كيف تتحكم في مستقبلك قبل أن يحدث؟

هل ستترك مستقبلك يتشكَّل وفق ما تمليه الصُّدف والرِّياح العابرة، أم ستقف بشجاعة لترسمه بيدك وتصنعه بوعي، خطوة بعد خطوة وقرارًا إثر قرار؟ إنَّ العظمة لا تُعطى مجانًا، وأبواب النَّجاح لا تُفتح لمن ينتظر على قارعة الطَّريق، وكلُّ يوم يمرُّ هو لبنة في صرحك القادم، إمَّا أن تضعها بإتقان...

حين يقف الشَّاب على عتبة الحياة، يتراءى له المستقبل صفحة بيضاء لم تُسطَّر بعد، ولوحة تنتظر أن يملأها بألوان أحلامه وخطوط اختياراته. ومع ذلك، فإنَّ هذه اللوحة لا تبقى فارغة إلى الأبد، وتتشكل تدريجيًا من ألوان القرارات الصَّغيرة التي يتَّخذها كلَّ يوم.

 

قد يظنُّ بعض الشَّباب والفتيات أنَّ الحاضر وحده هو الذي يستحق الاهتمام، وأنَّ المستقبل سيكشف عن نفسه حين يحين وقته؛ لكن الحقيقة أنَّ المستقبل هو انعكاس طبيعي للأفكار والعادات والسُّلوكيات التي يعيشها الإنسان اليوم.

 

إنَّ الشباب بطبيعتهم يملكون طاقة كبيرة، وأحلامًا واسعة، ورغبة في التَّميز، لكن كثيرًا منهم يضيعون في دوَّامة اللحظة الرَّاهنة، فينشغلون بما هو سريع وممتع بدلًا من أن يستثمروا وقتهم في بناء ما هو أبقى وأنفع. والسُّؤال الذي يجب أن يطرحوه على أنفسهم دائمًا: إلى أين تقودني هذه الخطوة التي أخطوها الآن؟

 

فإذا كان الجواب يقود إلى مستقبل مظلم أو مليء بالنَّدم، فقد آن الأوان للتَّوقف وإعادة التَّفكير.

 

إنَّ تأمل المستقبل يعني امتلاك البصيرة الكافية لتجسيد النَّتائج والعواقب قبل أن تقع، وكأنَّ الإنسان ينظر بعين عقله إلى عشرين عامًا قادمة فيرى بوضوح ثمار ما زرعه اليوم. وهذا الوعي هو ما يميِّز الإنسان النَّاجح عن غيره؛ فالنَّاجح لا ينتظر أن تصفعه التَّجارب القاسية حتَّى يتعلَّم؛ وإنَّما يتخيَّل العواقب منذ البداية، ويتَّخذ قراراته بحكمة، في حين أنَّ غيره يمشي بعشوائية حتَّى يجد نفسه في نفق ضيِّق لا مخرج له؛ فالمستقبل ليس بعيدًا كما يظنُّ الشَّباب، فهو يولد من تفاصيل اليوم، من ساعة مذاكرة بجدّ، ومن عادة صغيرة في ضبط النَّفس أو التَّخلي عن الكسل. وإذا لم يدرك الشَّاب هذه الحقيقة، فإنَّه سيستيقظ بعد سنوات ليكتشف أنَّ قطار الحياة قد ابتعد كثيرًا عنه، وأنَّه لم يحجز لنفسه مقعدًا في رحلته نحو النَّجاح.

 

ومن هذا المنطلق ينبغي للشباب أن يجسِّدوا نتائج أعمالهم في خيالهم قبل أن يعيشوها على أرض الواقع؛ فإذا تعلَّموا هذه المهارة، فإنَّهم سيملكون مفتاح التَّغيير الحقيقي، وسيكونون قادرين على توجيه حياتهم نحو النَّجاح والإنجاز بدلًا من التَّيه والنَّدم.

 

المحور الأوَّل: منظور النَّتائج والعواقب

 

حين يبحث الإنسان عن الدَّافع الذي يحفزه لتغيير سلوك ما، فإنَّه عادةً يجد هذا الدَّافع من خلال أحد منظورينِ رئيسيينِ: المنظور الإيجابي، والمنظور السلبي. وهذا الانقسام هو أساس كلِّ قرار مصيري في حياتنا.

