صوت الشعوب يكسر جدار الصمت

الاحتجاجات توقظ الضمير العالمي تجاه القضية الفلسطينية

من أوروبا إلى آسيا إلى العالم كله تشكّلت خارطة جديدة للتضامن مع غزة عبر فعاليات ومواقف سياسية واضحة، ترفض التواطؤ، وتدين الإبادة، وتطالب بكسر الحصار، وتُعيد تعريف فلسطين كقضية إنسانية عالمية

 

في لحظة تاريخية نادرة، اجتمعت أصوات شعوب العالم من مختلف العواصم لتقول كلمة واحدة: «فلسطين حرة». لم تكن هذه الهتافات مجرد صدى عابر في ساحات المدن، بل كانت تعبيرًا عميقًا عن تحوّل جذري في الوعي الشعبي العالمي تجاه القضية الفلسطينية، التي باتت تُرى اليوم لا كصراع بعيد، بل كمرآة تعكس جوهر العدالة والحرية في العالم المعاصر.

 

من لندن التي شهدت اعتقال المئات في وقفة صامتة، إلى روما التي أُغلقت فيها الموانئ والطرقات، مرورًا ببرشلونة، باريس، وبرلين، ووصولًا إلى إسلام آباد ونيودلهي، حيث امتزج الفن بالسياسة، والاحتجاج بالثقافة، تشكّلت خارطة جديدة للتضامن، خارطة لا ترسمها الحكومات، بل ترسمها الشعوب. هذه الفعاليات لم تكن مجرد تعبيرات عاطفية، بل كانت مواقف سياسية واضحة، ترفض التواطؤ، وتدين الإبادة، وتطالب بكسر الحصار، وتُعيد تعريف فلسطين كقضية إنسانية عالمية.

 

لندن.. حركة شعبية تتحدى القمع

 

 

في بريطانيا، لم تكن الوقفة الصامتة في ميدان ترافالغار سوى ذروة موجة تضامن شعبي متصاعدة مع غزة، جسّدت تحوّلًا عميقًا في المزاج العام تجاه القضية الفلسطينية. في العاصمة لندن، احتشد المئات في وقفة احتجاجية دعمًا لحركة «فلسطين أكشن»، متحدّين قرار الحكومة بحظرها وتصنيفها كمنظمة إرهابية. اعتقال نحو 500 شخص، بينهم قِس مسيحية وناشطة يهودية، لم يكن مجرد إجراء أمني، بل كشف عن صراع جوهري بين السلطة التي تسعى لتكميم الأصوات، وبين شعب يرفض أن يُجرّم تضامنه مع شعب يُباد.

 

هذه الوقفة كانت جزءًا من موجة أوسع شملت فعاليات متعددة في مدن بريطانية أخرى، إذ نظمت وقفات في مانشستر، ليفربول، وبرمنغهام، شارك فيها ناشطون من مختلف الخلفيات، من نقابات عمالية إلى جمعيات طلابية، وحتى منظمات دينية.

 

هذه الفعاليات، التي امتدت من الساحات إلى الجامعات، ومن الكنائس إلى النقابات، تؤكد أن التضامن مع فلسطين في بريطانيا لم يعد مجرد تعبير رمزي، بل أصبح حركة شعبية متجذرة، تتحدى القوانين القمعية، وتعيد تعريف معنى الحرية في قلب الديمقراطية الغربية.

 

إيطاليا تُغلق أبوابها في وجه الحرب

 

 

في مشهد غير مسبوق، شهدت إيطاليا إضرابًا عامًا شلّ حركة النقل، وأغلق الموانئ، واحتل محطات القطارات، احتجاجًا على اعتراض القوات الصهيونية لأسطول المساعدات المتجه إلى غزة. مئات الآلاف خرجوا إلى الشوارع، رافعين الأعلام الفلسطينية، ومنددين بموقف حكومة «جورجيا ميلوني» التي وصفت المبادرة بأنها «غير مسؤولة».

 

في روما، انطلقت التظاهرة من محطة القطارات الرئيسية وجمعت أكثر من 80 ألف شخص، ما تسبب بتأخيرات كبيرة وحتى بإلغاء بعض الرحلات. وفي ميلانو، سار أكثر من 80 ألف متظاهر خلف لافتة ضخمة كُتب عليها «حرروا فلسطين، أوقفوا آلة الحرب»، بينما أغلق نحو عشرة آلاف محتجّ ميناء نابولي بالكامل. تورينو وجنوى شهدتا بدورهما حشودًا ضخمة، فيما احتل محتجون محطات القطارات من بيروجيا إلى كالياري، وأغلقوا جزءًا من الطريق الدائرية في بولونيا وميلانو، في تعبير واضح عن الغضب الشعبي المتصاعد.

