في مشهد يعيد الأذهان الى احتجاجات «السترات الصفراء» التي هزّت فرنسا قبل أعوام، عادت العاصمة باريس لتكون مسرحاً لغضب شعبي عارم، حيث خرج الآلاف إلى الشوارع مطالبين برحيل الرئيس إيمانويل ماكرون، والتنديد بسياساته الداخلية والخارجية، والدعوة إلى انسحاب فرنسا من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). هذه التظاهرات، التي دعا إليها حزب «الوطنيون» بقيادة فليبيو فلوريان، لم تكن مجرد تعبير عن سخط عابر، بل جاءت في سياق أزمة سياسية متفاقمة تعصف بالحكومة الفرنسية، وتطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل الديمقراطية والتمثيل السياسي في الجمهورية الخامسة.
استقالات متتالية وحكومات مؤقتة
منذ إعادة انتخاب ماكرون عام 2022، شهدت فرنسا سلسلة من التغييرات الحكومية المتسارعة، إذ تعاقب على رئاسة الوزراء خمسة رؤساء حكومات في أقل من ثلاث سنوات. آخرهم كان سيباستيان لوكورنو، الذي استقال في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2025 بعد 27 يوماً فقط من توليه المنصب، ليعود ماكرون ويعيد تكليفه مجدداً بعد أربعة أيام، في خطوة أثارت استياءً واسعاً في الأوساط السياسية والشعبية، واعتُبرت دليلاً على عمق الأزمة البنيوية التي تعاني منها السلطة التنفيذية.
هذا التذبذب في القيادة الحكومية لم يكن مجرد خلل إداري، بل عكس حالة من الانسداد السياسي، إذ باتت الحكومات تُعيَّن لفترات قصيرة فقط لتمرير الميزانيات أو تنفيذ سياسات تقشفية لا تحظى بقبول شعبي، دون أن تمتلك رؤية استراتيجية أو قاعدة دعم برلمانية مستقرة. وهو ما دفع زعيم حزب «الوطنيون» إلى وصف الوضع بأنه «خارج عن إطار الديمقراطية»، مؤكداً أن فرنسا تعيش في حالة من الفوضى السياسية.
خلل بنيوي في النظام السياسي
إن إعادة تعيين رئيس وزراء مستقيل، رغم إعلانه عدم رغبته في العودة، يعكس غياب البدائل السياسية الفاعلة، ويطرح تساؤلات حول آليات اتخاذ القرار داخل السلطة التنفيذية. هذا المشهد لا يُقرأ فقط كارتباك حكومي، بل كعلامة على خلل بنيوي في النظام السياسي، إذ لم تعد المؤسسات قادرة على إنتاج حكومات مستقرة أو قرارات تحظى بشرعية شعبية.
الانتخابات التشريعية لعام 2024 أفرزت برلماناً منقسماً، ما جعل تشكيل الحكومات أمراً هشاً، وأدى إلى تآكل الثقة بين الشعب والمؤسسات. في ظل هذه الظروف، تبرز دعوات لإعادة النظر في دستور الجمهورية الخامسة، وربما التفكير في صياغة دستور جديد لجمهورية سادسة، يعيد التوازن بين السلطات، ويمنح البرلمان دوراً أقوى، ويحد من تركّز السلطة في يد رئيس الجمهورية.
التقشف وقود للغضب
من أبرز دوافع الاحتجاجات الأخيرة السياسات الاقتصادية التي تنتهجها حكومة ماكرون، والتي يصفها المعارضون بأنها «تقشفية» و«منحازة للأثرياء». فقد شهدت فرنسا في السنوات الأخيرة تقليصاً في الإنفاق العام، ورفعاً تدريجياً لسن التقاعد، وتجميداً للأجور في القطاع العام، إلى جانب خصخصة بعض الخدمات العامة. هذه الإجراءات، التي بررتها الحكومة بالحاجة إلى تقليص العجز في الميزانية، أثارت موجة من الغضب الشعبي، خصوصاً في الأوساط العمالية والطبقات المتوسطة
الاحتجاجات الأخيرة جاءت امتداداً لتحركات سابقة ضد إصلاحات التقاعد، وضد قانون العمل، وضد ارتفاع تكاليف المعيشة. لكنها هذه المرة اتخذت طابعاً أكثر راديكالية، حيث لم تقتصر المطالب على تحسين الأوضاع الاقتصادية، بل تجاوزتها إلى المطالبة برحيل الرئيس نفسه، والخروج من الاتحاد الأوروبي والناتو، في تعبير عن فقدان الثقة الكامل بالمؤسسات السياسية القائمة
مطالبات بالخروج من الاتحاد الأوروبي والناتو
من الشعارات اللافتة التي رُفعت في التظاهرات الأخيرة، تلك التي تطالب بخروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. هذا المطلب، الذي كان يُنظر إليه سابقاً كأطروحة هامشية تتبناها الأحزاب اليمينية المتطرفة، بات اليوم يحظى بتأييد متزايد في الشارع الفرنسي، خصوصاً في ظل شعور متنامٍ بأن السيادة الوطنية باتت مرتهنة لقرارات تُتخذ في بروكسل أو واشنطن.