 

ويقوم (المنظور الإيجابي) على استحضار الصُّورة المشرقة للمستقبل؛ فعندما يتخيَّل الشَّاب نفسه بعد عشر سنوات وقد أصبح متفوقًا في دراسته، ناجحًا في عمله، مستقرًا في حياته، يحظى باحترام الآخرين وثقتهم، فإنَّ هذا التَّصور يمنحه طاقة تدفعه نحو المثابرة والاجتهاد. فيأخذ بالاستيقاظ في الصَّباح وهو يعرف أنَّ ساعات الجهد التي يقضيها الآن هي استثمار في بناء ذاته. وهذا المنظور يبدِّل الألم المؤقت إلى معنى عميق، ويجعل الصَّبر على المشقة أمرًا مقبولًا ومطلوبًا؛ لأنَّه الطَّريق الذي يقوده نحو الصُّورة التي رسمها لنفسه.

 

أمَّا (المنظور السلبي) فيتمثَّل في استحضار العواقب المظلمة إذا استمر الإنسان على عاداته السلبيَّة؛ فالشَّاب الذي يضيع وقته بلا هدف، ويستسلم للكسل، ويؤجل مهامه، إذا تخيَّل نفسه بعد عشرين عامًا فاشلًا، ضعيف الشَّخصيَّة، محاصرًا بالدُّيون، فاقدًا للفرص، محاطًا بالنَّدم، فإنَّ هذا التَّخيل المؤلم يمكن أن يكون دافعًا قويًا له ليغيِّر مساره؛ فبعض النَّاس لا يتحركون إلَّا حين يشعرون بحرارة الخطر، ولا يستيقظون إلَّا حين تلوح أمامهم صورة المآل المرعب الذي ينتظرهم إن لم يغيِّروا حياتهم.

 

لكن المعضلة تكمن في أن كثيرًا من الشَّباب لا يعطون أنفسهم فرصة ليتأملوا بهذه الطَّريقة. ويعيشون يومهم كما هو، يضحكون وينشغلون ويمرّون بأوقات ممتعة؛ لكنَّهم لا يتوقفون لحظة ليتساءلوا: ما الذي سيحدث لو استمريت على هذا النَّمط خمس سنوات؟ عشر سنوات؟ وهنا تكمن خطورة الأمر؛ فمن لم يرَ المستقبل بعين عقله، سيصطدم به وجهًا لوجه وهو غير مستعد، وحينها يكون الأوان قد فات لتصحيح الأخطاء.

 

إنَّ الفرق بين من يعيش حاضره بلا رؤية وبين من يجسد العواقب والنَّتائج في مخيلته يشبه الفرق بين من يقود سيارته في طريق مظلم بلا أضواء، ومن يقود في طريق مضاء يرى فيه كل منعطف بوضوح. الأوَّل عرضة للحوادث والارتطام، وأمَّا الثَّاني فحتَّى لو واجه صعوبات فإنَّه يعرف كيف يتجنبها؛ لأنَّه يراها قادمة من بعيد.

 

المحور الثَّاني: التَّصوير الذِّهني للمستقبل

 

إنَّ أعظم هدية يمتلكها الإنسان هي قدرته على التَّخيل؛ فالخيال هو أداة قويَّة يمكن أن تصنع الواقع إذا استُخدمت بذكاء. والتَّصوير الذِّهني للمستقبل يعني أن يغمض الشَّاب عينيه، ويسمح لعقله أن يسافر إلى الأمام عشرين عامًا، ثمَّ يسأل نفسه:

 

كيف سيكون شكلي؟

 

ماذا سأكون قد حققت؟

 

ما هي العلاقة التي سأبنيها مع عائلتي؟

 

كيف سيكون وضعي المالي؟

 

كيف ينظر إليَّ النَّاس؟

 

إنَّ هذه الأسئلة حين تُطرح بصدق، تولّد صورًا ذهنيَّة قد تكون صادمة أو ملهمة؛ فالشَّاب الذي أهدر وقته في اللهو والتَّسويف سيجد نفسه في مخيلته بعد عشرين عامًا شخصًا منهكًا، بلا إنجازات، محاصرًا بالنَّدم. وأمَّا الشاب الذي بدأ منذ الآن بالاستثمار في علمه وصحته وعلاقاته، فسيرى صورة مشرقة: قائد ناجح، أو مهني متميِّز، أو أب مثالي، أو إنسان له بصمة في مجتمعه.

 

والتَّصوير الذِّهني له خطوات واضحة؛ وهي:

 

أوَّلًا: اختر مجال حياتك الأهم الآن: قد يكون دراستك، أو عملك، أو صحتك، أو علاقاتك. ولا تحاول أن تتخيَّل كلَّ شيءٍ دفعة واحدة، ولكن ركِّز على جانب واحد.

 

ثانيًا: تخيَّل نفسك بعد عشرين عامًا في هذا الجانب: على سبيل المثال، إذا اخترت جانب الصحة، فاسأل نفسك: هل أرى جسدي رياضيًا، قويًا، ممتلئًا بالحيوية؟

 

أم أرى نفسي ضعيفًا، مرهقًا، محاصرًا بالأمراض؟

 

ثالثًا: اربط الصُّورة المستقبليَّة بسلوكك الحالي: فإذا رأيت نفسك قويًا بعد عشرين عامًا، تذكّر أنَّ ذلك لأنَّك قررت اليوم أن تمارس الرِّياضة بانتظام، وأن تحافظ على غذاء متوازن. وأمَّا إذا رأيت نفسك مريضًا، فاعلم أنَّ السَّبب هو عاداتك السلبيَّة الآن.

 

رابعًا: اجعل الصُّورة واقعيَّة: تخيَّل تفاصيلها، مكانك، أصوات من حولك، ملامح وجهك، مشاعرك وأنت تعيش تلك اللحظة. وكلَّما كانت الصورة أوضح وأكثر تفصيلًا، كانت أكثر تأثيرًا على قراراتك اليوميَّة.

 

إنَّ التصوير الذهني للمستقبل هو تمرين عقلي يمارسه النَّاجحون باستمرار. والرياضيون العالميون مثلًا يتخيَّلون لحظة الفوز قبل أن يحققوها، والرُّواد في مجال الأعمال يرسمون في مخيلتهم صورة شركاتهم قبل أن تصبح حقيقة؛ لذلك، فإنَّ الشَّاب الذي يتقن هذه المهارة يختصر على نفسه سنوات من الضَّياع؛ لأنَّه لا ينتظر النَّتائج لتفرض عليه الواقع؛ بل يجسِّدها في عقله مسبقًا ليختار الطَّريق الصَّحيح.

 

ولعلَّ أبهى ما في التَّصوير الذِّهني أنَّه يضع بين يدي الإنسان معادلة واضحة وبسيطة: الحاضر ليس سوى بذور نغرسها اليوم، والمستقبل ما هو إلَّا حصاد تلك البذور غدًا. فمن بذر الكسل واللامبالاة فلن يحصد غير الخيبة والحسرة، ومن غرس الجدَّ والمثابرة فلا محالة أن يقطف ثمار النَّجاح والرِّفعة.

 

المحور الثَّالث: الرَّبط بين المستقبل والواقع الحالي

 

قد يظنُّ بعض الشَّباب أنَّ المستقبل يُبنى بالقرارات الكبرى فقط، مثل اختيار التَّخصص الجامعي أو العمل أو الزَّواج. لكن الحقيقة أنَّ المستقبل يتشكل من القرارات الصَّغيرة التي تتكرر كلَّ يوم، حتَّى لو بدت في ظاهرها غير مهمة؛ فطريقة استغلال ساعة واحدة من وقتك، أو اختيارك بين قراءة كتاب أو تصفح هاتفك، أو قرارك أن تنهض مبكرًا أو تنام حتَّى منتصف النهار؛ كلها قرارات صغيرة؛ لكنَّها حين تتراكم، تصنع مصيرك.

 

خذ مثالًا بسيطًا: شاب يقرر أن يقرأ يوميًا نصف ساعة فقط في مجال تخصصه. بعد عام واحد سيكون قد قرأ ما يعادل مئات الصَّفحات، أي ما يكفي ليمنحه ثقة ومعرفة أوسع من كثير من أقرانه. وفي الوقت نفسه هناك شاب آخر قرر أن يقضي نصف ساعة إضافية يوميًا على مواقع التَّواصل من دون هدف، فبعد عام واحد سيجد نفسه غارقًا في التَّشتت، فاقدًا للتركيز، بلا أي إضافة حقيقيَّة إلى شخصيته أو معرفته؛ فالقرار بدا صغيرًا، لكن نتائجه مع مرور الوقت صنعت فرقًا شاسعًا.

 

والأمر يشبه قطرات الماء التي تنزل على صخرة صلبة. في البداية لا نرى لها أثرًا، لكن مع مرور السِّنين تشقّ الصَّخرة وتترك بصمتها الواضحة. كذلك هي عاداتك الصَّغيرة؛ إن استمريت على عادة صحيَّة أو معرفيَّة بسيطة، فستشكل شخصيتك على المدى البعيد بطريقة لا يمكن إنكارها.

 

ومن هنا نفهم أنَّ المستقبل هو نتاج متدرج للحاضر. ولا يوجد إنسان يصبح ناجحًا بين ليلة وضحاها، ولا أحد يسقط في الفشل بشكل مفاجئ. وكل ما في الأمر أنَّ الخطوات الصَّغيرة تتراكم بصمت حتَّى تصل إلى نقطة تحول كبرى.

