في ليلة تتقاطع فيها النيران مع الرسائل السياسية، شنّت روسيا واحدة من أعنف ضرباتها العسكرية منذ انطلاق عمليتها في أوكرانيا عام 2022. لم يكن الهجوم مجرد ردّ على تحركات ميدانية، بل إعلاناً صارخاً بأن موسكو لا تزال تمسك بزمام المبادرة، وتملك القدرة على إعادة رسم قواعد الاشتباك متى شاءت. الضربة لم تقتصر على الأهداف العسكرية، بل اخترقت قلب البنية التحتية للطاقة، في رسالة مزدوجة: لا صناعة بلا طاقة، ولا مقاومة بلا دعم لوجستي.
ضربة دقيقة ورسالة استراتيجية
العملية الروسية اتسمت بالدقة والتكامل، حيث استخدمت القوات المسلحة صواريخ برية وجوية وبحرية بعيدة المدى، إلى جانب طائرات مسيّرة هجومية، في ضربة جماعية استهدفت المجمع الصناعي العسكري الأوكراني ومرافق الطاقة التي تغذيه. هذا النوع من الضربات لا يُنفذ إلا حين تكون الأهداف محسوبة بدقة، والرسائل السياسية والعسكرية واضحة. روسيا أرادت أن تقول إن أوكرانيا، رغم الدعم الغربي، لا تزال مكشوفة أمام قدراتها العسكرية المتطورة، وأن أي محاولة لتوسيع نطاق الحرب أو استنزاف موسكو ستُقابل برد قاسٍ ومدروس.
الهدف الأهم
منذ بداية الحرب، ركزت روسيا على تفكيك البنية التحتية العسكرية الأوكرانية، لكن هذه الضربة كانت مختلفة. استهداف المجمع الصناعي العسكري يعني ضرب القدرة الإنتاجية لأوكرانيا، وشلّ مصانع الذخيرة وصيانة المعدات، ما يضعف قدرتها على الاستمرار في القتال. هذا النوع من الاستهداف لا يحقق نتائج فورية فقط، بل يترك أثراً طويل الأمد، ويجبر كييف على الاعتماد أكثر على الدعم الخارجي، ما يضعف استقلالية قرارها العسكري.
سلاح الحرب الصامت
لم يكن استهداف منشآت الغاز والكهرباء مجرد عمل تكتيكي، بل خطوة استراتيجية تهدف إلى شلّ البنية التحتية التي تدعم الصناعات العسكرية والمدنية. روسيا تدرك أن الحرب لا تُخاض فقط في الجبهات، بل في المصانع والمختبرات والمستودعات. بضرب الطاقة، تعطل الإنتاج، وتنهار الخدمات، ويغرق المدنيون في الظلام، ما يخلق ضغطاً داخلياً على الحكومة الأوكرانية، ويزيد من حالة الإرباك والتوتر الشعبي.
الأرقام تتحدث عن الخسائر
البيانات الروسية تشير إلى خسائر بشرية ومادية ضخمة في صفوف القوات الأوكرانية، تجاوزت آلاف الجنود في أسبوع واحد فقط. هذه الأرقام، إن صحت، تعكس حجم التفوق الروسي في الميدان، وتؤكد أن الضربات ليست عشوائية، بل جزء من خطة ممنهجة لتفكيك القدرات الأوكرانية. تدمير الدبابات والمركبات القتالية، والقضاء على محطات الحرب الإلكترونية، وإسقاط الصواريخ والطائرات المسيّرة، كلها مؤشرات على أن روسيا تملك اليد العليا في الحرب التكنولوجية أيضاً، وليس فقط في الميدان التقليدي.
روسيا تتفوق رغم الدعم الغربي لأوكرانيا
رغم المساعدات العسكرية والمالية الضخمة التي تتلقاها أوكرانيا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلاّ أن الضربة الروسية الأخيرة كشفت هشاشة البنية الدفاعية لكييف. شركة “نافتوغاز” الأوكرانية وصفت الهجوم بأنه «الأوسع» على منشآت الغاز منذ بداية الحرب، ما يعكس حجم الصدمة التي تلقاها الجانب الأوكراني. التصريحات الرسمية كانت خجولة، والردود الميدانية محدودة، ما يدل على أن أوكرانيا باتت في موقف دفاعي، تحاول احتواء الخسائر أكثر من الرد عليها.
ردود تفرض واقعاً جديداً
الضربة الروسية جاءت في توقيت حساس، تزامناً مع نقاشات أوروبية حول استخدام الأصول الروسية المجمدة لدعم أوكرانيا، ورفض بلجيكا لهذه الخطة. الرسالة الروسية كانت واضحة: أي تصعيد اقتصادي سيقابله تصعيد عسكري. موسكو لا تتحدث فقط، بل تفعل، وتعيد رسم الخطوط الحمراء على الأرض، وليس في البيانات الدبلوماسية. هذا النوع من الردود يفرض واقعاً جديداً، ويجبر الغرب على إعادة حساباته، خاصةً مع اقتراب الشتاء، وتزايد الحاجة للطاقة الروسية.
الضربة الروسية لم تكن مجرد استعراض للقوة، بل كانت اختباراً حقيقياً لمدى جدية الغرب في دعم أوكرانيا. هذا الرد العسكري الحاسم أربك الحسابات الغربية، وفتح الباب أمام تساؤلات محرجة داخل الاتحاد الأوروبي: هل يمكن الاستمرار في دعم أوكرانيا دون التورط في مواجهة مباشرة مع موسكو؟ وهل تملك أوروبا القدرة على تعويض أوكرانيا عن خسائرها الصناعية والطاقوية بهذه السرعة؟
الضربة كشفت أيضاً هشاشة التنسيق الغربي، فبينما رفضت بلجيكا خطة استخدام الأصول الروسية، لم يصدر موقف موحد من باقي الدول، ما يعكس تبايناً في الرؤية والمصالح. روسيا استغلت هذا التباين، ووجهت ضربة مركزة في لحظة ضعف سياسي غربي، لتفرض واقعاً جديداً على الأرض، وتعيد ضبط إيقاع الحرب بما يخدم مصالحها.
