بعد دخول الأزمة بين واشنطن وكاراكاس مرحلة جديدة من التوتر

طبول الحرب في الكاريبي.. فنزويلا تتصدى للهيمنة الأميركية

في تطور خطير يعكس تصاعد العدوان الأميركي على فنزويلا، دخلت الأزمة بين واشنطن وكاراكاس مرحلة جديدة من التوتر، مع إغلاق باب الحوار وبدء عمليات عسكرية استفزازية في البحر الكاريبي.

هذا التحول لا يُقرأ فقط كتصعيد عسكري، بل كاختبار صارخ لسيادة فنزويلا، ومحاولة مكشوفة لإعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية في أميركا اللاتينية، ويُعيد طرح الأسئلة حول دوافع واشنطن الحقيقية، وقدرة كاراكاس على الصمود، واحتمالات الانفجار الإقليمي.
إغلاق الدبلوماسية؛ إعلان عدوان لا لبس فيه
قرار إدارة ترامب بوقف مهمة المبعوث الخاص ريتشارد غرينيل، أنهى آخر خيط دبلوماسي بين البلدين، وفتح الباب أمام مواجهة مفتوحة. بالتزامن، نفذت البحرية الأميركية هجمات على قوارب فنزويلية، أسفرت عن مقتل أكثر من عشرين شخصًا، في عملية وصفتها واشنطن بأنها جزء من «نزاع مسلح» ضد كارتلات المخدرات، رغم أن التقارير الرسمية تُظهر أن فنزويلا لا تلعب دورًا جوهريًا في تجارة الكوكايين أو أزمة الفنتانيل.
 شرعنة القتل باسم مكافحة المخدرات
في محاولة لتبرير التصعيد، أبلغت الإدارة الأميركية الكونغرس بأنها تخوض نزاعًا مسلحًا مع جهات غير نظامية، ما يتيح تصنيفهم كمقاتلين غير شرعيين. هذا التعريف يُعد تحولًا خطيرًا، إذ ينقل المواجهة من إطار قانوني يضمن الحقوق الإجرائية إلى إطار عسكري يُبيح القتل كخيار أول. تقارير صحافية كشفت أن وزارة الدفاع الأميركية تُعد خططًا لتوسيع العمليات، تشمل ضربات بطائرات مسيّرة داخل الأراضي الفنزويلية، تستهدف منشآت مزعومة وقادة محليين، في تصعيد ينذر بعواقب وخيمة.
فنزويلا ترد.. استعراض قوة ورسائل ردع
كاراكاس لم تقف مكتوفة الأيدي، بل ردّت بمناورات عسكرية واسعة تحت اسم «درع بوليفار»، في جزيرة «لا أوركيلا» الاستراتيجية. شاركت في المناورات 12 سفينة بحرية، و22 طائرة مقاتلة، و2500 جندي من القوات الخاصة، إضافةً إلى إطلاق صواريخ دفاعية من مصادر صينية وإيرانية، واستخدام أنظمة دفاع جوي سوفياتية. وزير الدفاع الفنزويلي أعلن حالة التأهب القصوى لـ36 ألف جندي، في رسالة واضحة بأن فنزويلا مستعدة للدفاع عن سيادتها مهما كان الثمن.
 تحديات الحصار الاقتصادي
رغم دعوة الرئيس مادورو لتشكيل ميليشيات شعبية، جاءت الاستجابة محدودة، بفعل الأزمة الاقتصادية والعقوبات الأميركية التي أنهكت الشعب. الحضور اقتصر على موظفي القطاع العام وعدد محدود من الأنصار، ما يعكس صعوبة الحشد في ظل الحصار، لكنه لا يُلغي حقيقة أن فنزويلا ما زالت تحتفظ بقدرة تنظيمية وعسكرية تُربك حسابات واشنطن.
كما أن المعارضة تراهن على الانشقاق الداخلي، زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو اعتبرت أن ضعف التعبئة الشعبية يُظهر عزلة النظام، وراحت تراهن على تفكك الجيش، في تكرار لمحاولة زعيم المعارضة خوان غوايدو الفاشلة. تقارير تشير إلى اتصالات بين فريقها ومسؤولين أميركيين، في محاولة لدفع انقلاب داخلي، رغم أن التجربة السابقة أثبتت أن الجيش الفنزويلي لا يخضع للابتزاز الخارجي.
غوايدو.. ورقة محروقة في يد واشنطن
الاستراتيجية الأميركية التي اعتمدت على غوايدو انتهت بفشل ذريع، إذ لم يتمكن من حشد الدعم العسكري، وتفكّكت حكومته المؤقتة، قبل أن يهرب إلى ميامي. هذا الفشل دفع واشنطن إلى تبني نهج أكثر صرامة، يقوم على التهديد المباشر باستخدام القوة، في محاولة يائسة لدفع الجيش إلى التخلي عن مادورو دون تدخل بري شامل.
النفط والذهب في قلب الأطماع الأمريكية
رغم التبريرات الرسمية، تشير بيانات وكالة مكافحة المخدرات الأميركية إلى أن فنزويلا لا تمثل تهديدًا حقيقيًا في تجارة المخدرات. ما يعزز فرضية أن الهدف الحقيقي هو السيطرة على الموارد الطبيعية الهائلة، خصوصًا النفط، الذهب، والكولتان. فنزويلا تمتلك أكبر احتياطي مؤكد للنفط في العالم، بالإضافة إلى مخزونات ضخمة من الذهب ومعادن استراتيجية، كانت قد أمّمتها الثورة البوليفارية ووجّهت عائداتها نحو مشاريع اجتماعية، ما أثار غضب الشركات الأميركية متعددة الجنسيات.