فلوريان، زعيم حزب «الوطنيون»، عبّر عن هذا الشعور بقوله إن «فرنسا فقدت سيادتها لصالح مؤسسات خارجية»، محذراً من أن استمرار الانتماء للاتحاد الأوروبي سيقود البلاد إلى «المزيد من الرقابة والتحكم والحروب والفقر». هذه التصريحات تعكس تحوّلاً في المزاج العام، حيث لم تعد المسائل السيادية مقتصرة على النخب السياسية، بل أصبحت جزءاً من الخطاب الشعبي، خصوصاً في ظل الأزمات المتلاحقة التي تواجهها أوروبا، من أزمة الطاقة إلى الحرب في أوكرانيا، إلى تداعيات جائحة كورونا.
المعارضة؛ بين العجز والانقسام
رغم الزخم الشعبي الذي حظيت به التظاهرات، إلا أن المعارضة السياسية التقليدية بدت عاجزة عن استثمار هذا الغضب الشعبي، بسبب انقساماتها الداخلية، وتراجع شعبيتها، وفقدانها للثقة العامة. الأحزاب اليسارية، مثل الحزب الاشتراكي وحزب فرنسا الأبية، لم تتمكن من تشكيل جبهة موحدة، بينما تركز اليمين المتطرف، ممثلاً في حزب «التجمع الوطني»، على استثمار الخطاب السيادي دون تقديم بدائل اقتصادية مقنعة.
هذا الفراغ السياسي أتاح المجال أمام قوى جديدة، مثل حزب «الوطنيون»، لاحتلال موقع متقدم في المشهد الاحتجاجي، مستفيدة من خطابها الشعبوي، وقدرتها على مخاطبة مشاعر الغضب والإحباط لدى فئات واسعة من الشعب الفرنسي.
دعوات لإجراء انتخابات مبكرة
التظاهرات الأخيرة، وما رافقها من شعارات تطالب باستقالة الرئيس، تعكس أزمة شرعية حقيقية تعاني منها السلطة التنفيذية في فرنسا. فالرئيس ماكرون، الذي أعيد انتخابه بنسبة مشاركة متدنية، يواجه اليوم تحدياً غير مسبوق، يتمثل في فقدان الثقة الشعبية، وتآكل الدعم البرلماني، وتصاعد الدعوات لحل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات مبكرة.
هذا الوضع يضع فرنسا أمام مفترق طرق حاسم: إما الاستجابة للمطالب الشعبية عبر إصلاحات سياسية واقتصادية جذرية، أو المضي في سياسات التجاهل والقمع، ما قد يؤدي إلى انفجار اجتماعي واسع، يعيد إلى الأذهان أحداث مايو/ أيار 1968، أو احتجاجات السترات الصفراء.
تغطية إعلامية اتسمت بالحذر والتجاهل
من الملاحظ أن التغطية الإعلامية للتظاهرات الأخيرة اتسمت بالحذر، بل والتجاهل أحياناً، خصوصاً من قبل وسائل الإعلام الرسمية أو القريبة من الحكومة. هذا التجاهل زاد من حدة الاحتقان، وأدى إلى اتساع الفجوة بين الشارع والمؤسسات الإعلامية، التي يُنظر إليها على أنها جزء من «المنظومة» التي تحمي السلطة وتبرر سياساتها.
في المقابل، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في تنظيم التظاهرات، ونقل صورها وشعاراتها، وتوثيق الانتهاكات التي تعرض لها بعض المتظاهرين. وقد انتشرت مقاطع فيديو تُظهر استخدام الشرطة للغاز المسيل للدموع، واعتقال عدد من المشاركين، ما أثار موجة من التضامن والغضب، وساهم في توسيع رقعة الاحتجاجات.
السياق الأوروبي لا يختلف
ما يجري في فرنسا لا يمكن فصله عن السياق الأوروبي الأوسع، إذ تواجه دول الاتحاد تحديات متشابهة، من تصاعد اليمين الشعبوي، إلى أزمة الثقة بالمؤسسات، إلى التوترات الاجتماعية الناتجة عن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية. التظاهرات في باريس قد تكون مؤشراً على موجة أوسع من الغضب الشعبي في أوروبا، خصوصاً إذا ما استمرت الأزمات الاقتصادية، وتعمقت الفجوة بين النخب السياسية والشعوب.
خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي أو الناتو، رغم أنه لا يزال احتمالاً ، إلا أن مجرد طرحه في الشارع يعكس تحولاً عميقاً في المزاج العام، ويشكل تحدياً كبيراً لمشروع التكامل الأوروبي، الذي يواجه اليوم اختباراً وجودياً.
ماكرون يواجه اختباراً عسيراً
ما تشهده فرنسا اليوم ليس مجرد موجة احتجاجات عابرة، بل هو تعبير عميق عن أزمة ثقة متجذرة بين الشعب ومؤسساته السياسية. التظاهرات التي اجتاحت باريس، بشعاراتها الجريئة ومطالبها الراديكالية، تكشف عن تحوّل نوعي في المزاج العام، إذ لم يعد المواطن الفرنسي يكتفي بالمطالبة بإصلاحات جزئية، بل بات يطالب بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والسيادة، وبين الديمقراطية والتمثيل الحقيقي.
الرئيس ماكرون، الذي لطالما قدّم نفسه كرمز للحداثة الأوروبية، يواجه اليوم اختباراً عسيراً، لا يتعلق فقط بقدرته على إدارة الأزمات، بل بقدرته على استعادة الشرعية السياسية، وإعادة بناء جسور الثقة مع الشعب. وإذا لم تُستثمر هذه اللحظة التاريخية في مراجعة جذرية للمسار السياسي والاقتصادي، فقد تجد فرنسا نفسها أمام منعطف خطير، يهدد ليس فقط استقرارها الداخلي، بل موقعها في أوروبا والعالم.