حين تُمنح الجائزة لمن يروّج للحرب

نوبل للسلام.. هل فقدت بوصلتها الأخلاقية؟

الوفاق/ شن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو هجومًا لاذعًا على زعيمة المعارضة، التي مُنحت مؤخرًا جائزة نوبل للسلام، واصفًا إياها بـ«الساحرة الشيطانية».

منذ أن وضع ألفريد نوبل أسس جائزته للسلام، محددًا أن تُمنح لمن يسهم في تعزيز الأخوة بين الشعوب ونزع السلاح، ظلت الجائزة تُقدَّم بوصفها تتويجًا للجهود الإنسانية في إنهاء النزاعات وتعزيز التعاون الدولي. غير أن مسارها عبر العقود كشف عن تحولات عميقة، إذ باتت في كثير من الأحيان تُمنح لشخصيات مثيرة للجدل، وتُستبعد أخرى رغم أدوارها المحورية في الوساطة أو المقاومة، مما يطرح تساؤلات متجددة حول حياديتها ومصداقيتها.

 

في عام 2025، اختارت لجنة نوبل زعيمة المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو لتكون الفائزة، معتبرة أنها «رمز لصراع أوسع ضد الاستبداد». لكن هذا الاختيار لم يمر دون ضجيج، إذ أثار موجة من الانتقادات الحادة، خاصةً في الأوساط المناهضة للاحتلال الصهيوني، نظرًا لمواقف ماتشادو الداعمة لتل أبيب، وتصريحاتها السابقة التي دعت فيها إلى تدخل عسكري خارجي في فنزويلا.

 

وما زاد من حدة الجدل، أن اسم الرئيس الأميركي دونالد ترامب طُرح كمرشح للجائزة، بترشيح مباشر من رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، في مشهد اعتبره كثيرون من أكبر مهازل العصر الحديث، بل من أكثر لحظات التاريخ الإنساني عبثًا. ورغم أن ترامب لم يفز، فإن منح الجائزة لماتشادو، التي تتبنى مواقف سياسية متماهية مع اليمين الغربي، أعاد فتح ملف الجائزة بوصفها أداة هندسة سياسية أكثر منها تكريمًا للنضال.

 

تبرير لجنة نوبل بأن «المستبدين حين يستولون على السلطة يجب تكريم من يقاومهم»، بدا هشًا أمام واقع أن ماتشادو، رغم كونها معارضة، تعيش في بيتها داخل فنزويلا، ولم تُخطف أو تُخفَ أو تُقتل، كما هو حال عشرات المعارضين في دول مختلفة في العالم الذين يقبعون في السجون أو فُقد أثرهم منذ سنوات. فإذا كانت الجائزة تُمنح تقديرًا للشجاعة، فإن أولئك المفقودين والمعتقلين أولى بهذا التكريم، لو أن المانحين أنصفوا.

 

هذا التحيّز يعيد إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا: هل ما زالت نوبل للسلام وفية لوصية مؤسسها؟ أم أنها تحوّلت إلى مرآة تعكس توازنات القوى الدولية، وتُستخدم لتلميع وجوه تتقاطع مع مصالح الغرب؟

 

في هذا السياق، يبرز اسم ماتشادو ليس فقط كمعارضة لبلدها فنزويلا، بل كشخصية ذات ارتباطات أيديولوجية واضحة، وداعمة صريحة لكيان العدو الصهيوني، ومطالبة بتدخلات عسكرية خارجية. فهل باتت الجائزة تُمنح لمن يروّج لخطاب القوة، لا لمن يُجسّد قيم السلام؟ وهل يمكن بعد اليوم اعتبار نوبل للسلام جائزة أخلاقية، أم أنها أصبحت أداة اصطفاف سياسي بامتياز.

 

 معارضة بنكهة تدخّلية وصهيونية

 

لم يكن فوز ماريا كورينا ماتشادو بجائزة نوبل للسلام بعيدًا عن رمزيتها السياسية، بل جاء تتويجًا لمسار طويل من الاصطفاف الأيديولوجي الذي تجاوز حدود المعارضة الداخلية إلى تبنّي خطاب خارجي يتقاطع مع مصالح العدو الصهيوني واليمين الغربي.