البعد الجيوسياسي.. كبح تمدد الصين وروسيا
التحركات الأميركية تُقرأ كذلك في سياق التنافس الجيوسياسي مع الصين وروسيا، اللتين توسّعتا في أميركا اللاتينية. واشنطن تعتبر فنزويلا جزءًا من «حديقتها الخلفية»، وترفض السماح للخصوم الجيوسياسيين بالتمدد فيها. السيطرة على موارد فنزويلا تعني حرمان الصين وروسيا من أدوات نفوذ مهمة، وهو ما يُفسر هذا التصعيد غير المسبوق.
هذا ويرى بعض المراقبين أن التصعيد يحمل بعدًا شخصيًا، إذ يسعى ترامب إلى «الثأر» بعد فشل استراتيجيته السابقة في إسقاط مادورو، وهو ما اعتبره «إهانة شخصية». هذا البعد الداخلي يُضاف إلى الحسابات الجيوسياسية والاقتصادية، ويجعل من فنزويلا ساحة لتصفية الحسابات.
الغزو الأميركي؛ مقامرة قد تُشعل المنطقة
يُعد خيار الغزو الأميركي المباشر لفنزويلا، سواء عبر إنزال بري أو ضربات جوية واسعة النطاق، أخطر السيناريوهات المطروحة في الأزمة الحالية. فرغم امتلاك واشنطن للقدرة العسكرية الكافية لتنفيذ مثل هذا الهجوم، إلا أن تبعاته ستكون كارثية على المستويين الإقليمي والدولي.
فمن جهة، سيواجه هذا التدخل إدانة واسعة من المجتمع الدولي، بما في ذلك دول أميركا اللاتينية التي تعارض مادورو سياسيًا، لكنها ترفض المساس بسيادة فنزويلا. هذا الرفض قد يُضعف شرعية واشنطن ويُعمّق عزلتها في القارة. ومن جهةٍ أخرى، قد تعتبر كل من الصين وروسيا هذا الغزو تهديدًا مباشرًا لنفوذهما في المنطقة، ما يدفعهما إلى دعم فنزويلا سياسيًا وربما عسكريًا، في تطور يُنذر بتدويل الصراع.
داخليًا، قد يؤدي الغزو إلى انهيار مؤسسات الدولة، ويفتح الباب أمام ظهور جماعات مسلحة، ما يُحوّل البلاد إلى ساحة حرب أهلية مفتوحة. كما أن ملايين الفنزويليين قد يفرّون إلى دول الجوار، ما يُنذر بأزمة إنسانية إقليمية يصعب احتواؤها.
في ضوء هذه التداعيات، يبدو أن خيار الغزو ليس مجرد عمل عسكري، بل مقامرة سياسية قد تُشعل المنطقة بأكملها، وتُعيد رسم ملامح التوازنات الدولية في لحظة حرجة من التاريخ العالمي.
الإعلام.. سلاح الهيمنة والدعاية المضادة
الإدارة الأميركية كثّفت من حملتها الإعلامية لتبرير التصعيد، عبر تصوير فنزويلا كمصدر تهديد أمني، وربطها بكارتلات المخدرات والإرهاب. في المقابل، استخدمت الحكومة الفنزويلية الإعلام الرسمي لتصوير الولايات المتحدة كقوة استعمارية تسعى لنهب ثروات البلاد، وبثّت مشاهد من المناورات العسكرية وخطابات مادورو التي تُحذر من «غزو إمبريالي»، في محاولة لحشد الدعم الشعبي وتعزيز الروح الوطنية.
المجتمع الدولي.. بين الإدانة والتحفظ
الموقف الدولي جاء متباينًا. دول أميركا اللاتينية عبّرت عن قلقها من التصعيد، ودعت إلى حل سياسي يحترم سيادة فنزويلا. الاتحاد الأوروبي عبّر عن دعمه للجهود الأميركية في مكافحة المخدرات، لكنه شدد على ضرورة احترام القانون الدولي. أما الأمم المتحدة، فدعت إلى ضبط النفس وفتح قنوات الحوار، محذرة من أن أي تصعيد قد يؤدي إلى كارثة إنسانية تُهدد الأمن الإقليمي.
سيناريوهات المستقبل
المشهد الفنزويلي يقف على مفترق طرق. السيناريو الأول يتمثل في التهدئة، إذا ما واجهت واشنطن ضغوطًا دولية أو داخلية تُجبرها على فتح نافذة للحوار. السيناريو الثاني هو التصعيد، عبر ضربات جوية داخل الأراضي الفنزويلية، ما قد يُضعف النظام ويُشجع الانشقاقات، لكنه يحمل مخاطر كبيرة. أما السيناريو الثالث فهو الجمود، حيث تستمر المناوشات والضغوط دون حسم، ما يُبقي فنزويلا في حالة طوارئ دائمة، ويُرهق شعبها واقتصادها.
المقاومة خيار الشعوب الحرة
المواجهة بين الولايات المتحدة وفنزويلا ليست مجرد خلاف سياسي، بل هي اختبار لقدرة الدول على حماية سيادتها، ولإرادة الشعوب في مواجهة الهيمنة. وبينما تُقرع طبول الحرب، يبقى الأمل معقودًا على العقلانية، وعلى إدراك أن القوة وحدها لا تصنع السلام. فنزويلا، رغم الحصار والتهديد، تُثبت أنها قادرة على الصمود، وأن الشعوب الحرة لا تُقهر، مهما اشتدت العواصف.
المصدر: الوفاق/ خاص