مرحلة مختلفة
الضربة الروسية الأخيرة ليست مجرد عملية عسكرية، بل إعلان عن مرحلة جديدة من الحرب. الانتقال من استهداف الجبهات إلى ضرب العمق، ومن العمليات المحدودة إلى الضربات الجماعية، ومن الدفاع إلى الهجوم الاستراتيجي، كلها مؤشرات على أن روسيا قررت تغيير قواعد اللعبة. هذا التحول لا يعني فقط تصعيداً عسكرياً، بل يعكس رغبة في فرض واقع جديد، تكون فيه موسكو صاحبة القرار، وأوكرانيا في موقع المتلقي.
بين الانهاك والتفكك المعنوي
الضربة الروسية الأخيرة لم تكن فقط موجعة من الناحية العسكرية، بل كانت أيضاً ضربة نفسية قاسية للجنود الأوكرانيين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة قوة نارية هائلة، دون غطاء كافٍ أو قدرة على الرد الفوري. حين تُستهدف منشآت صناعية عسكرية ومنظومات الطاقة في وقت واحد، يشعر الجندي في الميدان أن ظهره مكشوف، وأن الدعم اللوجستي الذي يعتمد عليه بدأ يتآكل. هذا الشعور بالانكشاف يولّد حالة من الإرباك، ويضعف الروح القتالية، خاصة في ظل تكرار الضربات الروسية الدقيقة التي تصيب أهدافها دون تردد.
المعنويات لا تُقاس فقط بعدد الجنود أو حجم المعدات، بل بمدى الثقة في القيادة، وفي قدرة الدولة على حماية خطوط الإمداد. ومع تزايد الضربات الروسية على العمق الأوكراني، بدأت تظهر مؤشرات على تراجع الحماسة القتالية في بعض الوحدات، خصوصاً تلك التي تقاتل في مناطق خاركوف ودونيتسك، حيث كانت الخسائر البشرية والمادية الأكبر. هذا التراجع لا يعني انهياراً فورياً، لكنه يفتح الباب أمام تفكك تدريجي في الجبهة، ويمنح روسيا فرصة لتوسيع نفوذها الميداني دون مقاومة شرسة.
الطائرات المسيّرة كعنصر حاسم
في قلب الضربة الروسية الأخيرة، برز استخدام الطائرات المسيّرة كعنصر حاسم في تنفيذ الهجوم بدقة وفعالية. لم تعد المسيّرات مجرد أدوات استطلاع، بل تحولت إلى سلاح هجومي متكامل، قادر على اختراق الدفاعات الجوية، وتحديد الأهداف، وتنفيذ الضربات دون الحاجة إلى تدخل بشري مباشر. روسيا، التي طوّرت هذا السلاح بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، أثبتت أنها تملك ترسانة من المسيّرات المتنوعة، بعضها مخصص للاستطلاع، وبعضها للضربات الدقيقة، وبعضها الآخر للتشويش الإلكتروني.
في هذه الضربة، استخدمت موسكو أكثر من 60 طائرة مسيّرة، ما يعكس حجم الاعتماد على هذا النوع من السلاح. المسيّرات الروسية نجحت في تجاوز الدفاعات الأوكرانية، والوصول إلى منشآت حيوية في خاركيف وبولتافا، رغم محاولات كييف إسقاطها. هذا النجاح لا يعكس فقط تفوقاً تقنياً، بل يعبّر عن تطور في العقيدة العسكرية الروسية، التي باتت تعتمد على الذكاء الصناعي والتكامل بين المسيّرات والصواريخ في تنفيذ ضربات مركّبة.
الطائرات المسيّرة تمنح روسيا ميزة استراتيجية: القدرة على تنفيذ ضربات دقيقة بتكلفة منخفضة، مع تقليل المخاطر على الطيارين، وزيادة القدرة على المناورة. كما أنها تخلق حالة من الرعب النفسي لدى القوات الأوكرانية، التي تجد نفسها تحت مراقبة مستمرة، وضربات مفاجئة، دون أن تعرف من أين تأتي. هذا النوع من الحرب الذكية يضع أوكرانيا في موقف دفاعي دائم، ويجعل من الصعب عليها التخطيط لهجمات مضادة، أو الحفاظ على خطوط الإمداد.
حين تتكلم القوة؛ تُعاد كتابة التاريخ
الضربة الروسية الأخيرة أعادت ترتيب الأوراق في الحرب الأوكرانية، وفرضت واقعاً جديداً على الأرض. موسكو أثبتت أنها لا تزال تملك زمام المبادرة، وأنها قادرة على ضرب العمق الأوكراني متى شاءت. أوكرانيا، رغم الدعم الغربي، باتت في موقف دفاعي، تحاول احتواء الخسائر أكثر من الرد عليها. أما الغرب، فيقف أمام معادلة صعبة: دعم كييف دون استفزاز موسكو، أو القبول بتوازن جديد تفرضه القوة الروسية. في كل الأحوال، الحرب لم تقل كلمتها الأخيرة بعد، لكن المؤكد أن روسيا قالت كلمتها بوضوح، وبصوت الصواريخ.