في عالمٍ تتشابك فيه المصالح وتُقمع فيه المبادئ، تبرز أميركا اللاتينية كصوتٍ أخلاقيٍ نادر، يرفض الصمت أمام المجازر، ويعيد تعريف التضامن بوصفه فعلًا سياسيًا لا مجرد تعاطف. القضية الفلسطينية، التي لطالما كانت مرآةً تعكس صراعًا عالميًا بين الاستعمار والمقاومة، تجد اليوم في شعوب ودول أميركا اللاتينية حلفاء يتجاوزون الخطاب إلى الفعل: قطع علاقات، حظر صادرات، وقف تسليح، وملاحقة قانونية.
هذا التحول لا يأتي من فراغ، بل من تاريخ طويل من النضال ضد الإمبريالية، ومن ذاكرة جماعية تعرف معنى الاحتلال، القهر، والعدالة المنقوصة. من المكسيك إلى تشيلي، ومن كولومبيا إلى فنزويلا وبوليفيا، تتشكل اليوم جبهة إقليمية تضع فلسطين في قلب معادلة الجنوب العالمي، وتعيد رسم خريطة التحالفات الدولية على أساس أخلاقي وإنساني.
المكسيك.. النقابات تقود المعركة الأخلاقية
في العاصمة المكسيكية، تحوّلت قاعة “إرنستو فيلاسكو” إلى منبر مقاومة، حيث اجتمعت نقابات كبرى مثل UNT وCNTE وSITUAM إلى جانب السفيرة الفلسطينية نادية رشيد، لإطلاق دعوات صريحة لقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني. هذا الحراك النقابي لا يُستهان به، فالنقابات في المكسيك تملك تاريخًا طويلًا من التأثير السياسي والاجتماعي، وقد لعبت أدوارًا محورية في التحولات الديمقراطية والاقتصادية.
المنتدى الذي نظّمته هذه النقابات لم يكتفِ بالتنديد، بل دعا إلى خطوات عملية: إضرابات، تعبئة شعبية، ومقاطعة اقتصادية، مستلهمًا تجارب أوروبية مثل إيطاليا وإسبانيا. هذا يعني أن التضامن مع فلسطين لم يعد مجرد شعار، بل أصبح جزءًا من استراتيجية نضالية عابرة للحدود.
اللافت أن هذا الحراك النقابي لم يأتِ من فراغ، بل من تراكمات تاريخية، حيث كانت النقابات المكسيكية دائمًا في طليعة الدفاع عن القضايا العادلة، من مقاومة اتفاقيات التجارة الحرة إلى دعم حركات التحرر في أميركا الوسطى. واليوم، تُضاف فلسطين إلى هذه القائمة، بوصفها قضية أخلاقية تتطلب موقفًا واضحًا.
تشيلي.. من المقاطعة إلى المحاكمة
تشيلي، بقيادة الرئيس التقدمي «جابرييل بوريك»، اتخذت خطوات غير مسبوقة: وقف نهائي لصفقات الأسلحة مع العدو الصهيوني، سحب الملحقين العسكريين، وقطع العلاقات الدبلوماسية. وزيرة الدفاع أدريانا ديلبيانو وصفت القرار بأنه «موقف سياسي وأخلاقي»، ما يعكس تحولًا في فهم العلاقات الدولية، إذ لم تعد المصالح العسكرية تتفوق على المبادئ الإنسانية.
الأهم من ذلك، أن تشيلي تقدّمت بطلب رسمي إلى المحكمة الجنائية الدولية لفتح تحقيق بجرائم الحرب في غزة، وانضمت إلى قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية. هذا يعني أن تشيلي لم تكتفِ بالمقاطعة، بل دخلت ميدان المحاسبة القانونية، لتكون صوتًا للعدالة في المحافل الدولية.
هذا الموقف ليس جديدًا على تشيلي، التي شهدت في تاريخها انقلابًا دمويًا عام 1973 بدعم أميركي، وتعيش ذاكرة جماعية مناهضة للاستبداد. لذلك، فإن دعم فلسطين ليس فقط موقفًا سياسيًا، بل امتدادًا لهوية وطنية ترى في المقاومة الفلسطينية صدىً لمقاومتها الخاصة.