 

منذ عام 2018، بدأت ماتشادو تكشف عن توجهاتها الحقيقية حين دعت رئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو إلى التدخل لدى مجلس الأمن الدولي لدعم خيار التدخل العسكري في فنزويلا، معتبرةً أن إسقاط النظام القائم يتطلب دعمًا خارجيًا حاسمًا. هذا التصريح لم يكن مجرد موقف سياسي، بل إعلان صريح عن استعدادها لتدويل الأزمة الداخلية، حتى لو كان الثمن هو فتح الباب أمام تدخلات أجنبية.

 

وفي مناسبات لاحقة، أكدت أنها في حال توليها الحكم ستعيد العلاقات الدبلوماسية مع كيان العدو، الذي كانت فنزويلا قد قاطعته عام 2009 احتجاجًا على الحرب الصهيونية على قطاع غزة. هذا التعهد لم يكن خطوة دبلوماسية فحسب، بل جزء من رؤية سياسية ترى في كيان العدو حليفًا استراتيجيًا، وفي خطابه الأمني نموذجًا يُحتذى.

 

وفي رسالة مصوّرة عام 2019، بمناسبة الذكرى الـ71 لتأسيس دولة الاحتلال، عبّرت ماتشادو عن دعمها الكامل لكيان العدو، وذهبت إلى حد تشبيه ما يجري في فلسطين بـ«نضال من أجل الحرية والديمقراطية يشبه معركة فنزويلا ضد الاستبداد». هذا التشبيه أثار استياء واسعًا، واعتُبر تبريرًا ضمنيًا لانتهاكات كيان العدو الصهيوني بحق الفلسطينيين، وتطبيعًا سياسيًا مع خطاب القوة والهيمنة.

 

وفي عام 2020، وقّعت اتفاقية تعاون مع حزب «الليكود» الصهيوني، تناولت مجالات الشؤون السياسية والأيديولوجية والاجتماعية والأمنية. وخلال الحرب الصهيونية على غزة، أعلنت مواقف داعمة لبنيامين نتنياهو، متعهدة بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع كيان العدو في حال فوزها بالرئاسة. وفي السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، اصطفت علنًا إلى جانب كيان العدو، وكتبت على منصة «إكس» منشورًا أعلنت فيه «تضامنها الكامل مع الكيان »، ورفضها لما وصفته بـ«هجمات حماس الإرهابية»، مؤكدة انضمامها إلى «النداء العالمي لمحاربة الإرهاب أينما كان».

 

هذه المواقف، أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط المناهضة للاحتلال، واعتُبرت اصطفافًا سياسيًا واضحًا إلى جانب دولة تُوجَّه إليها اتهامات متكررة بارتكاب جرائم حرب، وانتهاكات ممنهجة ضد المدنيين الفلسطينيين.

 

الجائزة كأداة سياسية

 

 

منح الجائزة لماتشادو لا يمكن فصله عن السياق الجيوسياسي الذي تعيشه أميركا اللاتينية. فالمعارضة الفنزويلية، رغم تنوعها، باتت تُقدَّم في الإعلام الغربي بوصفها «البديل الديمقراطي»، حتى لو كانت بعض رموزها تتبنى خطابًا تدخليًا أو تصطف مع قوى خارجية.

 

في هذا السياق، تبدو جائزة نوبل وكأنها تُستخدم لتكريس سردية معينة: أن الديمقراطية لا تتحقق إلا عبر دعم الغرب، وأن من يعارض الأنظمة المتوافقة مع المصالح الغربية لا يستحق التكريم.

 

 

ماتشادو؛ المفارقة الصارخة

 

في حالة ماتشادو، المفارقة صارخة. فهي تُكرَّم بوصفها «رمزًا للديمقراطية»، رغم أنها دعت لتدخل عسكري خارجي، واصطفت مع دولة تُوجَّه إليها اتهامات متكررة بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد الشعب الفلسطيني.

