في كل عام، وتحديداً في يوم تكريم حافظ الشيرازي، تتجدّد الذكرى ويُستعاد المجد الشعري الذي خلّده هذا الشاعر الإيراني العظيم في ذاكرة الأدب العالمي. حافظ ليس مجرد شاعر غزلي، بل هو صوت الحكمة والوجد، ومرآة الروح الإيرانية التي انعكست في أبياتٍ تنبض بالجمال والتأويل. لقد تجاوزت غزلياته حدود الزمان والمكان، وتُرجمت إلى عشرات اللغات، لتصبح جزءاً من التراث الإنساني المشترك، يُقرأ في المحافل الثقافية، وتُستشهد به في الخطاب الفلسفي والديني والأدبي.
تميّز شعر حافظ بقدرته الفريدة على المزج بين البُعد الصوفي والوجداني، وبين التراكيب اللغوية المعقدة التي تفتح أبواباً متعددة للمعنى. فهو شاعر «اللايقين الجميل»، الذي يجعل من كل بيتٍ دعوةً للتأمل، ومن كل كلمةٍ احتمالاً لتفسير جديد. وفي هذا المقال، نسلّط الضوء على أبرز الأساليب التي استخدمها حافظ في خلق التعدد الدلالي داخل نصه الشعري، لنكشف كيف تحوّل الشعر في يديه إلى فنٍّ تأويليٍّ حيّ.
أساليب حافظ في إضفاء التعدد الدلالي
غالباً ما تتميز النصوص الأدبية البارزة، إلى جانب جمالها وقدرتها على إثارة الخيال، بتأثيرها العميق. ومن بين عوامل التأثير وبلاغة التعبير في هذه النصوص، تعدد الأبعاد الدلالية للنص وقابليته للتأويل. في غزليات حافظ، نجد العديد من الأبيات متعددة الأوجه، والتي يمكن تأويلها إلى معنيين أو أكثر.
أظهرت الدراسات أن بعض أساليب حافظ في خلق إمكانيات دلالية وتوليد المعاني تشمل: استخدام الكلمات متعددة المعاني، توظيف الكناية في سياقات دلالية جديدة، إنسياب المعاني المختلفة في البنية العامة للنص بسبب التراكيب النحوية الخاصة، تعليق المعنى نتيجة لتعدد مرجع الضمائر، قابلية تحويل التراكيب الإضافية، والإستخدام المتزامن لأشكال «ياء» الوحدة، النكرة والمصدرية. كما أن التكرار المتعمد لهذه الأساليب في العديد من الأبيات يدل على وعي حافظ وهدفه الفني في توظيف هذه التقنيات.
في الإبداع الأدبي، لا يقتصر الأمر على «ماذا يُقال»، بل يشمل أيضاً «كيف يُقال»، واللغة تلعب دوراً محورياً في كلا الجانبين. فحين تكون اللغة وسيلة للتعبير عن الفكر، فإنها ترتبط بجانب «المضمون»، أما جانب «الأسلوب» فيعتمد على إمكانيات اللغة الصوتية والتركيبية والدلالية. وكلما اتسعت إمكانيات اللغة، زادت فرص إنتاج نصوص أدبية متميزة. وبحسب درجة موهبة الشعراء وعمق تجاربهم، ومدى معرفتهم بالثقافة والدين والتاريخ، تتجلى قدرتهم على اكتشاف واستثمار هذه الإمكانيات اللغوية، مما يؤدي إلى إنتاج أعمال أدبية رفيعة أو حتى تحف خالدة.
لهذا يمكن القول: إن الشعراء الكبار، ومنهم حافظ، بلغوا درجة من «الوعي بالنص»، مكنتهم من استخدام اللغة بذكاء، واستثمار أدواتها الأدبية بشكل فني فريد.
التعدد الدلالي في شعر حافظ
من أبرز سمات شعر حافظ، تعدد الأبعاد الدلالية في أبياته، بحيث يكتشف القارئ معاني جديدة في كل قراءة، مما يجعل النص حياً ومتجدداً. وكما قال الباحث دشتي: «غالباً ما يضع حافظ الكلمات جنباً إلى جنب بطريقة تثير في الذهن مفاهيم خفية، وتخلق إيحاءات موازية للمعنى الظاهر». ورغم أن حافظ ليس أول من استخدم الكلمات متعددة المعاني، فقد سبقه خاقاني في هذا المجال، إلا أن الفرق بينهما يكمن في الأسلوب؛ إذ أن خاقاني ركّز على التناسب اللفظي، بينما حافظ تجاوز ذلك إلى خلق بنية دلالية متعددة الأبعاد، تُعرف بـ «عناقيد الإيحاء»، أي كلمات تستدعي كلمات أو معاني أخرى.
وقد أشار الباحث طهماسبي إلى أن هذا الأسلوب أدى إلى تماسك النص وتعقيده، وجعل من شعر حافظ نموذجاً فريداً في استخدام الإمكانيات اللغوية والدلالية.
تحليل الأساليب الفنية
– إستخدام الكلمات متعددة المعاني: حافظ يوظف كلمات تحمل أكثر من معنى، مما يفتح المجال لتأويلات متعددة. مثلاً، في البيت: «ما در بـیاله عکس رخ یار دیدهایم، إي بي خبر از لذت شُرب مدام ما» أي «رأينا في الكأس صورة وجه الحبيب، يا من تجهل لذة الشرب الدائم»، كلمة «مدام» تحمل معنيين: «الدوام» و«الشراب»، مما يخلق إيحاءً مزدوجاً.
– تعليق المعنى في التراكيب الإضافية والضمائر: كما في البيت: «اكر آن ترك شیرازي به دست آرد دل ما را، به خال هندویش بخشم سمرقند و بخارا را» أي «إن نالت تلك التركية الشيرازية قلبي، أهبها سمرقند وبخارى من أجل شامتها الهندية»، حيث يمكن تفسير «خال هندو» بأكثر من طريقة: نسبية، ملكية، أو تشبيهية.
– إستخدام علامات الترقيم والتوكيد بشكل إبداعي: كما في بيت: «فرض ایزد بكذاریم وبه کس بد نکنیم وآنجه كویند روا نیست نكوییم رواست» أي «لنعتبر أمر الله فرضاً، ولا نؤذي أحداً وما يقولون إنه غير جائز، لا نقول إنه جائز»، ويمكن تفسير الجملة بطرق متعددة حسب التوكيد أو حذف العلامات، مما يخلق طبقات دلالية جديدة.
تجربة روحية وفكرية
إنّ شعر حافظ الشيرازي ليس مجرد بناء لغوي متقن، بل هو تجربة روحية وفكرية تتجاوز حدود المعنى الظاهر، وتغوص في أعماق النفس واللغة. لقد استطاع حافظ، من خلال وعيه العميق بإمكانات اللغة الفارسية، أن يخلق نصوصاً متعددة الطبقات، تُقرأ وتُعاد قراءتها دون أن تفقد بريقها أو قدرتها على الإدهاش.
في يوم تكريمه، لا نحتفي بشاعر فحسب، بل نحتفي بمدرسة فكرية وجمالية، وبنصوصٍ جعلت من الشعر وسيلة لفهم العالم، والتصالح مع الذات، والتأمل في الوجود. حافظ هو شاعر التأويل، وشاعر الحياة، الذي علّمنا أن في كل بيتٍ من الشعر، هناك أكثر من باب، وأكثر من طريق، وأكثر من قلبٍ ينتظر أن يُفتح.