، متعدد الأقطاب، أكثر عدالة، وأقل خضوعًا للهيمنة.