 

فهل يُكافأ من يُبرّر الاحتلال؟ وهل يُعتبر دعم كيان العدو معيارًا للحرية؟ وهل الجائزة باتت تُمنح لمن يُجيد الترويج لقيم الغرب، لا لمن يُحقق السلام فعليًا؟

 

فهناك آلاف المناضلين الذين لم يُكرّموا رغم تضحياتهم. مناضلون في السجون، في المنافي، يُواجهون القمع يوميًا، دون أن تُسلط عليهم الأضواء، تجاهل هؤلاء يُعد خيانة لمبادئ الجائزة، ويُظهر أن نوبل للسلام لا تُمنح لمن يستحقها، بل لمن يُسوّق له.

 

مادورو يهاجم الفائزة بنوبل

 

هذا وقد شن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو هجومًا لاذعًا على زعيمة المعارضة، التي مُنحت مؤخرًا جائزة نوبل للسلام، واصفًا إياها بـ«الساحرة الشيطانية».

 

مادورو استحضر شخصية «لاسايونا» من التراث الشعبي الفنزويلي، وهي امرأة تحولت إلى روح شريرة تسعى للانتقام، في تشبيه اعتبره كثيرون تعبيرًا عن رفضه العميق لمواقف المعارضة، خاصةً تلك التي دعت إلى تدخل خارجي في الشأن الفنزويلي.

 

لجنة نوبل… بين المثال الأخلاقي والتوجيه السياسي

 

اللجنة النرويجية، المكوّنة من خمسة أعضاء يعيّنهم البرلمان، تُقدَّم بوصفها مستقلة، لكنها تخضع لتأثيرات سياسية غير مباشرة. في السنوات الأخيرة، بدا أن اللجنة تميل إلى تكريم شخصيات أو منظمات تتبنى خطابًا متوافقًا مع السياسات الغربية، حتى لو كانت تلك الشخصيات مثيرة للجدل أو غير مؤهلة وفق المعايير الأصلية للجائزة.

 

في حالة ماتشادو، يبدو أن اللجنة اختارت تكريم رمز سياسي لا يتقاطع مع مصالح الغرب، أكثر من تكريم نضال فعلي من أجل السلام. هذا التوجه يُظهر أن الجائزة لم تعد تحتكم إلى الإنجاز بقدر ما تخضع للتوجهات الأيديولوجية.

 

هذا وقد بلغ عدد المرشحين لجائزة نوبل للسلام عام 2025 أكثر من 338 فردًا ومنظمة، لكن أسماء المرشحين تبقى سرية لمدة خمسين عامًا، ما يُصعّب تقييم حيادية اللجنة.

 

هذه السرية، رغم أنها تهدف إلى حماية استقلالية القرار، تُستخدم أحيانًا لتبرير استبعاد شخصيات مثيرة للجدل، أو لتجنب مساءلة اللجنة عن خياراتها. فهل اختيرت ماتشادو لأنها الأفضل؟ أم لأنها الأكثر توافقًا مع سردية الغرب؟

 

هل يمكن إصلاح الجائزة؟

 

في عام 2025، لم تكن جائزة نوبل للسلام مجرد تكريم، بل كانت مرآة تعكس التناقضات السياسية والأخلاقية في العالم المعاصر. فبينما يُكرَّم من يتبنى خطابًا متوافقًا مع الغرب، يُستبعد من يُثير الجدل، حتى لو كانت أفعاله تصب في اتجاه السلام.

 

ماتشادو، رغم كل ما يُقال عنها، ليست نموذجًا للسلام. بل هي مثال على كيف يمكن للجائزة أن تُستخدم لتكريس سردية سياسية، لا لتكريم نضال فعلي. وبينما تواصل اللجنة النرويجية تقديم نفسها بوصفها مستقلة، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن إصلاح الجائزة؟ وهل يمكن إعادة تعريف «السلام» الحقیقي بعيدًا عن التوظيف السياسي؟

 

المصدر: الوفاق/ خاص