 

الجميل في هذه المعادلة أنَّ الأمل دائمًا موجود. فحتَّى لو كان الماضي مليئًا بالقرارات الخاطئة، يكفي أن يبدأ الشاب من اليوم بقرارات صحيحة صغيرة ليرسم مستقبلًا جديدًا مختلفًا كليًا؛ فالتَّغيير لا يحتاج إلى معجزات؛ وإنَّما إلى بداية صادقة، تتكرر يومًا بعد يوم حتَّى تصنع الفارق.

 

المحور الرَّابع: المستقبل المروّع والمستقبل البديل

 

الحياة في جوهرها ليست سوى سلسلة من الخيارات. وكلُّ خيار يفتح بابًا، وكلُّ باب يقود إلى طريق، وفي نهاية الطَّريق يقف المستقبل بانتظار صاحبه، حاملًا له نتائج لا مفر منها. ومن أروع ما يمكن للشَّاب أن يتأمله هو إدراك أن أمامه دائمًا طريقينِ: مستقبل مروّع يزرع فيه النَّدم، ومستقبل بديل يملؤه الأمل والنَّجاح.

 

(المستقبل المروّع) هو الصورة التي تتشكَّل عندما يعيش الإنسان بلا وعي، مستسلمًا لعاداته السلبيَّة. وتخيَّل شابًا يقضي أجمل سنوات عمره في النَّوم حتَّى منتصف النهار، وفي السَّهر الفارغ حتَّى الفجر، وفي اللهو الذي لا يبني علمًا ولا مهارة. هذا الشَّاب قد يضحك الآن ويظن أنَّ الأمور بسيطة، لكن حين يتقدَّم به العمر ويواجه تحديات الحياة الحقيقيَّة سيكتشف أنَّه بلا رصيد. وقد يجد نفسه عاطلًا بلا عمل، أو موظفًا في وظيفة هامشية بلا طموح، أو محاصرًا بالدُّيون والضُّغوط، فاقدًا لثقته بنفسه، ينظر حوله فيرى أصدقاءه وقد سبقوه أشواطًا وهو ما زال مكانه. تلك اللحظة ستكون قاسية؛ لأنَّها تكشف له أنَّ الزَّمن مضى، وأنَّ ما كان يمكن تغييره بالأمس أصبح أثقل اليوم.

 

لكن في المقابل، هناك دائمًا (المستقبل البديل). وهذا المستقبل المشرق يبدأ عندما يقرر الشَّاب أن يستيقظ من غفلته، وأن يكسر دائرة الكسل والتَّسويف، وأن يغيّر عاداته اليوميَّة ولو بخطوات بسيطة. تخيَّل نفس الشَّاب وقد قرر بدلًا من السِّهر في التفاهات أن ينام مبكرًا ليستيقظ نشيطًا، وبدلًا من إضاعة الوقت أن يقرأ ساعة يوميًا، وبدلًا من اللامبالاة أن يضع لنفسه أهدافًا صغيرة ويحققها واحدة تلو الأخرى. بعد عشر سنوات، سيكتشف أنَّ كلَّ تلك الخطوات الصَّغيرة صنعت منه إنسانًا ناجحًا، قويًّا، محترمًا، له مكانته بين النَّاس، ولديه شعور بالرِّضا.

 

الفرق بين الطَّريقينِ ليس في الظُّروف؛ وإنَّما في الاختيارات اليوميَّة؛ فكل إنسان يملك نفس الأربع والعشرين ساعة؛ لكن بعضهم يستثمرها ليبني مجدًا، وبعضهم يهدرها في انتظار المجهول. ومن هنا نفهم أنَّ الشباب أمام خيارين حاسمين: إمَّا أن يتركوا حياتهم تسير بهم نحو مستقبل مظلم مليء بالخيبات، وإمَّا أن يستعيدوا زمام المبادرة ليصنعوا مستقبلًا بديلًا، مستقبلًا يستحق أن يُعاش.

 

إنَّ المستقبل المظلم لا ينزل على الإنسان قهرًا؛ وإنَّما يتكوَّن من ثمار الإهمال والكسل. والمستقبل المشرق لا يعيش في دائرة الأوهام البعيدة؛ بل يتجسَّد في حصاد الجهد والمثابرة. وبين هذينِ الطَّريقينِ يقف المرء حرًّا، يرسم بقراراته ملامح غده. ومثل هذا الوعي كفيل أن يوقظ قلب الشَّاب من غفلته، ويدفعه ليسأل نفسه: أي صورة أريد أن أعيشها بعد عشرين عامًا؟

 

 

المصدر: وكالات