كولومبيا.. الفحم في خدمة المقاومة
كولومبيا، الدولة المصدّرة الكبرى للفحم في أميركا اللاتينية، اتخذت خطوة جريئة بحظر تصدير الفحم إلى العدو الصهيوني، لمنع استخدامه في دعم آلة الحرب. الرئيس «جوستافو بيترو»، المعروف بمواقفه التقدمية، دعا إلى «مواجهة كيان العدو بالقوة القانونية الدولية»، مؤكدًا أن البيانات لم تعد كافية.
القرار الكولومبي لم يكن فرديًا، بل شارك في توقيعه وزراء الخارجية، المالية، والطاقة، ما يعكس إجماعًا حكوميًا على ضرورة اتخاذ موقف حازم. وزيرة التجارة ديانا مارسِيلا موراليس روخاس أكدت أن القرار يستند إلى اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية وميثاق الأمم المتحدة، ما يمنحه شرعية قانونية دولية.
كولومبيا، التي عانت لعقود من حرب أهلية وتدخلات خارجية، ترى في فلسطين قضية تعكس صراعًا مشابهًا: شعبٌ يُحاصر ويُقمع، ويُتهم بالإرهاب لمجرد مطالبته بالحرية. لذلك، فإن موقفها ليس فقط تضامنًا، بل تعبيرًا عن فهم عميق لمعنى الاحتلال والمقاومة.
فنزويلا.. من تشافيز إلى مادورو.. دعم لا يتزعزع
منذ عهد هوغو تشافيز، كانت فنزويلا من أكثر الدول اللاتينية وضوحًا في دعمها لفلسطين. تشافيز طرد السفير الإسرائيلي عام 2009 احتجاجًا على العدوان على غزة، ووصف كيان العدو بأنها «قاتلة الأطفال». هذا الموقف لم يتغيّر مع الرئيس نيكولاس مادورو، الذي وصف ما يحدث في غزة بأنه «إبادة جماعية»، وأعلن تضامنه الكامل مع المقاومة الفلسطينية.
فنزويلا لا تكتفي بالتصريحات، بل تدعم فلسطين في المحافل الدولية، وتشارك في التصويت لصالح القرارات التي تدين الاحتلال، وتستضيف فعاليات تضامنية شعبية ورسمية بشكل دوري.
بوليفيا.. قطع العلاقات وإدانة الجرائم
بوليفيا كانت من أوائل الدول التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع كيان العدو بعد عدوان 2014 على غزة. الرئيس السابق إيفو موراليس وصف كيان العدو بأنه «دولة إرهابية»، وألغى اتفاقات التعاون الأمني معه. وفي السنوات الأخيرة، رغم تغيّر الحكومات، بقيت بوليفيا على موقفها الرافض للتطبيع، وأعادت التأكيد على دعمها لفلسطين في الأمم المتحدة.
نيكاراغوا.. صوت ثوري في وجه الاحتلال
نيكاراغوا، بقيادة الرئيس دانييل أورتيغا، تتبنى خطابًا ثوريًا واضحًا ضد الاحتلال. أورتيغا وصف العدوان على غزة بأنه «جريمة ضد الإنسانية»، وأكد أن نيكاراغوا تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الحرية. كما شاركت نيكاراغوا في دعم القضية أمام محكمة العدل الدولية، ورفضت أي علاقات مع الكيان الصهيوني.
البرازيل.. التردد بين المبادئ والمصالح
البرازيل، رغم أنها من أكبر دول القارة، تتخذ موقفًا أكثر توازنًا. في عهد الرئيس لولا دا سيلفا، عبّرت الحكومة عن قلقها من المجازر في غزة، ووصفتها بأنها «غير مقبولة»، لكنها لم تصل إلى حد قطع العلاقات أو فرض عقوبات. ومع ذلك، يشهد الشارع البرازيلي حراكًا شعبيًا واسعًا، خصوصًا من النقابات والجامعات، التي تنظم مظاهرات ومبادرات لمقاطعة كيان العدو الصهيوني.