 

في هذه اللحظة، تحولت الساحات الإيطالية إلى منصات للحرية، حيث امتزج الغضب الشعبي بالتضامن الإنساني، في مشهد يعكس أن فلسطين لم تعد قضية بعيدة، بل باتت تمسّ وجدان المواطن الأوروبي.

 

إسبانيا تهتف: «أوقفوا الإبادة»

 

في إسبانيا، لم تكن التظاهرات أقل زخمًا. برشلونة، المدينة التي لطالما احتضنت الحركات التقدمية، شهدت مظاهرة ضخمة شارك فيها أكثر من 50 ألف شخص، نظمتها أكثر من 600 منظمة ونقابة. اللافتات التي رُفعت لم تكتف بالمطالبة بوقف العدوان، بل طالبت بمحاسبة الشركات الإسبانية المتورطة في تصدير الأسلحة لكيان العدو، في تحول نوعي من التضامن إلى المساءلة.

 

وفي مدريد، نظمت فعاليات ثقافية تضامنية، شملت عروضًا مسرحية وموسيقية تحاكي معاناة الفلسطينيين، بينما شهدت مدينة فالنسيا وقفة صامتة أمام مقر الحكومة المحلية، شارك فيها فنانون وأكاديميون، مؤكدين أن الفن لا يمكن أن يكون محايدًا أمام الإبادة.

 

 فلسطين توحد الأصوات

 

في فرنسا، لم تكن الساحات أقل صخبًا، إذ شهدت باريس تظاهرات حاشدة انطلقت من ساحة الجمهورية، حيث احتشد آلاف المتظاهرين من مختلف الخلفيات، رافعين شعارات تطالب بوقف الدعم العسكري الفرنسي لكيان العدو. اللافت أن هذه التظاهرات لم تكن فقط من تنظيم الحركات اليسارية أو الجاليات العربية، بل شارك فيها نقابات عمالية، جمعيات طلابية، وحتى منظمات بيئية، في مشهد يعكس تداخل القضايا العالمية وتحوّل فلسطين إلى رمز للمقاومة ضد كل أشكال القمع. في مدينة ليون، نظمت وقفة تضامنية أمام مقر بلدية المدينة، شارك فيها فنانون ومثقفون، مؤكدين أن «الحرية لا تتجزأ، وغزة ليست بعيدة عن ضمير أوروبا».

 

أما في ألمانيا، فقد شهدت برلين وهامبورغ وميونيخ سلسلة من الفعاليات المتنوعة، تراوحت بين مسيرات شعبية وندوات أكاديمية ومعارض فنية توثق معاناة الفلسطينيين. في برلين، نظمت مجموعة من المثقفين الألمان والفلسطينيين معرضًا بعنوان «غزة تحت الحصار»، ضم لوحات وصور فوتوغرافية وشهادات حية من سكان القطاع، في محاولة لكسر الصمت الإعلامي وتسليط الضوء على الواقع اليومي تحت الاحتلال. وفي هامبورغ، خرجت تظاهرة ضخمة أمام مقر البرلمان المحلي، حيث طالب المتظاهرون بوقف تصدير الأسلحة الألمانية إلى كيان العدو، مؤكدين أن «الحياد في زمن الإبادة هو تواطؤ».

 

بحر أحمر في أمستردام

 

 

شهدت مدن هولندية عديدة، وعلى رأسها أمستردام ولاهاي وروتردام، موجة من المظاهرات الحاشدة شارك مئات الآلاف من المواطنين الهولنديين من مختلف الأعمار والخلفيات، مرتدين ملابس حمراء في مسيرات أُطلق عليها اسم «الخط الأحمر»، تعبيراً عن تجاوز كيان العدو للحدود الإنسانية في القطاع. رفع المتظاهرون الأعلام الفلسطينية ورددوا شعارات مثل «حرة حرة فلسطين» و«أوقفوا الإبادة»، مطالبين الحكومة الهولندية باتخاذ موقف أكثر صرامة، وفرض عقوبات سياسية واقتصادية عليه. هذه التحركات الشعبية، التي نظمتها أكثر من 130 منظمة حقوقية، تُعد من أكبر المظاهرات في تاريخ هولندا الحديث، وتعكس تنامي الوعي الشعبي تجاه القضية الفلسطينية.