هذا التردد يعكس صراعًا داخليًا بين المصالح الاقتصادية والعلاقات الدولية من جهة، والمبادئ الأخلاقية والتضامن الشعبي من جهة أخرى. ومع تصاعد المجازر في غزة، قد تجد الحكومة نفسها مضطرة لاتخاذ موقف أكثر وضوحًا.
من التضامن إلى إعادة تشكيل الخطاب الدولي
ما يُميز مواقف أميركا اللاتينية اليوم ليس فقط جرأتها، بل قدرتها على إعادة تشكيل الخطاب الدولي حول فلسطين. لم تعد القضية تُناقش فقط من زاوية «النزاع»، بل باتت تُطرح بوصفها نموذجًا للاستعمار الحديث، والإبادة المنظمة، والتواطؤ الدولي. هذا التحول في اللغة السياسية، الذي تقوده دول الجنوب، يُجبر المؤسسات الدولية على مراجعة معاييرها، ويضع الاحتلال في مواجهة خطاب جديد لا يهادن ولا يساوم.
اللافت أن هذا الخطاب لا يصدر فقط عن الحكومات، بل عن النقابات، الجامعات، الحركات الاجتماعية، وحتى الكنائس، ما يمنحه شرعية شعبية واسعة، ويجعله أكثر تأثيرًا من المواقف الرسمية التي غالبًا ما تكون محكومة بالحسابات الدبلوماسية.
فلسطين كمرآة للضمير العالمي
في قلب هذا التحول، تبرز فلسطين ليس فقط كقضية شعب يُقاوم الاحتلال، بل كمرآة تكشف مواقف الدول من العدالة والحرية. الدول التي تقف إلى جانب فلسطين تُعلن انحيازها للإنسانية، بينما تلك التي تبرر المجازر أو تلتزم الصمت، تُفضح أمام شعوبها والعالم.
أميركا اللاتينية، بهذا المعنى، لا تدعم فلسطين فقط، بل تدافع عن ضمير العالم، وتُعيد تعريف معنى أن تكون دولة ذات سيادة، ذات موقف، وذات أخلاق. إنها لحظة تاريخية، حيث تتحول غزة من ساحة حرب إلى معيار أخلاقي، وتتحول أميركا اللاتينية من هامش جغرافي إلى مركز أخلاقي عالمي.
الجنوب العالمي يعيد تعريف التضامن
ما يحدث اليوم في أميركا اللاتينية هو أكثر من مجرد تضامن مع فلسطين. إنه إعادة تعريف للعلاقات الدولية، حيث تُصبح العدالة معيارًا، والمقاومة قيمة، والمواقف الأخلاقية جزءًا من السياسات الرسمية. هذه الدول، التي تنتمي إلى الجنوب العالمي، ترفض أن تكون هامشًا في معادلة القوة، وتختار أن تكون ضميرًا عالميًا يواجه الاحتلال، ويطالب بالمحاسبة.
من غزة إلى بوغوتا إلى سانتياغو، يتشكل اليوم تحالفٌ أخلاقيٌ جديد، لا تحكمه المصالح الضيقة، بل تحركه القيم الإنسانية. هذا التحالف، الذي تقوده شعوب ودول الجنوب، قد يكون الأمل الأخير في عالمٍ يزداد ظلمة، لكنه لا يزال يملك أصواتًا ترفض الاستسلام.
أميركا اللاتينية، التي كانت تُعتبر هامشًا في السياسة الدولية، تفرض اليوم نفسها كقوة أخلاقية، تملك الجرأة على قول «لا» للاحتلال، و«نعم» للعدالة. هذه المواقف لا تعني فقط دعمًا لفلسطين، بل تعني إعادة تعريف دور الجنوب العالمي في صياغة مستقبل أكثر إنصافًا.
إنها لحظة فارقة، حيث تتحول القارة التي قاومت الاستعمار، وواجهت الانقلابات، ورفضت الهيمنة، إلى منبر عالمي للحق. وإذا كانت غزة تقاوم بالصمود، فإن أميركا اللاتينية تقاوم بالموقف، والمقاطعة، والمحاسبة. وبين الصمود والموقف، تُكتب فصول جديدة من تاريخ الحرية.