 

أما في تركيا، فقد شهدت مدينة إسطنبول وقفة تضامنية حاشدة أمام ميناء «سراي بورنو»، حيث تجمّع المئات من النشطاء والمواطنين دعماً لقافلة «أسطول الصمود» التي اعترضتها القوات كيان الاحتلال. المشاركون رفعوا الأعلام الفلسطينية ولافتات كتب عليها «غزة ليست وحدها»، فيما ألقى ممثلو منظمات إنسانية كلمات تؤكد استمرار الدعم الشعبي التركي لكسر الحصار عن القطاع.

 

 باكستان والهند تهتفان لغزة

 

 

في مشهد يعكس اتساع رقعة التضامن العالمي مع فلسطين، شهدت مدن رئيسية في جنوب آسيا، وعلى رأسها إسلام آباد ونيودلهي، فعاليات شعبية وثقافية دعماً لقافلة «أسطول الصمود» التي اعترضتها القوات الإسرائيلية أثناء توجهها لكسر الحصار عن غزة.

 

في باكستان، خرجت تظاهرات حاشدة في إسلام آباد، كراتشي، ولاهور، حيث احتشد المواطنون أمام السفارات الغربية ومقرات الأمم المتحدة، مطالبين بمحاسبة كيان العدو على ما وصفوه بـ«القرصنة البحرية» بحق قافلة إنسانية. اللافت أن هذه الفعاليات لم تقتصر على الأحزاب السياسية أو الحركات الإسلامية، بل شارك فيها طلاب جامعات، نقابات عمالية، ومنظمات نسوية، في مشهد يعكس وحدة وطنية حول قضية فلسطين. في لاهور، نظمت وقفة تضامنية أمام متحف المدينة، تخللتها عروض فنية وموسيقية تحاكي معاناة أطفال غزة، فيما ألقى شعراء باكستانيون قصائد باللغتين الأردية والإنجليزية تمجّد المقاومة وتدين الصمت الدولي.

 

أما في الهند، فقد شهدت العاصمة نيودلهي تظاهرة رمزية أمام بوابة الهند، شارك فيها ناشطون من مختلف الديانات والخلفيات، رافعين لافتات كتب عليها «غزة تنزف… والضمير العالمي يجب أن يتحرك». في كُلكُتا ومومباي، نظمت فعاليات ثقافية تضمنت عروضًا مسرحية ومعارض صور توثّق تاريخ الحصار الصهيوني، بينما أطلقت مجموعة من المثقفين حملة إلكترونية بعنوان «صوت الهند من أجل غزة»، جمعت آلاف التوقيعات للمطالبة بوقف التعاون العسكري مع كيان العدو.

 

هذه التحركات في جنوب آسيا، رغم بعدها الجغرافي عن فلسطين، تعكس عمق الارتباط الأخلاقي والوجداني بالقضية، وتؤكد أن أسطول الصمود لم يكن مجرد قافلة بحرية، بل شرارة أشعلت الضمير العالمي، من شواطئ المتوسط إلى ضفاف نهر الغانج.

 

تحوّل نوعي في الوعي الغربي

 

ما يُميز هذه الموجة من الاحتجاجات أنها لم تعد تقتصر على رفع الشعارات أو تنظيم الوقفات الرمزية، بل تحولت إلى أدوات ضغط سياسي واقتصادي. تعطيل الموانئ، إغلاق الطرق، تنظيم فعاليات رياضية وثقافية، كلها مؤشرات على أن التضامن مع فلسطين تجاوز مرحلة التعاطف، ودخل مرحلة الفعل. هذا التحول يعكس نضجًا في الوعي الشعبي العالمي، الذي بات يرى في القضية الفلسطينية اختبارًا للعدالة، ومعيارًا للأخلاق السياسية.

 

وهكذا في زمن تتسارع فيه التحولات السياسية وتزداد فيه محاولات إسكات الأصوات الحرة، تبرز فلسطين كقضية لا يمكن إسكاتها وإخفائها. وفلسطين اليوم ليست فقط أرضًا تُحتل، بل مرآة تعكس العالم. وفي هذا السياق، تصبح كل مظاهرة في لندن، وكل إضراب في نابولي، وكل لافتة في برشلونة، وكل نداء في آسيا، جزءًا من معركة كونية من أجل الحرية، والكرامة، والحق في الحياة.

 

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص